دراسةٌ في رواية “الزّمنِ المُوحش” لِحيدر حيدر(15) وضعُ السّارد في الخطاب الروائي

-ملفات تادلة 24-

إنّ أيّ تحليل وصفيّ تداوليّ لآليات اشتغال السّرد لا يمكن أن يتمّ، إلا ضمن إطارٍ نظريّ ومفهومي واضح ومحدد، لذلك ينبغي “موضعةُ السردِ ضمنَ أفق الخطاب(لا النّص)، ليَستجيب في المقام الأوّل لاعتباراتٍ منهجيةٍ وإجرائية صرفة، تستمدُّ مشروعيتَها منْ واقع كونِ السرد مكوّنا ديناميا، لا تتحدّدُ تشكلّاتُه إلّا في سياق الرؤية العامة التي توجّه الخطابَ الروائي”(1)، وذلك لأنّ “موضوعَ تحليل “الخطاب الروائي” كما يدلّ عليه عنوانُه ليس الروايةَ، ولكن الخطاب، وليس الخطابُ غير الطريقة التي تُقدَّم بها المادة الحكائية في الرواية”(2).

وضمن هذا الخطاب، قد يأخذ السّارد أشكالا متنوعة، منْ خلال تحولات الضّمائر، أو اللّعب بالضمائر، حيثُ يأخذُ الضميرُ السّاردُ بنيةً متحولةً دوما، لا تستقرُّ على حال.

ولكنّ التطورَ السّردي المعاصر، ومع شعريّة السّرد” غدتِ السماتُ الفارقة للسّرد، هي التّحولات الضمائرية، ففي الشّعر تبرزُ الذات المتكلمة، مقدِّمةً للحدث المسرود، ولكنّهُ في النص السردي الشعريّ، يكونُ الحدثُ هو المركز، ولا يتّخذُ الراوي موقعا محدّدا على وجه الخصوص، بل يُصبح ذاتا متحولةً تنتقلُ على امتداد النّص المسرود، بين ضمير المتكلِّم والمخاطَب والغائب، مفردا وجمعا”(3). فأصبحَ الساردُ يُحرّك القارئ، في كلّ الاتجاهات، ليُقدِّم له المشاهدَ واللّحظات والاستنباطات والأحلام والاستيهامات”(4).

يرتبطُ الوضعُ الاعتباريّ للسّارد بموقعه ووظيفته ضِمن السرد، وبهويته مثلَ ضميرٍ وصوت، وقد يختار المؤلف (الواقعيّ) ساردا أُحاديا أو متعددا، غُفلا أو محدّدا، وقد يكون السّارد شخصيةً مشاركة في القصة، فتُحكى على لسانها. في هذه الحالة نكون أمام ” السّارد المُتماثل الحِكائي Homodiégétique، وفي الحالة الثانية، قد يكون السارد غريبا عن تلك القصة، فنكون إزاء “سارد غيرِ مشارك”، وهو السّارد المتباين الحكائي      (5)” Héterodiégétique.

في ضوء ما تقدم يمكن القول إنّ الشّكلَ السّرديَ المهيمنَ في الرّواية قيد الدرس، هو شكلُ السّارد المتماثل الحكائي Homodiégétique, يتعلق الأمر بشخصية مركزية (شبلي عبد الله)، تتكفّلُ بسردِ وقائعَ منْ سيرةِ حياتها الخاصة، ضمن سياق اجتماعي (جماعة الرّفاق داخل دمشق وخارجها) وتاريخيّ (عقب نكسة 1967).

إن سيادة هذا النوع من السّرد الذاتي المُباشر الذي تضطلعُ فيه الشخصية المركزية السّاردة والمسرودة بوظيفة الحكي، على نحوِ ما نجدُ في السيرة الذاتية، تفسّرُ إلى حدّ كبير طغيانَ ضمير المتكّم في الرواية التي تُروى فصولُها بصوت سارد-بطلٍ- يكشفُ بسخاءٍ ذاتيتَه وحميميَتَه، دونما مواربة أو تحفّظ، فهنا ” تغدو الشّعرية مرهونة، لا بعوامل خارجية ومحدّدة سلفا، وإنّما ترتهنُ بذات المبدع، وهنا أيضا تظهر آلياتُ اشتغال جديدةٍ، تحكم منطق النّص”(6)، على نحو ما نجدُ في الوحدات التالية:

