التهامي ياسين: مفارقات العقل العربي عند عبد الله العروي (قراءة أولية لكتاب مفهوم العقل)

-التهامي ياسبن-

أزمنة وأمكنة

لماذا خصص ذ. عبد الله العروي منذ أن أسس مشروعه   التاريخي والاجتماعي والفلسفي.. حيزا كبيرا واهتماما خاصا لمفهوم العقل؟ ولماذا كان في كل كتاباته مهووسا بالعقل، ودوره في بناء “حداثة عربية إسلامية”..؟ لماذا اهتم في دراسته للفكر المغربي أيضا بالعقل؟  غير أننا ونحن نبحث عن مفهوم العقل تحديدا عند العروي في كتابه “مفهوم العقل”  للتعرف عليه ومناقشته فيه تعترضنا أسئلة مختلفة من قبيل مثلا : هل يمكن قراءة هذا الكتاب في استقلال عن باقي كتاباته المختلفة والمتعددة؟ بمعنى هل يتم التعرف على مفهوم العقل في معزل عن ما كتبه في مرحلة مبكرة جدا من القرن الماضي..أي حين كتب كتابه الشهير “العرب والفكر التاريخي” والايديولوجيا العربية المعاصرة” ..ومؤلفات مبكرة أخرى ذات مضامين مثيرة ومتميزة ، هي كلها تتعرض للعقل في الثقافة العربية الإسلامية ولمفارقاته وأزماته ورهاناته …بشكل كبير؟ لكن العروي يأبى إلا أن يفيد قراءه ومغرميه بسلسلة من “المؤلفات المفاهيمية ” في العقد الأخير من هذا القرن  كمفهوم الدولة ومفهوم الحرية ومفهوم الايديولوجيا ..الخ .وبخصوص كتابه الذي عنوانه بمفهوم العقل تحديدا ضمن هذه السلسلة .نتساءل أفي ذلك معنى و غاية يقصدها العروي؟ لاشك أن العروي يهدف إلى توضيح مفاهيمي” بيداغوجي ” لمن التبس عنده فهم مشروعه الكبير الذي عمر طويلا ومازال يقاوم كل التأويلات والقراءات.. التي انتقدته زمنا طويلا. سيما أن هذا المشروع يهدف فيما يهدف إليه إلى “العقلانية السياسية”؟ نعتقد أن تفرد “العقل” بكتاب كامل ضمن المؤلفات الأخيرة كاف في نظر المهتمين بمشروعه لإلقاء الضوء على موقف العروي من كثير من الدراسات والمواقف التي تعرضت للثقافة العربية الإسلامية في مختلف تجلياتها .

لن يسمح لنا الحيز في هذه الجريدة الوفية بالتعرض لكل ما يتضمنه الكتاب من تفاصيل هامة، ولكن حسبنا أن نقرب القارئ من المضمون الأساسي للكتاب.. فلنتساءل بادئ ذي بدء . ما الهدف من الكتاب؟ ونجيب عن ذلك بقولنا، أنه على حد تعبير العروي نفسه، حلقة من سلسلة الحلقات” مفهوم التاريخ، مفهوم الدولة، مفهوم الأيديولوجية… …الخ”، وثانيا هو يندرج ضمن مفهوم واحد وشامل ومركزي يشكل هاجس العروي هو مفهوم “الحداثة «. وثالثا أنه مقالة أساسية مطولة لكنها مفيدة في موضوع مفارقات العقل العربي الاسلامي. ورغم أن العروي كما يعتقد الكثير أنه ينتمي الى مجال البحث التاريخي، فهو ليس بحثا تاريخيا أكاديميا لمسيرة مفهوم العقل وتحولاته في الثقافة العربية الاسلامية، ولا أيضا نظرية فلسفية تخصصية فيه كما دأب على ذلك منظرو ومؤرخوا العقل في الفلسفة .. رغم أن القارئ اللبيب اليقظ قد يلمس هذا وذاك في هذا الجانب من الكتاب أو ذاك. الاشتغال على المفارقات.. هو أبرز ما في هذا المؤلف الهام الذي يشير العروي فيه إلى مفارقة معقولية عقيدتنا ولا معقولية سلوكنا؟!، ذلك أن العروي ينطلق في هذا الكتاب من ظاهرة اجتماعية أولا وهي أن المجتمع الذي ينتسب إليه ينطلق من العقل شعارات وأن ثقافته وثراته ثقافة عقل، بيد أنه يرى ان الواقع بعيد جدا عن العقل ..ومن قمة يشرع العروي في تقديم نماذج لغياب العقل في هذا المجتمع ..من بين المفارقات، مفارقة  بين كلمة “العقل” لدينا وبين كلمتي “logos” و “Ratio” لديهم، مفارقة كون المفهوم المطابق لمجتمعنا غير مكتمل والمفهوم المكتمل المطابق كليا لمجتمعنا. يقول العروي موضحا ذلك ” أتعرض في هذا الكتاب لهذه النقطة بالذات – يقصد جدل العقل والعلم داخل الفكر العربي المعاصر – لا أحلل مفهومي العقل والعلم إلا في هذا الإطار الذي هو إطار ممارستنا الثقافية اليومية، في الوجود والعدم في قالب الرفض والمناظرة اللفظية .” (ص17). وفي صفحة أخرى قبلها يقول : ” يبدو أن ظني كان خاطئا وإني كنت متفائلا أكثر من اللازم عندما قررت أن عهد المناظرات اللفظية قد انتهى “. .

