الخنزير البري بأطلس أزيلال-بني ملال: أسباب ومخاطر تكاثره والحلول الإيكولوجية لتنظيم ساكنته

  -عبد الرزاق العلامي* 

منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، وساكنة الخنزير البري بجبال الأطلس الكبير الأوسط في تزايد مستمر. وبالموازاة مع هذا التزايد ارتفعت المشاكل والمخاطر التي يتسبب فيها هذا الحيوان، وخاصة الإضرار بالأراضي الزراعية من جهة، وتزايد هجوماته على السكان من جهة أخرى.

وفي إطار مشروع علمي حول التنوع البيولوجي بالمنطقة، قمنا كفريق بحث بدراسة حول أسباب تزايد ساكنة الخنزير البري وتأثيره على البيئة وعلى الإنسان، وقد استمر جمع المعطيات في الفترة ما بين 2006 و2019. ونشرت نتائج هذه الدراسة سنة 2019 في المجلة الأمريكية للبحوث المبتكرة والعلوم التطبيقية في العدد الأول من المجلد الثامن. وقد لاقت نتائج الدراسة تداولا كبيرا من طرف الباحثين لكونها تؤكد على أهمية الحلول الإيكولوجية لتنظيم ساكنة هذا الحيوان بدل القنص والإحاشة.

وسنعرض في هذا المقال أهم نتائجها وخلاصاتها اعتمادا على المعاينة الميدانية وعلى تحليل أبحاث علمية أخرى لباحثين من مختلف أنحاء العالم.

الخنزير البري كمكون أساس للتنوع البيولوجي

يلعب الخنزير البري بأعداد طبيعية، أدوارا إيكولوجية مهمة، فهو يساهم بشكل كبير في تجدد الغابات والحفاظ على سلامتها، كما أنه من بين الكائنات الرئيسية التي تقوم بنثر بذور أنواع نباتية عدة والمساهمة في انتشارها ونموها في أماكن جديدة. وهو بذلك يسرع عملية تجديد الغابات وتمددها، كما يعتبر هذا الحيوان، المفترس الرئيسي لعدد كبير من الحشرات الضارة بالنباتات، والتي في غيابه يمكن أن تتكاثر وتقوم بإتلاف النباتات، وبالتالي يمكن أن تسبب تراجعا للغابات.

 كما يلعب الخنزير دورا مهما في تهوية الغابات وتمكين أشعة الشمس من الوصول إلى الشجيرات التي تقوم بتعويض الأشجار التي تموت بشكل طبيعي أو بتأثير البشر. ويعتبر هذا النوع كذلك ذا فائدة كبيرة للتربة فهو يقوم بتهويتها أثناء حفره لها بحثا عن جذور النباتات التي تشكل مصدرا رئيسيا للتغذية لديه. إضافة إلى هذا كله، فالخنزير البري هو حلقة مهمة في السلسلة الغذائية للأوساط البيئية التي يعيش فيها. فهو يعتبر مفترسا للعديد من الطيور والحشرات والزواحف والثدييات الصغيرة وغيرها، كما يشكل فريسة للعديد من الحيوانات، وخاصة المفترسة كالفهد والضبع وابن آوى والذئب والثعلب، لكن للخنازير البرية بأعداد كبيرة تأثيرات سلبية على النظم البيئية الطبيعية والنباتات المزروعة، كما يعتبر أيضا ناقلا للعديد من الأمراض المعدية والطفيلية التي لها تأثير كبير على الصحة العامة. من هنا تأتي الحاجة إلى إيجاد حلول للحفاظ على هذا النوع بأعداد طبيعية.

تزايد ساكنة الخنزير البري وأسبابها

ازدادت أعداد الخنازير البرية بشكل مطرد في جميع مناطق تواجده في العالم خلال العقود الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، فقد سجل الباحثون ظهور هذا الحيوان في أماكن جديدة خاصة في شمال أوروبا. وفي المغرب، يمتد نطاق تواجده من الريف إلى الأطلس الصغير. وفي الأطلس الكبير الأوسط ازدادت أعداده بشكل كبير في السنوات الأخيرة، كما توسع نطاق تواجده إذ أصبح اليوم يعيش في أغلب غابات المنطقة وبالقرب من القرى المنتشرة في الدير الشمالي لهذه الجبال.

وقد خلصت الدراسة التي أشرنا إليها سابقا، إلى أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية مسؤولة عن ازدياد أعداد الخنازير البرية في منطقة أطلس أزيلال-بني ملال. أولها هو حماية الخنازير البرية بموجب القانون في المغرب، إذ يعتبر غير قانونيا قتل الخنازير البرية خارج موسم القنص والإحاشة، وبالتالي فإن الضغط من أجل القنص القانوني أو غير القانوني للخنازير البرية منخفض جدا في هذه المنطقة، إضافة إلى ذلك فإن القنص يستهدف بشكل أساسي الأفراد البالغين من هذا الحيوان، وخاصة الذكور، وبالتالي تستمر ساكنته في النمو نظرا لأن الأفراد الصغار يشكلون خزانا كبيرا قادرا على تعويض الأفراد البالغين الذين يتم قتلهم أثناء القنص.