إّنني أتذكرُ الآن بهدوء تامّ كيف نفختِ الريح في تلك الأودية… (ص9)

كل ما أذكرُه في تلك الليلة، أنّ الدّهشة امتزجتْ بعدم التّصديق، كان بودّي أنْ أصرخ وأبكي وأسأل، لقد وُلد في داخلي شيءٌ خُيّل إلي أنه مات منذ عهد قديم.  (ص 28)

علَى جدار العمود يتكئ ظهري، وعِطر الصّحافية النفّاذ يضوع ماسِحا وجهي. (ص 102)

غير أنّ السّرد لا يقتصرُ على ضمير المتكلم، بلْ يتمّ تطعيمُه ليشملَ أيضا ضميرَ المخاطَب (أنتَ)، ذلك أنّ (شبلي) يتحولُ أحيانا من ذاتٍ مسرودة إلى ذات ساردة، تتأملُّ نفسَها كما لو من مسافةٍ، بنبرة يتداخلُ فيها التقريع بالعتب، استجلاء للانشطارات والتّجاذبات الرّانية على الذات(7).

اِمْضِ امض، تجاوزِ المئتي مترٍ، حطّمِ الأرقامَ، وخَلِّفِ العلامات التي رسمتَها… اِطْوِ المسافات… اِرْمِ كلّ شيءٍ في البحر الشاسع وامْض، جيلُ الصعود يجري كالطلقة نحو غايته ولا يتوقف إلا بالموت(ص123.

رذاذ رطب كسقسة الثّمل في العروق، يُشعرُكَ بخصوصية المدينة مدينتي الآن. ص 274

إذا كان (أنا) و(أنتَ) لصيقتان بحميمية التجربة الذاتية للبطل السارد (شبلي) فإنّ الـــ (هُمْ) تؤشّرُ على البُعد الجماعي لمغامراته الّتي تُستحضرُ من خلال التّجارب السياسية والوطنية (الثّورة) التي انخرط فيها البطلُ السّارد:

– ها همْ قادمون من الجبال والسهول زحفا باتجاه المدن، في عيونهم غضبٌ، وعلى جباههم غبار ومجد منتظرٌ، في الرياح تخفق راياتهمْ وأصواتهم الجليلة تملأ سمع العالم، تَحْتَهُمْ ترتعش الأرض، ونفوسهُمْ مفعمة بالأماني والغبطة. (ص 9)

-ها هم يَعبُرون ضفاف السواقي، مجارفُهم ومَعاولُهم فوق أكتافهم، أسمعُ خطواتهم وأنا مستلقٍ في خيمة القَصب، عبر سوادِ اللّيل يخبّونَ الخطى وهما حفاة، وقد شمروا حتى الركب. الشوك والحجارة تجرحهم، أرجل وسواعد موشومة بالوحل، مع الماء يمضون نحو الأراضي العطشى، الأراضي التي ستعطيهم العشب والمواسم، والماء ليس ملكهم بثمن المؤونة اشتروه من جلاديهم عندما كان الزمن كالماء سائبا مفلتا منهم. ( ص 274)

وقد يلتحم صوت الشخصية الساردة نفسها، من خلال تجربة الكتابة بصوت القارئ المفترض:

في دمشق تبدو الأشياء حادة كحرف السكين، ثمّة نذير تتوقعه في أية لحظة، وجميع النّهارات والليالي نبتلع السكين الواقعة في الحلق، السكين التي لا تسقط وتنهينا.

ودمشق ليست كما اشتهيت وتصورت: أوقيانوسا مزدهرا بالغبطة والكشوفات النبوية. ص 69

يتعلق الأمر إذن بشخصية مركزية هي في نفس الآن: الذات السّاردةُ والمسرودة التي تشكّلُ محورَ العملية السردية وأساس مجموع التّبئيرات والأصوات والتعليقات، “فشبلي عبد الله” هو موضوعُ السّرد ومصدره، فيضطلعُ بوظيفة السرد، وتقديم الشخوص وتبئيرها ومحاورتها، فيُمرّرُ قيما وأفكارا، ويُشيّدُ جسورا للتواصل بين الشخوص الروائية، من جهةٍ وبين المؤلف الواقعيّ والقارئ الواقعي من جهةٍ أخرى.

