جمال علاوي: قراءة أولية في مضامين وأهداف مشروع النظام الأساسي لموظفي الجماعات

جمال العلاوي * 

بعد أزيد من ثمانية سنوات على إغلاق باب الحوار من طرف وزارة الداخلية في وجه النقابات الأكثر تمثيلية بالجماعات الترابية، باشرت الوزارة عبر المديرية العامة للجماعات المحلية سلسلة من اللقاءات مع النقابات النشيطة بالقطاع، وذلك في أواخر شهر يناير من سنة 2019، ولم تفضي هذه اللقاءات – سوى إلى توقيع اتفاق هزيل لا يعالج أغلب الاشكالات التي يعيشها القطاع، ولا يراعي منطق “التمثيلية النقابية” بعد رفض الجامعة الوطنية التابعة للاتحاد المغربي للشغل التوقيع على الاتفاق ومطالبتها بتجويده وأقصائها لاحقا من الحوار قبل إغلاقه بشكل كلي في وجه جميع النقابات إلى حد الآن.

ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه موظفو وموظفات الجماعات الترابية من وزارة الداخلية أن تستجيب لمطالبهم وتجد حلا للمشاكل المتراكمة بالقطاع، حولت مجريات الحوار  رأسا على عقب ــ قبل إغلاقه كما أشرت ـــــ في اتجاه التراجع على بعض المكاسب بدل التقدم في إيجاد حلول للقضايا والملفات الحارقة التي تحظى باهتمام شغيلة الجماعات، حيث قامت بإعداد مشروع قانون سمته ب”قانون تحديد النظام الأساسي للموارد البشرية بالجماعات الترابية وهيئاتها” وعرضته على النقابات النشيطة بالجماعات قصد الموافقة عليه قبل أن تستفرد بالقرار لاحقا رغم أنه يشكل ضربة قاسمة لانتظارات الموظفين، وينسف كل الآمال التي يمكن تعليقها على الحوار مع الوزارة .

ولعل أية قراءة سريعة لمواد هذا المشروع ستصل إلى خلاصة واضحة، وهي أن وزارة الداخلية لا تكترث لحجم انتظارات موظفات وموظفي الجماعات، ولا تولي أي اهتمام لأوضاعهم المهنية وقضاياهم المصيرية، بل يحكمها هاجس ضبط واحتواء الديناميات النضالية التي شهدها القطاع، ومحاولة إقحام النقابات في دائرة ” الصمت والسلم الاجتماعي” مقابل تمرير أسوء قانون يهم الشغيلة الجماعية، ويمكن أن نستشف ذلك من خلال تفكيك وتحليل مواد هذا المشروع الذي سمي قانونا رغم أنه ليس سوى عملية نسخ مشوه لبعض مواد النظام العام للوظيفة العمومية، مع إغراقه بالإحالات والمصطلحات التي تحتمل أكثر من تفسير.

ودون الخوض في تفاصيل بروتوكول الاتفاق الذي اقترحته الوزارة على النقابات قصد التوقيع، لأنه يتضمن تقريبا نفس الالتزامات التي سبق لوزارة الداخلية أن ضمنتها في اتفاق 2007، ولم تنفذ منها سوى النذر اليسير، ولأنه أيضا لا يحتوي على مكاسب كبرى قد تشكل حافزا على تحليل ودراسة انعكاساتها وآثارها على الأوضاع العامة للشغيلة الجماعية، سنكتفي هنا بتفكيك بعض المواد الواردة في مشروع “النظام الأساسي للموارد البشرية بالجماعات الترابية وهيئاتها”.

فقد اختار واضعوا مشروع النظام الأساسي كعنوان للنص، مفهوم “الموارد البشرية” بدل مفهوم “موظفي الجماعات” الذي كان واردا في النظام الأساسي لسنة 1977، وهو مفهوم يعكس التوجه المقاولاتي الذي تسعى الدولة إلى تسييده في علاقتها بالعاملين في الإدارات والمرافق العمومية والجماعات الترابية، كما أنه يشير إلى الأهداف الاقتصادية المحضة التي تؤطر الوزارة والدولة في علاقتها بالموظفين، مستبعدة الطابع الاجتماعي والإنساني للعلاقات المهنية ومكرسة لقاعدة تحويل العمل إلى مجرد سلعة.