أما العامل الثاني، فهو مرتبط بانقراض وتدهور ساكنة المفترسين الطبيعيين الرئيسيين له، ولا سيما الفهد، والذئب الذهبي وابن آوى، والضبع المخطط، والثعلب في هذه المنطقة منذ نهاية القرن العشرين. ويبقى العامل الثالث المسؤول عن تكاثر الخنازير البرية ذا صلة بالقدرة العالية على التكيف لهذا النوع المرتبطة بالتنظيم الاجتماعي والنظام الغذائي ونمط التوالد. وتتميز هذه الفصيلة بخصوبة عالية وسن مبكرة للتكاثر وحجم كبير، ومتوسط ​​العمر المتوقع مرتفع، ونظام غذائي قائم على التهام كل شيء، كما أنها تتميز بفترة حمل قصيرة جدا وبحياة اجتماعية هامة ومعقدة.

أسباب الهجوم على الأراضي الزراعية

 إن العامل الرئيسي المسؤول عن الهجوم على الحقول والمزروعات، يرتبط بتدهور بيئتها الطبيعية وبازدياد أعدادها، فكما أكدنا سابقا فهناك عوامل عدة، إيجابية لتكاثر الخنزير، وبالتالي، فإن البحث عن أراضي جديدة وعن مصادر جديدة للغذاء أمر طبيعي لدى الحيوانات، إضافة إلى ازدياد أعدادها، فإن نقص الغذاء والماء في أوساطها الطبيعية قد يفسر الأضرار المتزايد الذي يسببها الخنزير في الأراضي المزروعة، وبالقرب من القرى وأحيانا المدن.

فقد تعرضت موائل الخنازير البرية لضغط بشري قوي خلال السنوات الأخيرة، بسبب الرعي الجائر وقطع الأشجار والإفراط في استخدام المنتجات الغابوية الأخرى، وتحويل الأراضي البرية إلى حقول مزروعة. ففي منطقة الدراسة، يتكون موطن الخنازير البرية بشكل أساسي من غابات البلوط الأخضر والصنوبر والعرعار والخروب وغيرها، وعدد كبير من الشجيرات والأنواع النباتية العشبية. يتميز أطلس أزيلال-بني ملال بتنوع كبير لمصادر التغذية للخنزير وبتوزيعها حسب فصول السنة بشكل أفضل. لكن ضغط الإنسان على الطبيعة واستغلالها بإفراط أدى إلى تراجع هذه الموائل، وخاصة الغابات التي تتناقص مساحتها من يوم لآخر والتنوع البيولوجي الذي فقد جزء منه والجزء الآخر مهدد بالانقراض. فكان من نتائج تدمير الموائل الطبيعية انخفاض أهم مصادر التغذية للخنازير، وخاصة بعض النباتات التي تشكل قسما مهما من نظامه الغذائي، نتيجة لذلك تغامر الخنازير البرية بشكل متزايد في الأراضي المزروعة والحقول بحثا عن الطعام وعن مصادر جديدة للتغذية.

ازدياد حالات اعتداء الخنازير على البشر

سلطت هذه الدراسة أيضا الضوء على مشكلة جديدة مرتبطة بالخنازير البرية في أطلس أزيلال- بني ملال وهي ازدياد عدد الهجمات على السكان، ففي الفترة ما بين عامي 2014 و 2018، أحصينا ما مجموعه 59 حالة اعتداء على السكان من قبل الخنازير البرية تسببت في إصابات بعضها بالغ الخطورة. وقد قتلت امرأة بسبب هجوم لخنزير بري بإقليم أزيلال، كما قتل أو جرح العشرات من السكان في مناطق أخرى في المغرب خلال نفس الفترة. وأشارت أبحاث عديدة إلى هذه المشكلة في عدة مناطق من العالم وتحديدا في أوروبا.

 وبشكل عام، تعتبر الحيوانات آكلة اللحوم هي التي تهاجم البشر مسببة العدد الأكبر من الإصابات الخطيرة والوفيات حول العالم. ويمكن تفسير عدوانية الخنازير البرية باستخدام طرق غير ملائمة للسيطرة عليها. في غالبية الهجمات المبلغ عنها في المغرب، فالخنازير البرية التي تهاجم السكان تعيش في المناطق التي تنظم فيها الجهات المعنية القنص القانوني والإحاشة الراميان لتنظيم أعدادها، وفي كثير من الحالات، يتم تنظيم عمليات القنص والإحاشة دون تنبيه جميع السكان المحليين الذين يعيشون بالقرب من الأماكن المستهدفة، ونتيجة لذلك، تهاجم الخنازير المطاردة، وخاصة الجريحة منها أي شخص تصادفه في طريقها، إضافة إلى ذلك، فالسلوكات العنيفة اتجاه البشر يمكن أن تترسخ وتنتقل من جيل لآخر لدى العديد من الحيوانات الثديية.

