ذ.التهامي ياسين
(إن اكتضاض الجامعات وعوامل أخرى مختلفة.. أضر كثيرا بالعمل التربوي والعلمي في الجامعات.. ففقدت قوتها الداخلية ودورها.. والجامعة من جهة عليها أن تتعامل مع العلم في وحدته العضوية .. ويجب أن يكون التكوين فيها شاملا ..ولها مهمة أخلاقية أيضا ، – وهذا هو الأهم – فتخليق الإنسان هو الهدف الأعلى للتربية والتكوين..والجامعة قد تختلف عن المدرسة وقد تكمل بعض أدوارها ولكنها تعتبر بشكل أساسي مؤسسة للتربية الذاتية والتكوين الثقافي الذاتي وأيضا للتخليق الذاتي…)
كل الدراسات والبحوث الرسمية وغير الرسمية التي أنتجت حول التعليم في المغرب أجمعت أن ثمة في المغرب مشكل مزمن ! مشكل يحتل الصدارة ضمن مجموعة المشاكل الأخرى التي لم تعرف بعد طريقها نحو المعالجة الجدية، والحل الصحيح..إنه، بلا نزاع ،مشكل التعليم. نتحدث هنا عن التعليم بمختلف أسلاكه ومستوياته من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة والبحث العلمي..ونحن اليوم ،حينما نواجه هذا المشكل _ كما صرح الراحل د محمد عابد الجابري _ يوما ما نجد أنفسنا دوما في دوامة أمام نفس المشاكل ، وإزاء نفس المهام، ذلك أن الفرق بين وضعيتنا أمس أي بعد عقود من الزمن ؛ أي بعد حصولنا على الاستقلال ووضعيتنا اليوم ،هو فرق في الدرجة فقط : لقد ازدادت مشكلتنا تعقيدا ،وبالمقابل ازداد وعينا عمقا..وفعلا رغم توالي حزمة من الإصلاحات والتجارب في هذا الميدان ظل مشكل التعليم قائما، لقد عرف هذا المسار الطويل ل” مشكل التعليم في المغرب ” ,محطات رئيسية: المذهب التعليمي الذي أعدته اللجنة الملكية لاصلاح التعليم عام 1957،ثم البرنامج الذي سطره التصميم الخماسي سنوات 1960-1964 ،ثم “المذهب التعليمي” المنسوب الى وزير التعليم الدكتور بنهيمة1966، ثم المشروع الذي عرض على “مناظرة إفران عام 1970،ثم “مخطط المسار” 1988-1992 الذي أعلن التخلي عن “فكرة المخطط بالمعنى التقليدي” ،لنصل أخيرا إلى “مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين” الذي تم إقراره، بعد مد وجزر، وشرع في “تنفيذه” ابتداء من أكتوبر 2000.ليأتي المخطط الاستعجالي وما عرفت تطبيقاته من أخطاء ومنزلقات يطول الحديث عنها في هذه المقالة.. كانت خطة استعجالية وضعتها الوزارة الوصية لإنقاذ النسق التربوي التعليمي المغربي من الأزمات التي يتخبط فيها وللإسراع من وتيرة إصلاح التعليم ..لقد نظر إليه بمثابة خارطة الطريق تحدد الخطوات العملية التي يجب الالتزام بها من أجل إصلاح المنظومة التعليمية المغربية وإعادة الثقة إلى المدرسة العمومية المغربية ..هذا المخطط جاء حين ظهرت عدة مؤشرات صادقة عن الاتجاه نحو الفشل في تحقيق أهداف “الميثاق الوطني” .
وللتذكير فإن الميثاق في بداية ظهوره أصبح بمثابة” إنجيل” للإصلاح التعليمي التربوي خصوصا بعد التأكيد على المشروعية التي حظي بها لحدوث “توافق وطني” حوله من مختلف الفرقاء ومن طرف كل المتدخلين خاصة مع أجواء التناوب على المستوى السياسي بما هو إدماج لنخبة الحركة الوطنية في نسق السلطة الهرمية وما ترتب عن ذلك من نتائج..