يتكون مشروع القانون من ثمانية عشر مادة بعضها منقولة حرفيا من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، وأغلبها تحيل في كيفيات تطبيقها إلى نصوص أو قرارات تنظيمية قد تصدر وقد لا تصدر لاحقا من طرف الوزارة، وهذه هي أهم الاحالات:

المادة 5: ….. يمكن إحداث كل منصب جديد بمقتضى نص تنظيمي،

المادة 6: ….. يحدد بموجب قرار تنظيمي لوزير الداخلية نظام المباريات والامتحانات المنظمة لولوج مختلف الدرجات بالجماعات الترابية والمنصوص عليها في الأنظمة الأساسية.

المادة 7: …… يحدد بمقتضى نص تنظيمي شروط ومسطرة تشغيل وأجرة المتعاقدين والأعوان.

المادة 8: …….وحدد بموجب قرار لوزير الداخلية نظام المباريات المهنية وامتحانات الكفاءة المهنية.

المادة 9: …… يمكن إحداث كل تعويض جديد بمقتضى نص تنظيمي.

المادة 10: …… كل وضعية إدارية محدثة يتم تحديدها بمقتضى نص تنظيمي.

المادة 12: …… تحدد شروط التكوين وكيفيات تنظيمه بمقتضى نص تنظيمي.

المادة 13: …… يحدد بمقتضى نص تنظيمي كيفية الاستفادة ومقدار التعويض عن المغادرة الطوعية.

المادة 14: …… يحدد بنص تنظيمي كيفية تكوين هذه اللجن واختصاصاتها.

المادة 16: ….. سيتم تحديد كيفية تطبيق هذا الإدماج بمقتضى نص تنظيمي.

إن هذه الإحالات على نصوص أو قرارات تنظيمية لاحقة يفرغ مشروع القانون من أي محتوى، ويحوله إلى مجرد قوالب لغوية لا طائل منها، بل ويجعل كل الصلاحيات المخولة لرئيس الجماعة في مجال تدبير شؤون الموظفين مقيدة بصدور النصوص والقرارات التنظيمية عن وزير الداخلية، وكلنا نعلم أن العديد من القوانين الوطنية التي صدرت في عقود سابقة، ظلت عملية تفعيل بعض موادها عالقة نظرا لرهنها بصدور نصوص تنظيمية، ولم تصدر هذه النصوص، وبالتالي فوزارة الداخلية تسعى من خلال تقييد أغلب مواد النظام الأساسي بصدور نصوص او قرارات تنظيمية إلى جعل هذا النظام مجرد حبر على ورق ستتعامل مع تنفيذ مضامينه العامة بمزاجية ووفق تطورات الوضع بالقطاع، وبما يتلاءم مع رغباتها، بعيدا عن أي استراتيجية فعلية تسعى إلى النهوض بأوضاع الموظفات والموظفين العاملات والعاملين بالجماعات الترابية.

إضافة إلى ذلك فإن وضع أغلب مواد النظام الأساسي بشكل فضفاض ومبهم يترك المجال واسعا للوزارة كي تتصرف كما تشاء في تنفيذ أو عدم تنفيذ التفاصيل المرتبطة بهذه المواد.

من جهة أخرى سعت الوزارة إلى جعل التشغيل بموجب عقود في قطاع الجماعات الترابية منهجا ثابتا في معالجة الخصاص المسجل بهذا القطاع، من خلال التنصيص على ذلك بشكل صريح في المادة 7 من هذا القانون، مع ربط هذه العملية ب”ضرورة المصلحة” ، وهذه الضرورة تقيد بدورها عملية التشغيل إلى أقصى الحدود، وقد تؤول وفق أهواء الوزارة ومزاج الرؤساء، بحيث قد يكون ضعف ميزانية الجماعة مبررا لعدم وجود ضرورة المصلحة، وقد يكون وجود موظف واحد يمارس مهام متعددة ومرهقة مبررا لعدم التشغيل، ما دام الموظف المعني قادر على التحمل …،

