-ملفات تادلة 24-
سألوا يوما الراحل ذ محمد عابد الجابري عن ضرورة الفلسفة في العالم العربي، هل هناك ضرورة ملحة فعلا لدراستها ووجودها.. أم أنها مجرد شيء زائد لا فائدة من ورائه ..؟ سؤال كان قد طرح عليه قبل عقود خلت في سنة 1981..في مجلة الثقافة الجديدة التي كان يديرها كل من الشاعر محمد بنيس والشاعر عبد راجع وذ مصطفى المسناوي وذ محمد البكري …أجاب الجابري قائلا:
” …الواقع أن حضور الفلسفة في تاريخ البشري منذ أن أخذ هذا الفكر يتحرر، ولو نسبيا، من الهيمنة المتولوجية، يؤكد على أن هناك فعلا، من الناحية التاريخية، ما يبرر القول بضرورة الفلسفة: لقد فرضت الشروط الاجتماعية والتاريخية اليونانية نوعا من التفكير سمي فلسفة، وانتقل هذا النوع من التفكير الى العرب فكان جزءا من الفكر العربي الاسلامي بفعل حاجة اجتماعية فرضته، هي نفسها الحاجة التي فرضته في العصور الأوربية.لكننا، إذ نطرح قضية ضرورة الفلسفة فإن من الأفضل ،في نظري،ان تطرحها في إطار تجربة حضارية خاصة أو تجربة اجتماعية خاصة، بعبارة أخرى، لا افضل الحديث عن ضرورة الفلسفة هكذا بإطلاق، ولكن أفضل أن نقيظ الحديث عنها بالوضع العربي الراهن، فإذا طرحما القضية على أساس ماهي الظروف وما هي المعطيات التي تجعل الفلسفة ضرورية في الفكر العربي المعاصر أو في الوضع العربي المعاصر؟ اكتسى الطرح قدرا أكبر من الوضوح، وصار ممكنا تحديد شروط هذه الضرورة بكيفية أكثر دقة..”
نتساءل مع الجابري ،ماهي الظروف والعوامل التي تجعل الفلسفة ضرورية في المرحلة العربية الراهنة؟ ونحن نفكر مع الجابري في الموضوع ،نريد أن نتحدث عن نص آخر لمحنة الفلسفة وضرورتها في مجتمعنا.. لمفكر مغربي قدم قراءة معينة من خلال سرد ممتع تمتزج فيه الذات والموضوع بلغة سردي اقرب إلى السيرة الذاتية، ويحضر فيها الزمن والواقع المغربي بمظاهر الثقافية والسياسية والاجتماعية على الخصوص في مرحلة تاريخية معينة كان لها وقع كبير على مسار الفلسفة في بلاد الأندلس.. نعرف كيف أن الجابري خصص كثيرا من أبحاثه لدراسة ابن رشد الذي اعتبره محطة حاسمة في بناء علاقة خاصة بين الحكمة والشريعة ..وكيف قدم ابن رشد في نظره قراءة فلسفية تأويلية متميزة مغايرة للمألوف الفلسفي السائد في المشرق، قراءة ترسم مجال كل من الدين والفلسفة، بين الشريعة والحكمة وتحديد دورهما في بناء الحقيقة العقلية ..ذ علي أومليل يقدم لنا صورة عن رحيل الفلسفة من المغرب الى الأندلس ..وبلغة أقرب إلى لغة الرواية كما نجدها عند بعض الروائيين الذي يتقنون فن رسم تفاصيل الصورة والمشهد بتناقضاته ومفارقاته ..يقول ذ علي أومليل :