الحلول الإيكولوجية لتنظيم ساكنة الخنزير البري

بين تحليل معطيات الدراسة الميدانية، ونتائج أبحاث عديدة حول الخنزير البري في مناطق عدة في العالم، بأن عمليات القنص والإحاشة التي يتم إجراؤها ليست أفضل الطرق لتنظيم تكاثره. فقد أوضحت دراسات عديدة بأن هناك استمرار في تزايد أعداد هذا الحيوان في جل المناطق التي يمارس فيها القنص والإحاشة، كما تأكد للعلماء الآن بأن العامل الأساسي الذي يؤثر على ساكنة الخنزير هو خصائص التوالد وفرصة بقاء ونمو الأفراد الصغار. فقتل الأفراد البالغين لا يؤثر على تكاثر الساكنة ما دام هناك عددا كبيرا من المواليد والصغار يتمكنون من النمو ليصيروا بالغين.

 من جهة أخرى، فقد بينت أبحاث عدة، بأن القنص الذي يمارس على الحيوانات يولد ضغطا انتقائيا على سن البلوغ عند الإناث، والذي يكون مبكرا في المناطق ذات ضغط القنص المرتفع مقارنة بالمناطق ذات ضغط القنص المنخفض، كما يمكن للخنازير أن تتكيف مع تأثير القنص من خلال مغادرة أراضيها خلال موسم القنص وبالتالي فهي تتجنب اصطيادها. إضافة إلى هذا فالقنص يشكل عامل انتقاء إيجابي لصالح ساكنة الخنزير ويساهم في تقويتها وصحتها. فأثناء القنص والإحاشة يتم أساسا قتل الخنازير التي لا تتكيف بشكل كاف مع الوسط كالخنازير المصابة بمرض ما أو التي لا تمتلك صفات تمكنها من النجاة أثناء القنص، في حين تنجوا الخنازير القوية وتتكاثر لتلد صغارا أقوياء ومتكيفين بشكل جيد مع الوسط مما يسمح للساكنة بالنمو والتزايد.

وقد خلصت الدراسة إلى أن عمليات القنص والإحاشة يجب أن تتم في إطار استراتيجية عامة لصون التنوع البيولوجي والأوساط البيئية، وبالتعاون مع السكان المحليين مع القيام بإخبار جميع القاطنين أو الذين يشتغلون داخل المناطق المستهدفة، كما أكدت أيضا بأن ازدياد ساكنة الخنزير وكل المشاكل المرتبطة به هو مؤشر مهم على فقدان التنوع البيولوجي. فمع بداية النصف الثاني من القرن العشرين ازداد عدد السكان بهذه المناطق وتزايد معه الضغط على الغابات والموارد الطبيعية، فانقرضت بعض الأنواع الحيوانية وتراجعت أعداد بعضها الآخر. وتعتبر الحيوانات المفترسة الأكثر تضررا فقد انقرض الأسد البربري والفهد وتراجعت أعداد المفترسين الآخرين بالمنطقة، كما أن استغلال البشر للغابات تسبب في تراجع الأنواع النباتية التي تشكل المصدر الرئيسي للتغذية للخنازير، لذا فإن العمل على برامج ترمي إلى حماية الأوساط الطبيعية وخاصة الغابات وإلى حماية التنوع البيولوجي، ولا سيما الذئب الذهبي وابن آوى والضبع المخطط والثعلب والزريقاء والقط البري والنسر الأسمر والنسر الملتحي والعقاب الذهبي، بإمكانه أن يكون الحل الأمثل لمشاكل الخنزير. كما تطرح الدراسة إمكانية إعادة إدخال بعض الحيوانات المفترسة للخنازير البرية في بعض المناطق المحمية من أطلس أزيلال، كما هو الحال في محمية تزركونت. فهناك حاجة ملحة لبدء برامج للإدارة المستدامة للتنوع البيولوجي والموارد الطبيعية في المنطقة، مع مراعاة جميع العوامل البيئية والبشرية التي تؤثر على التوازنات البيئية. أخيرا من المهم جدا إشراك السكان المحليين في صياغة وأجرأة جميع البرامج المتعلقة بالشأن البيئي بالمنطقة مع التأكيد على البرامج التنموية التي يمكن أن توفر فرصا للشغل للسكان بدل اعتمادهم على الموارد الطبيعية لعيشهم كالسياحة البيئية والجيولوجية والجبلية وزراعة بعض النباتات الطبية والعطرية، وتثمين المنتوجات المحلية.

*عبد الرزاق العلامي: دكتور في علم البيئة وباحث حول التنوع البيولوجي وعضو في الإتحاد العالمي لحماية الطبيعة

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...