ومن المؤكد إذا استحضرنا التوجه العام للدولة ومنظورها ل”إصلاح الوظيفة العمومية” المرتكز على خلق المزيد من المرونة والهشاشة في العمل بالقطاع العام ، تنفيذا لالتزاماتها الخاضعة لإملاءات المراكز المالية الدولية التي تدعوا في تقاريرها حول المغرب إلى تنويع أساليب التشغيل بالقطاع العام وضبطه وتخفيض الميزانية المخصصة للموظفين، (من المؤكد) أن تتحول عملية التشغيل بموجب عقود إلى قاعدة أساسية في تغطية الخصاص مقابل التجميد العملي للمادة 6 من نفس النظام، والتي تشير  إلى امكانية التوظيف والترسيم عن طريق مباريات، خاصة وأن هذه المادة  رهنت بدورها عملية التوظيف والترسيم ب”ما تقتضيه ضرورة المصلحة وفي حدود المناصب الشاغرة بميزانية الجماعة الترابية، وما تسمح به الاعتمادات المالية المرصودة برسم السنة المالية المعنية”

ولعل أهم ما يمكن إثارته بخصوص مسألة التشغيل بموجب عقود، هو أن تداعياته الاجتماعية والنفسية والمهنية بالجماعات ستكون مضاعفة مقارنة مع باقي القطاعات كالتعليم، ففي الجماعات يعاني الموظفين الرسميين حاليا من تدخل أطراف متعددة تسعى كلها إلى ممارسة سلطتها ونفوذها وحساباتها المختلفة ( أغلب الرؤساء يحكمهم هاجس الحسابات الحزبية والانتخابية ويصنفون الموظفين إلى موالي ( تمنح له مناصب المسؤولية ويتمتع بامتيازات وتعويضات) ومعارض ( يجرد أحيانا حتى من المهام الادارية ومن تجهيزات العمل ويحرم من أي تحفيزات) ، السلطات المحلية بدورها تتدخل بوسائل وطرق مختلفة في شؤون الادارة الجماعية حتى ولو كان ذلك على حساب كرامة وحقوق الموظفين، بعض مدراء المصالح ورؤساء الأقسام يتدخلون بمنطق إرضاء خواطر الرؤساء والتعسف في ممارسة السلطة بدل تدبير العلاقة مع الموظفين بشكل مهني وقانوني، ……الخ)،

وإذا كانت هذه هي وضعية الموظف الرسمي، فإن “المتعاقد” في هذا القطاع سيكون مضطرا إلى تحمل تعسفات كل هؤلاء المتدخلين بشكل مضاعف، والتعايش مع كل الأمراض النفسية و”السياسية” والبيروقراطية التي تنخر جسد الإدارة الجماعية، وإلا فسيجد نفسه معرضا لفقدان منصبه وإنهاء العقد في أية لحظة.

من جهة أخرى فإن هذا النظام الأساسي يغتال بشكل مهين حلم فئة مهمة من الموظفين الذين يمارسون وظائف حيوية بالجماعات الترابية، ويتعلق الأمر بفئة حاملي الشهادات ( إجازة، ماستر، دكتوراه، شواهد تقنية…)، حيث يحكم هذا النظام على هذه الفئة أن تبقى حبيسة السلاليم الدنيا رغم حصولها على تكوين ذاتي وتوفرها على شواهد عليا، والعبارة الواردة في الفقرة الخامسة من المادة 8  المتعلقة بامكانية “الاستفادة من الترقية عن طريق الشهادة بعد اجتياز مباريات مهنية” ليست سوى ضحك على الذقون، ما دامت مقيدة بشرط “الضرورة” الوارد في نفس الفقرة، لأن هذا الشرط ينسف كل أمل في تفعيل الترقية بالشهادة، بحيث يمكن أن تفسر عبارة ” عند الضرورة”   بأكثر من تفسير، فقد يكون توفر الجماعة على متصرف واحد مثلا كافيا لانعدام الضرورة بالنسبة لترقية حامل شهادة الاجازة إلى درجة متصرف من الدرجة الثالثة ( أو متصرف مساعد حسب ظهير 67)، وقد يكون ضعف ميزانية الجماعة أو تجاوز الاعتمادات المرصودة في الفصل المتعلق بنفقات الموظفين لسقف معين مبررا لانعدام الضرورة،…الخ، إضافة إلى ذلك فإن عدم وضع آلية واضحة وصريحة لتسوية وضعية حاملي الشهادات بشكل شامل أو عبر أشطر  أو عبر مباريات سنوية على غرار  ما جرى سنة 2007 بنفس القطاع، أو على غرار ما يتم اعتماده مع نفس الفئة بقطاعات العدل والتعليم والصحة …، والتي تتوفر على أنظمة أساسية تفتح هامش الترقية بالشهادة سنويا، سيجعل مسألة تفعيل الترقية بالشهادة -حتى وإن لم يعدمها شرط الضرورة- مرهونة بالولاء الحزبي لرئيس المجلس ولمنطق المحسوبية والزبونية الذي يطغى على تدبير شؤون الموظفين بالقطاع ككل.

