-النقيب عبد الرحيم الجامعي-
يحتل المغرب في سلم عدد ألسجناء بسجون العالم الرتبة 19 وذلك إلى حدود شهر ماي 2023 حسب ما يؤكده موقع المؤسسة الدولية الألمانية ستاتيستا STATISTA ، على مسافة من صاحبة المرتبة الاولى وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
ويحتل السجن المحلي عين السبع المعروف بسجن عكاشة بالدار البيضاء، المرتبة الاولى بين السجون المغربية بالنسبة لعدد النزلاء حيث يفوق العدد 12000 نزيل، أي أن العدد يفوق بثلاث مرات طاقة السجن الاستيعابية.
وهذا الوضع، موضوع الاكتظاظ، كان ولا زال حديث الرأي العام وقلق المندوبية العامة للسجون، و اهتمام المنظمات المغربية المعنية بالسجون فضلا عن اهتمام المؤسسة التشريعية ودوائر الصحافة و الإعلام وجمعيات حقوق الإنسان…..
إذن نحن اليوم أحببنا ام كرهنا أمام لغم خطير ندعو الأقدار ألا يتفجر وان يعالج بسرعة كبيرة وتنزع منه خيوط الكارثة القادمة وفتيل الحريق الذي قد يسبقنا و ينتصر علينا.
علينا إذن، أن ناخذ الأمور بكل الجدية والمسؤولية ، وأن نذهب لعمق الظاهرة لنغير جذريا من وضعية السجن والسجناء وننطلق من قواعد لا يمكن أن نتهرب منها حتى نلج بدايات الحلول، وهي القواعد التي تتلخص في اعتقادي في اربعة وهي:
القاعدة الأولى، وهي أن يتدخل القضاء في الموضوع بصرامة مهنية وحقوقية وأخلاقية، وأن تعمد المحاكم الإدارية فتح باب اللجوء أمامها من أجل مساءلة الدولة المغربية ومرافقها العمومية الإدارية والقضائية وفي مقدمتها الإدارة القضائية عن ظاهرة الاكتظاظ وعن عواقب الاكتظاظ وعن ضحايا الاكتظاظ، من أجل جبر الأضرار عما يلحق نزلاء السجون من محن وما يلحق إدارة السجون من مخاطر من جراء صب اعداد من المواطنين في عنابرها، وما يلحق المجتمع من مآسي، وما تنفقه الخزينة العامة من مال عام على زيادة أماكن الاعتقال التي يصعب أن تكون الحل للاكتظاظ وأسبابه الحقيقية، لأن القضاء الإداري له من الصلاحيات القانونية ليقف أمام الشطط وأمام انتهاكات حقوق الإنسان وأمام تعسف مؤسسات الدولة سواء تأخيرها في سن القوانين لتغيير فلسفة العقوبة وأوضاع السجون ( القانون الجنائي، المسطرة الجنائية…) أو في اجبار الإدارة القضائية على وقف الشطط في استعمالها السجون تدبيرا أوحد للعقاب، ولتصبح المحاكم الإدارية باب خلاص في هذا الاتجاه، مثل اتجاهات القضاء الإداري في العديد من الدول، وفي اتجاه قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي ادانت عددا من الدول بسبب حالات سجونها ومن ذلك قرارها الذي أدان مؤخراً فرنسا بسبب الاكتظاظ و ظروف الإيواء وتداعياته على نزلاء السجون بمقتضى قرارها الصادر في شهر يونيو 2023.
القاعدة الثانية، وهي أن نختار ونستمر في اختيار حل يدور في دائرة المزيد من بناء السجون، علما بأن عدد السجون التي بنيت خلال عهد المندوبية في العقد الأخير مهم مبدئيا، لكن التضخم في الأعداد من المعتقلين كسر كل مزايا الزيادة في السجون، لأن أعداد السجناء يرتفع بشكل مخيف قد يحفز على نهج لن يحقق توقيف التضارب بين مقدرة المساحات السجنية و واقع الحياة بالسجون بمآت الآلاف من النزلاء، وهذا وحده يبين لنا أن التفكير في الزيادة في البناء سينقلب كعقاب للنزلاء وللإدارة وللموظفين كذلك.