” نعش ابن رشد محمولا فوق دابة. وضع نعش الفيلسوف على كفة ووضعت على الكفة الأخرى كتبه التي الفها. خرج أهل قرطبة يشيعون الفيلسوف بعد أن استعادوا جثمانه من بعيد، من مراكش حيث مات ودفن. المتصوف ابن عربي على قارعة الطريق مع الناس يشاهد موكب جنازة ابن رشد، يعجب من تعادل الكفتين على ظهر الدابة، كفة الكتب وكفة جثمان مؤلفها الفيلسوف. الناس معجبون بغزارة التأليف وابن عربي يستخلص عبرة الصوفي: يقول مؤلفات الفيلسوف هذه لا تساوي جثة ميت! هاهو آخر الفلاسفة في بلاد الإسلام يشيع ومعه الفلسفة. ابن عربي يفرك يديه وهو يشاهد الفلسفة تشيع إلى مثواها الأخير. خلت الأجواء للتصوف، لأولياء الله يمتطون الريح ليصل الفجر في الكعبة ويعودوا إلى مكانهم قبل بزوغ الشمس. يركبون ظهور السباع تقطع بهم الفيافي، يمررون يدهم على السرير فيبصر، ويقيمون المقعد فيمشي….ومشى تصوف الخرافات على جثة الفلسفة. كيف اجتمع النقيضان في شخص ابن رشد، الفقه والفلسفة؟ للمرة الأولى في تاريخ الفكر الإسلامي وجد من يجمع الصدارة في العلمين معا، علم الفقه وعلم الفلسفة. لم ينتج عن هذا الجمع تركيبا للنقيضين، بل انفصام تامإن بينهما. الفقه والقضاء للوجاهة، وابن رشد سائل عائلة توارثت منصب القضاء وأمجاده في المدينة، لكن علم الحقيقة عنده هو العلم الفلسفي بمنطقه البرهاني. يدلي ابن رشد في المدينة بهويته فقيها قاضيا للوجاهة، حتى إذا ما ارتد إلى حقيقته فهو فيلسوف معتد به بهويته فيلسوفا. فصل بين الهويتين عن سبق إصرار. إمامه ارسطو.اتحذه إماما له من خارج أئمة الأمة. إمامه من أمة لم يكن يعرف عنها سوى فلسفتها المجردة، منزو الارض، زمان لا أبدية زمان البشر علىعة من النظام السياسي اليونان ونظامهم القضائي وفنهم وملامحهم وتاريخهم. لم يكن يعرف من كل هذه الأمور شيئا ولماذا يهمه أن يعرف. وهذه كلها في راي الفيلسوف أمور عرضية عرضة للتغير، في حين أن الحقيقة الفلسفية ثابتة ؟ ألم يقل شيخه أرسطو إنه لا علم حقيقيا إلا بما هو ثابت؟ العقل الفلسفي عقل كلي تلتف حوله عقول صفوة الفلاسفة من كل الأمم وقد تعالوا بعقلهم الفلسفي عن عرضية المكان والزمان والتي تجعل الامم والمجتمع أن تتميز وتختلف. التاريخ عند أرسطو ليس موضوعا حقيقيا للعلم، لأن موضوعه الزمان المتغير. ألم يخرجه من تصنيفه للعلوم رغم وجود مؤرخين كبارا في اليونان؟ .
دارت القرون ونصب التاريخ سلطان. صتر قانونا صارما وبدأ خفية. جرافا يشق طريقه في إصرار، يزيح الأنقاض، يهيئ الأرض للقوى الجديدة. صار التاريخ عند التاريخانيين هو العلم الأعلى الذي يفسر زمان البشر على الأرض، زمان لا أبدية فوقه ولا بعده، زمان حليف الثوار كما أراده الماركسيون. صار التاريخ ديوان الوعي الإنساني، خارطة الطريق النضال. لا شيء خارج التاريخ لا يستطيع تفسيره التاريخ. الناريخ عندهم سائر حتما نحو الأفضل، نحو تحرير الإنسان. طوب. جديدة بدلا من طوبى دينية قديمة. وكالكيمائي القديم الذي شغل الرباط والإبريق والإنبيق لاستخلاص الذهب من شوائبه أراد ابن رشد استخلاص فلسفة أرسطو من شوائبها، من كل القراءات الشرقية التي وضعها الشراح الإسكندريون وفلاسفة الاسلام. أراد صقلها خالية كما يستخلص الكيميائي الذهب من شوائبه. لا مجال لتعدد القراءات، بل النص الأرسطي هو وحده المتن ولايبقى سوى الشرح الاصيل به. ارسطو خاتم الفلسفة فلا إكمال للفلسفة بعده.لم يبق سوى الشرح، وابن رشد هو الشارح الأكبر كما سماه اللاتين.