لقد كان يرجى من المخطط الاستعجالي أن يكون برنامجا طموحا واجرائيا لإعطاء نفس جديد للميثاق و للحياة المدرسية في المجتمع وللفاعلين التربويين المختلفين مع الاعتماد على الميثاق كمرحعية أساسية..لكن التعثرات والإخفاقات كما قلنا تراكمت نتيجة لعوامل معروفة ذاتية وأخرى موضوعية عنها.. وإذا كنا قد أشرنا إلى هذه المحطات من الاستقلال إلى المخطط الاستعجالي ..فإن الواقع يؤكد أن” المشاريع الإصلاحية” برمتها التي عرفها قطاع التعليم لم تكن بمنأى عن الصراعات والتدافعات السياسية..ولم تطرح المسألة التعليمية كقضية مجتمعية وطنية في حياد تام عن الأجندات السياسية، ولم تطرح كقضية مشروع مجتمعي أولا يهم كل المغاربة دون تمييز أو إقصاء..والحقيقة أن المسألة التعليمية قضية مجتمعية تتعلق بكل المواطنين ،وينبغي أن تطرح في بعدها الإشكالي بشقيه: الراهني والمستقبلي، وباعتبارها وعيا متأصلا في حياة الإنسان المغربي ،وكونها رافدا من روافد تكوينه الذاتي والقومي والإنساني، ويلزم أن تطرح على الدوام ضمن الأولويات والاختيارات الاستراتيجية الكبرى .لأنها تهم الانسان أولا وأخيرا، لا كتصورات مرتبطة بأجندات سياسية ضيقة تعبر عن مصالح حزبية أوفئوية اجتماعية ..
ويمكن أن يتساءل كل مهتم بالمسألة التعليمية في المغرب : من أين تكتسب المسألة التعليمية مشروعيتها القوية؟. نقول : تأخذ المسألة مشروعيتها الآن من واقع الأزمة التي استفحلت بشهادات رسمية وأكاديمية ،من تربية الطفل في المدرسة الأولى الى أن يصير شابا جامعيا باحثا ، وتأخذ مشروعيتها كذلك من ضرورة البحث عن أفق مغاير اعتمادا على ما يمكن أن يؤسسه المشروع المجتمعي المفترض بأسئلته الكبرى: سؤال الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والحق في التعليم ومحاربة الأمية والنهوض بالعالم القروي ،ودور الجامعة التربوي العميق الذي لا ينبغي أن ينحصر في تكوين أطر وكفاءات فحسب ،بل كمؤسسة للتربية الذاتية والتكوين الثقافي والفلسفي والتخليق الذاتي ، كذلك سؤال المواطنة والهوية وسؤال العلاقة أيضا بين المدرسة والجامعة وتعليم الفتاة وسؤال التشغيل والتأهيل المستمر وسؤال التكنولوجيا الرقمية والبحث العلمي في مختلف مجالاته..