في نص ” الزمن الموحش” تتحولُ الذات الساردة، منْ الضمير (أنتَ) إلى (أنا) إلى (هو) إلى (أنت) في مساحةٍ نصية تكاد تكونُ متداخلةً:

-زمنٌ قاس بيده سوط يسوقُـك من بوابة البيت إلى مستنقع الوظيفة، ثمّ إلى الشوارع والأمكنة الأخرى، مهرولا تحت غمامة كثيفة توشكُ أن تُمطر كذبا وخدائع، يكادُ صوتُ رعدها يُدوّي فيـكَ، فيهِ فيهِم: أحدٌ ما ليس في مكانه الطبيعي. أحدٌ ما لا يستطيع أن يكونَ ما يودّ أنْ يكون!

في سرّي دُهشت بسامر البدوي، وفيما بعدُ حزنت من أجله، ثم اكتأبتُ أكثر لأنني لمْ أستطعْ أنْ أُحبّهُ كما أريدُ.

 لمْ يكن صعبا اكشاف فسحة بؤرتِه المركزية التي تمتدُّ لتطال الآخرين، ولا حماستَهُ لخلق إشعاعات مغنطيسية، تقول ساحة الأنا فيها: مِنّي تَصدرُ قيم الأشياء  وإليّ تعود.

لكنّ هذا التدرن الأعلى لا يمزقُ علاقتَك به. بعد أنْ تفهمَه جيدا، سيتم ذلك بعيدا حتى لا تصبح شاشة يعرضُ عليها مغامرةَ ومهرجانات ألعابه الصغيرة. في بيته سقانا ويسكي نشف بلا أي مزج، وأسمعَنا موسيقى وشعرا. (ص 70)

فالضمائر تتحولُّ على مساحة بعض صفحةٍ واحدة من:

يسوقكَ… يكاد صوتُ رعدها يدوي وفيكَ (أنت).

في سري دهشتُ.. حزنتُ… اكتأبتُ… لأنني لم أستطيع أن أحبه… أريد…(أنا) .

انسحبت… (أنتَ).

علاقتك به … تفهمه جيدا. (أنت)عرفت ذلك متأخرا… أحسست (أنا).

هذا التحول في موقف الذات الساردة، عبر ضمائر (أنت) (أنا) (هو) إنما هو “تحوّلٌ من باب الشّعرية التي تقوم بهذه المراوغة في التحول واللّعب بالضمائر، والذي استعارتْه الرواية مرة أخرى من الشّعرية ولكنْ بتشكيلها هيَ الجديد”(8) . وهو تصوّرٌ شعريٌّ في الأساس لا ينقلُ الواقع بحرْفيته، ولا باحتمالاته، وإنما ينقلُه بمفهوم الممكن (غير المعقول) (9). 

ذ. برنوص عبد الحكيم

——————————-

– 1شعرية والسرد الروائي عند إدوار الخراط- يوسف شكير ص 242

 –  2سعيد يقطين تحليل الخطاب الروائي ص7.

 – 3محمود الضبغ، تشكلات الشعرية الروائية، مجلة فصول شتاء 2002- ص 309.

  – 4فضاءات روائية، محمد برادة ص  144 في: رواية حشيش ليوسف فاضل دراسة تحليلية, بحث جامعي, كلية الآداب و العلوم الإنسانية بني ملال 2003/.2004

5  – librairie josé corti, Paris 1981 P 79 Jaap .lintvelt Essai de Typologie narrative le point de vue

6-   محمود الضبع, تشكلات الشعرية الروائية مجلة فصول 2000 ص309

7  –  يوسف شكير شعرية السرد الروهئي  عند إدوار الخراط ص246.

8  –  محمد الضبع، تشكلات الشعرية الروائية مجلة فصول، شتاء 2000/ ص 310

9  – نفس المرجع ، ص 309.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...