مسألة أخرى لا تقل خطورة عما سبق ذكره، وهي ما ورد في المادة 16 بخصوص إدماج متصرفي وزارة الداخلية ضمن هيئة المتصرفين المشتركة بين الوزارات وحرمانهم بالتالي من الحقوق المكتسبة التي يتمتعون بها في نظامهم الأساسي الحالي (ظهير 1963)، خاصة فيما يتعلق بقصر مدة الترقي في الرتبة مقارنة مع المتصرفين المشتركين بين الوزارات، وكذا المكسب المتعلق بامتحان الكفاءة المهنية الذي يشتمل على اختبار كتابي واحد فقط دون الشفوي، وكذا الزيادة في الرقم الاستدلالي ب 4 نقط في بعض الرتب.

إن مشروع “قانون تحديد النظام الأساسي للموارد البشرية بالجماعات” كما سمته وزارة الداخلية، وبالشكل المتداول الآن، لا يشكل تراجعا عن بعض المكاسب فقط، بل يمهد الطريق لانتكاسات متتالية في حالة تمريره، سواء من خلال إدخال المزيد من المرونة والهشاشة في العمل بالجماعات عبر ما سمي بالتعاقد، أو من خلال تكريس المزيد من التعاطي المزاجي مع القضايا المصيرية التي تهم الشغيلة الجماعية، وهو الأمر الذي يجعل موقف الجامعة الوطنية لعمال وموظفي الجماعات المحلية المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، الرافض لمشروع النظام الاساسي وللاتفاق الهزيل الذي تم توقيعه سنة 2019، موقفا سليما وموضوعيا ومنسجما مع علة وجودها باعتبارها نقابة للشغيلة الجماعية، ومعبرا أمينا وصادقا عن تطلعاتها وانتظاراتها، ويضع في نفس الوقت بعض النقابات الأخرى  أمام مسؤولية تاريخية، خاصة نقابات ك دش – فدش-  إ ع ش م، التي وقعت على الاتفاق السابق ذكره.

إن موظفات وموظفي الجماعات الترابية مطالبين الآن أكثر من أي وقت مضى إلى المزيد من اليقظة والتفطن لما يحاك ضدهم وضد مستقبل العمل بالقطاع، وتعزيز  وحدتهم والتفافهم حول الخيارات والمواقف التي تنتصر لمصلحتهم الجماعية المشتركة ولمصلحة الأجيال المقبلة بعيدا عن أي نزوع ذاتي أو فئوي، فوزارة الداخلية تلوح بالفتات عبر يدها اليمنى، وتستعد لتسحب عشرات المكاسب بيدها اليسرى، ويظل الآمل قائما تجاه مبادرة التنسيق بين النقابات الأربع الأكثر تمثيلية لتتقدم في معاركها النضالية الوحدوية، وتدفع في اتجاه خلق ميزان قوى حقيقي يفرض على وزارة الداخلية أن تفتح حوارا جادا ومنتجا على أرضية المطالب الحيوية للشغيلة الجماعية، وفي مقدمتها الزيادة العامة في الأجور على غرار باقي القطاعات، وتسوية الوضعيات الادارية والمالية، واطلاق مباريات التوظيف، ومعالجة الملفات الفئوية العالقة، وتحسين ظروف العمل…الخ.

* باحث في القانون الاجتماعي، عضو اللجنة الإدارية  للجامعة الوطنية لموظفي الجماعات الترابية والتدبير المفوض، الاتحاد المغربي للشغل




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...