وفي البحث كذلك عن منظومة جديدة من العلاقات بين التعليم الجامعي والثقافة والأخلاق واللغة..من جهة أخرى. حين نطرح هذه الأسئلة الجديدة الأساسية التي تفرض نفسها راهنا يكون ذلك معناه أننا ننطلق من الفرضيات القوية.ويبدو أن سؤال المشروع المجتمعي المفترض ،وسؤال المسألة التعليمية والعلاقة بينهما من المفروض أن ينصهران في تصور واحد مترابط، ومن الناجع أن يكون واضحا ومؤطرا للحياة والوجود بشكل عام .السؤال الأول يطرح ضمن تعاقد كل فعاليات المجتمع المغربي دون استثناء أو إقصاء. ونقصد بالفعاليات ؛ الفعاليات السياسية والاقتصادية والمنظمات النقابية والحقوقية الحقيقية والواقعية الممثلة لانتظارات المواطنين على اختلاف جنسهم وأوضاعهم .ويأخذ على عاتقه مهمات جسيمة هي مهمة بناء الأساس الفلسفي العام. بينما يتكفل السؤال الثاني ، ضمن التعاقد المشار إليه،بمهمة البناء الخاص للإنسان معرفيا وقيميا أخلاقيا وسياسيا.. وفي هذا الإطار ندرك العلاقة الجدلية وأهمية التفاعل بين العام والخاص في المسألة التعليمية. ولذا بات من الضروري إن نحن أردنا الانتقال الطبيعي والحقيقي والتاريخي من مرحلة التخبط والأزمات المتناسلة والتيه بين النماذج المستوردة والتقنوية والسياسة “السياسوية” التي تطرح كردود أفعال..إلى مرحلة المشروع التعليمي /المجتمعي المؤسس على التحليل الموضوعي العلمي للواقع ،ومن النتائج التي تفرزها الدراسات المختلفة السوسيوثقافية والاقتصادية واللغوية والمجالية الترابية التي ينبغي أن تكون بعين الاعتبار وتشكل موضوعات لأبحاث مركزية معمقة للباحثين الجامعيين..و أن نواجه تلك الأسئلة التي أشرنا إليها بجرأة ووطنية صادقة ..وهو لاشك سيكون مشروعا للمجتمع الذي عليه أن يتحقق وينهض ليلحق بركب الدول المتقدمة ..ويكون فيه الإنسان المغربي هو المسؤول والواعي بدوره تاريخيا وحضاريا ..
وهنا تطرح مسألة ذات أهمية قصوى وهي مكانة الثقافة في المشروع التعليمي التربوي ..ينبغي أن يشكل حضور الثقافة داخل تعليمنا أحد الرهانات الكبرى والأساسية لكل إصلاح مرتقب. والأنشطة التي تمارس في ظل المؤسسة المدرسية تبقى قليلة وقاصرة عن بلوغ الأهداف المنشودة في هذا المجال .والأسر المغربية المتعددة الأوضاع والفوارق الاجتماعية في أغلبها الأعم تفتقر إلى تصور محدد لتوعية المكونات الثقافية التي ينبغي اعتمادها في عملية التنشئة الاجتماعية..ومن هنا فإن الربط المنهجي ضروري بين شروط اللحظة التاريخية والحضارية والآليات التي توظف في الحقل التعليمي والمسار المعرفي والثقافي المطبوع بخاصية التطور المطرد السريع .فماهو ملاحظ أن تعليمنا بمختلف أسلاكه ، بما في ذلك السلك الجامعي يعتمد على بيداغوجيا المقررات والمحتويات، ولا يوفر فرصة كافية للحصول على ثقافة كفيلة لتكوين المتعلم، وجعله ينخرط في قضايا العصر. ذلك ما لوحظ في الآونة الأخيرة كيف أن هذه البيداغوجيا ، بيداغوجيا المقررات التي تعتمد على نظام الامتحانات والذي يعمل على قياس معلومات محصلة من طرف المتعلمين تفرغ في أوراق التحرير ،وتغيب في أغلب الأحيان المهارات التي من شأنها تحصيل ثقافة نوعية يستحضرها الفرد في المواقف المستجدة التي تدعوه للتفاعل معها عوض الانفعال بها.مع العلم أن اكتساب الثقافة يتطلب اعتماد استراتيجية كفيلة لترسيخ معرفة متعمقة في المجالات الفكرية المختلفة ، تتيح لصاحبها إمكانية التعامل مع القضايا الإنسانية العامة، وتؤهله بتمثيل دوره الاجتماعي بكل تمكن وكفاءة وتدعم انتماءه وهويته الوطنيين.وهنا يمكن القول أن حضور الثقافة داخل تعليمنا يظل رهينا بمجموعة من الشروط الموضوعية المرتبطة بعلاقات متنوعة متداخلة سوسيوثقافية واقتصادية أيضا..تحيل في مجملها على علاقات المتعلم مشروع المستقبل بمحيطه الأسري ،وعلاقته بالمجتمع، ثم علاقته بالوسائط والبدائل الثقافية التي تنشط بمنأى أو معزل عن المؤسسة التعليمية ،وتمارس سلطتها على المتعلم.