القاعدة الثالثة، وهي فشل السياسة العقابية في منظومتنا الجنائية، لأننا توقفنا أمام عتبة بدائل العقوبات بدل السير في مقاربة حديثة للسياسة العقابية في ظل المتغيرات التي يشهدها مجتمعنا ويشهدها العالم، وفي مقدمتها من جهة أولى ضعف الإرادة لدى المسؤولين عن السياسة الجنائية ولدى من يعمل على تطبيقها وتنفيذها للتعامل بعقل وبحزم لقلب صلاحيات الاعتقال الاحتياطي لتصبح قواعد دقيقة ومقيدة قانونا غير قابلة للتأويل وللاجتهاد وللتقدير وللتناقض بين الجهات القضائية وبين الهيئات القضائية داخل نفس المحكمة، ومن جهة أخرى التوجه الذي لا زال قائما منذ سنة 1962 والذي قام والى اليوم على التشديد المتطرف في العقوبة بحيث لا زال القانون يأخذ بعقاب مفرط يبدأ من عقوبة الإعدام ومن عقوبة المؤبد ومن السجن لفترة الثلاثين سنة ومن عدم رفع العقاب عن بعض الأفعال البسيطة وبعض المخالفات التي ليس من وراء العقاب عليها اية نتائج، وهذا مذهَب إداري وقضائي مغربي يبين ضعف ارادة التغيير والأخذ بمذاهب حديثة من مدارس علم الإجرام وعلم العقاب، مما يجعل الفشل في رفع المعاناة عن السجون فشل من المستحيل التغلب عليه.
القاعدة الرابعة ، وهي أن إشتغال الأجهزة القضائية وحدها، وأقصد أجهزة البحث، والتحقيق، والنيابة العامة، والحكم، في تنسيق بينها من دون تواجد طرف آخر له أكثر من موقع في مجال العدالة الجنائية، وهذا الطرف هو جهاز البحث الاجتماعي والطب النفسي الذي لا نجد له وجود موازي وعلى نفس الدرجة مع بقية الأجهزة الأخرى، حيث لا يشارك الطب النفسي والعقلي والخبير الاجتماعي لا في البحث التمهيدي ولا في التحقيق ولا في مجريات المحاكمة بشكل يجعل عمل هذه الأجهزة العلمية والاجتماعية و تقاريرهم أساسية قبل الاعتقال وقبل المتابعة و الاتهام وقبل الأحكام، علما بأن ظاهرة الجريمة وشخصيات الجريمة لا يفهما سوى من يتملكون العلوم الطبية والاجتماعية والنفسية، ومن هنا يصبح تواجد هذه الفئة لازمة علمية ضرورية للأجهزة القضائية والأمنية قبل تحديد مصير المذنبين أو المتهمين المحتملين، وحتى تكون قرارات القضاء تتجه عن حق نحو معالجة الجريمة بكل أبعادها بما في ذلك البعد الاجتماعي.
إن ملف اختناق السجون يضرب استقرار البلاد القانوني والحقوقي والمجتمعي، و الضجة والصخب الذي يتسبب فيه تدعو بل تفرض إعلان حالة الاستثناء بالمؤسسات السجنية، وفي مقدمتها سجن عكاشة بالدار البيضاء، و قد تكون للمندوبية العامة للسجون معرفة دقيقة بأوضاع مماثلة بسجون غير شجن عكاشة، مما يفرض تحرك الوزير الأول المسؤول المباشر عن المندوبية قبل فوات الأوان، ليؤسس خلية أزمة وإعلان مخطط مستعجل لانقاد حالة المؤسسات وحالة نزلائها وهم بعشرات الآلاف من المواطنين، ومما يفرض تحركا عاجلا كذلك للسلطة القضائية، حتى لا تكتفي فقط إعلان حزنها وشعورها بحالة بالاكتظاظ وقلقها من تداعياته، وهي في نفس الوقت من تملك نصيبا وافرا من مسؤولية حالات السجون الراهنة.
إن حالة وصورة سجن عكاشة بالدار البيضاء، يجعلنا نتصور بسهولة ما يقع بين الآلاف من النزلاء فيه، و ما بين الاكوام المتراكمة من بني البشر داخل البيوت والعنابر من عذاب وتعذيب نفسي واجتماعي وصحي، وما يثور بينهم من نزاعات حول الحصول على متر واحد يصلح للنوم أو للجلوس، وما ينتشر من أمراض في بيئة تنقص فيها التهوية والشمس ووسائل التنظيف الكاملة والأكسجين، وما يتحمله الموظفون من ضغط وإكراهات يوميا قد لا تقلص من صبرهم على المدى المتوسط. ، وما يقع على المندوبية نفسها من ضغط من خلال صمت قطاعات اخرى لا يهمها السجن ، و هو ما يضعف قدراتها للبحث عن منهجية فضلى للاستجابة لوضعية كل نزيل في كل سجن.
أصواتنا بُحّت، وأقلامنا يئِسَت، ولا يبقى بيدنا سوى البحث عن تلقيح يسعف سجون المغرب من قوة الانفجار ….
الرباط: 22 يناير 2024