ماذا يعني إذن توفيقه بين الفلسفة والشريعة في كتابه الشهير؟ لا يعني أنهما متكافئتان، الفلسفة عنده أعلى مرتبة. هو فقط يتحايل لإيجاد شرعية للفلسفة في عالم الإسلام ، هو يستعمل مصطلحات الشريعة كتأشيرة دخول للفلسفة .الدين عنده خطاب لعموم الناس . أما الفلسفة فهي شان خاصة الخواص أي الفلاسفة .عامة الناس عليهم ان يأخذزا الدين في حده الضروري ،ما يواقف أفهامهم، وضرورات عبادتهم ومعاملاتهم لا أكثر، أما ما يفعله المتكلمون الذين يدافعون عن الدين بحجج “فلسفية” هي فوق مدارك العامة، فإنه يفضي إلى تشتت الأمة .هؤلاء المتكلمون هم عند ابن رشد أشباه علماء ،خلطوا الدين بالفلسفة، فلا خدموا الدين ولا بلغوا شأو الفلاسفة .أما الفلسفة فليس يعنيها كسب العامة، لأنها شأن ذوي ” الفكرة الفائقة ” حسب مصطلح فلاسفة الغرب الإسلامي .ليس البشر سواسية في إدراكهم مدارك الفلسفة، فالناس درجات أعلاهم القادرون على التأمل الفلسفي ، وفي ذلك عدالة .العدالة في عرف القدماء لم تكن تعني المساواة ،وأن العقل قسمت قدراته بالتساوي بين الناس كما سيقول ديكارت، بل العدالة أن يحتل كل كائن إنسانا أو غيره المكان الذي هيأته له بطبيعته. أقصى ما يريده الفيلسوف هو أن يترك لشأنه، أن يكون في مأمن من العامة والفقهاء والسلطان. أو أن يحتمي من العامة والفقهاء بالسلطان وسيلته صناعة الطب. ألم يكن أغلب الفلاسفة أطباء؟ “.
هنا انتهى كلام ذ علي أومليل ..ولكن الجابري يشير إلى هذه المسار الذي قطعه ابن رشد بشكل اخر ولغو أكثر تحديدا ..ابن رشد هنا الجابري يتكلم عنه كممثل الفلسفة المغربية الأندلسبة ..لقد رأى الجابري في فلاسفة المغرب كإبن رشد أبرز ممثل لها أنهم وجدوا أنفسهم متحررين من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي حركت إشكالية زملائهم في المشرق ،لم يعد هناك مبرر ولا دافع لتلك المحاولات الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة سواء عن طريق الفارابي أو طريقة ابن سينا الكبير بل إن المشكل الذي طرح نفسه على فلاسفة المغرب في نظر الجابري كان بالعكس من ذلك تماما: لقد عمل فلاسفة المغرب وابن رشد واحد منهم على الفصل بين الدين والفلسفة ،إنقادا الدين والفلسفة سواء بسواء ..لا الدمج الذي قال به فلاسفة المشرق طلبا للوحدة الفكرية التي يراد منها أن تصنع وحدة المجتمع والدولة ..
يقول علي أومليل: ” إن ابن رشد لم يكن يثق بالتصوف، مثل فلاسفة الأندلس. قال الفيلسوف الأندلسي ابن باجة إن التصوف لو شاع وذاع لنتج عنه خراب العمران، لأن المتصوف إنسان غير نافع وغير منتج، عاطل بإرادته يعيش من كسب الآخرين ويحض على العطالة والبطالة ..”
ذ. التهامي ياسين
إحالات مرجعية :
ذ علي أومليل مرايا الذاكرة المركز الثقافي العربي. من ص 83 إلى 87
ذ محمد عابد الجابري نحن والتراث ..