إن هذه الوسائط والبدائل الثقافية التي تنهل من التطور التكنولوجي الهائل في جميع الميادين تهيمن ولا شك وتسيطر على المجال الثقافي.. وفي ظل انحسار الوظيفة التقليدية للمدرسة، والمحددة أساسا في تكوين وإعداد المتعلم تكوينا وإعدادا شاملين ،لشغل موقع المثقف المتكامل ،المتوفر على استعداد لتدعيم هوية ومكاسب بلده . في هذا الصدد ينبغي أن نصارح أنفسنا باستمرار بمظاهر الإخفاقات التي نتيجة غياب المشروع المجتمعي المفترض والمنتظر المأمول التي صارت تشكل عوائق دائمة ..ويمكن أن نشير اختصارا فقط إلى بعض من هذه الإخفاقات :
– المفارقة التي تصل إلى درجة التناقض بين نموذجين تعليمين : النموذج التقليدي الذي مازال يراهن على المقررات والمحتويات.. والنموذج الحديث الذي يراهن على المتعلم أساسا.
الوضعية المزدوجة والمتأرجحة بين النموذج التقليدي والنموذج الحديث ،بين التعليم العمومي والتعليم الخاص الذي يشكل انتشاره مؤشرا قويا ودالا على الأزمة العامة للتعليم العمومي. والمسألة التعليمية حيث تراهن في هذه الحالة على التعليم الخاص ببنيته التحتية المهزوزة ،وبنيته الفوقية أحيانا السائبة (التربوية والثقافية)، وافتقاره لتصور مجتمعي متكامل ومنسجم يعد في الحقيقة رهانا خاسرا. هكذا تبدو التناقضات والعوائق والمثبطات المختلفة تحول دون منتوج تعليمي إنساني هادف ..وتجعل سؤلنا أعلاه سؤالا يفرض نفسه على الدوام مادام التعليم لم يعد يدمج المتعلمين في واقعهم ويجعلهم عناصر فاعلة في تغييره وإصلاحه..إن وظيفة المدرسة المغربية في علاقتها التربوية بالجامعة تتحدد في أنه بدونها لا يمكن أن تتحقق الإستمرارية بين المراحل الزمنية والتاريخية التي عرفتها بلادنا، وبدونها لن تتحقق طفرة على مستوى الوعي والتغير الاجتماعي ،وحين نقول الجامعة فالتدريس فيها بالدرجة الأولى ليس شكلا للمعرفة ،بل للحياة والوجود. والجامعة عندما تفهم ذاتها بهذا الشكل تصبح محلا لولادة مجتمع جديد..ففي الجامعة يجب أن يتعايش الأساتذة والطلبة بحيث يسعون معا إلى تحقيق نموذج للمطالب الروحية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية للعصر. والمثقف الباحث هو الذي يسعى الى الربط بين العلم الموضوعي والتكوين الذاتي والذي يجعل التكوين بواسطة العلم طريقا لتخليق الإنسان، وهو المنخرط في عملية الإصلاح المستمر – وهذا هو الأهم- والملتزم تجاه قيم ومثل ..هو الذي يمكن أن يساهم بشكل كبير في ذلك المشروع المجتمعي المأمول بمسؤولية ووعي تامين ، وبرغبة صادقة .
إحالات مرجعية:
– انظر مقالتنا السابقة: التمدرس وإشكالية الفوارق الاجتماعية للأسر المغربية في العدد رقم493 من جريدة ملفات تادلة..
– انظر مقالة ذ اسماعيل المصدق عن هايدجر وإصلاح الجامعة..
– نحن والتعليم ذ. البقالي القاسمي .