والقارئ وهو يتوغل مع العروي في تدقيقاته المفاهيمية المعروفة يجد نفسه من الصعب استيعاب كل فكر العروي دفعة واحدة، لماذا؟ لسبب بسيط أنه يفرض عليك دوما إعادة القراءة وإعادة القراءة النبيهة إلى درجة حينما تقرر مغادرة الفكرة التي يطرحها تشعر أنك لم تكتمل لديك الصورة الواضحة حولها.. أو تشعر بضيق ما أو نقص ما ..ورغم كتابته لسلسلة المفاهيم يتوخى الوضوح والبساطة، فإن الأمر لا يخلو دوما من “قلق مشروع” ينتابك في مصاحبته وهو يسافر بك بسلاسة من مرحلة لأخرى في رصد المفهوم وتطوره.. ففي الجزء الأول من هذا الكتاب وفي تحليله للعقل العربي الاسلامي. يخلص العروي من خلال تحليله لبنية هذا العقل إلى اعتباره بنية محددة وذهنية عامة نعثر عليها لدى الفيلسوف والمتكلم واللغوي والمتصوف، ونموذج هذه الذهنية الذي يقدمه العروي هو محمد عبده الداعية الإسلامي المصري المعروف. الذي نشأ في بيئة “لا تكتفي بتحديد العقل بالمعقول”، بل تجعل هذا الأخير هو السابق. وهذا المعقول هو “العلم المطلق” سواء كان خبرا أو حكمة أو سنة أو سر إمام…كما ورد في صفحات الكتاب (96/99). وبناء على ذلك يخلص العروي بعد تحليل خاص ودقيق إلى الخلاصة  أو الاستنتاج العام التالي كما يقول : ” وهي أن حضور المنطق الأرسطي ،عند أنصاره المسلمين ،وعند خصومه لا يدل على ان الثقافة الإسلامية ثقافة عقل، لأن العقل الذي تختلف به مفهوم ملتصق بها ومفارق لما يعرف بنفس الإسم في المجتمع المعاصر. سمته أنه عقل المطلق لأنه وعاء لعلم مطلق. والعلم المطلق إذ لم يحدد، هو بالضرورة علم سابق على كل عقل”.

هذا الحكم التجريدي الذي يطلقه العروي على العقل العربي الإسلامي مدعوم بشكل عميق وبتحليل وتفكيك المادة التراثية، وأيضا مسنود بالمنطقي الحجاجي المعروف عند العروي..

وقد يتساءل القارئ مع العروي وهو يصاحبه إلى حيث يريد ..كيف يمكن الوصول الى هذا الحكم ؟ وهل العقل العربي محدود بهذه الحدود والمفارقات؟ أم أن هناك آفاقا يمكن فتحها وولوجها لمناقشته ومقاربته؟.

يستمر العروي وأنت تقرأ تحليله أنه يوضح ميزة هذه الذهنية العربية الإسلامية التي تكمن فيما يطلق عليه ذ عبد الله العروي ب ” عقل المطلق”. ولنتساءل ما هو المعقول الذي يحدد ويحد العقل عند المسلمين؟ هنا يمكن العودة إلى كتاب نقله العروي إلى العربية و المعنون ب “دين الفطرة” ويمكن الوقوف على عناصر فيه تفيدنا أيضا في التعرف على مفهوم العقل عند الغرب للمقارنة والفهم.. التعريف أو التحديد الذي يقدمه العروي في كتابه “مفهوم العقل” هذا حين يقول: ” كيفما كان العقل، سواء أخذناه في معناه اللاهوتي ” الدين الاسلامي عقل” بمعنى فطرة؟ أو أخذناه في معناه الكلامي عند المعتزلة ،الرأي والتأويل والاجتهاد، أي الفهم والتمثيل لدى الإنسان الفرد ، أو أخذناه في معناه الأشعري أي ” وجود عقل فوق كل فرد وقد يحل أحيانا في ذهن الفرد ، أو أخذناه في معناه الأشعري أي ” وجود عقل فوق عقل كل فرد وقد يحل أحيانا في ذهن الفرد لكن من مسلك غير عقلي…أي سكينة النفس” ..أو عن الفلاسفة كإبن حزم الذي يقرر أن “أن العقل هو ما يعقل العقل ويحده، لا ما يطلقه ويسرحه” كما هو وارد هذا السؤال في  (ص97) ، فإنه كفعالية إنسانية أو فوق إنسانية ،يبقى دائما مسبقا بنص أو خبر أو علم. حتى المعتزلة لا يخرجون عن هذا الحكم، ..رغم أن العروي يميز لديهم فيما بين الموقف والمذهب .فالأول يتصف بالعمومية ولا يؤدي الى اليقين بقدر ما يبقى عند حدود الاقتناع “لأن تخطي الإقناع إلى اليقين يؤدي بالضرورة إلى قلب العقل إلى لاعقل وإغراق العقل الفردي فيما هو غيره”. أما الثاني فهو البناء المدرسي المتبع أو السياسة المتبعة : “التي تهدف إلى عقيدة معينة”.. رغم هذا التمييز الذي يجعل من الموقف عقلا إنسانيا قادرا على الإقناع ومن المذهب دوغسا.. راكنا إلى اطمئنان النفس ، فإن ” العلم يتعلق دائما بخبر ، وأن عقد هذا العلم هو استحضار خبر حول حال أو حادث وهو ما يعرف بالنص” .هناك إذن ذهنية عامة في نظر العروي تتميز بالاستيفاء والحصر ، وتعتمد نظرية للعلم تجعل العقل موافقا لمعقوله، ولا تجعل منه أبدا منبع إبداع وإنشاء. والمهم في كل هذا هو أن معنى العقل هذا لا يتطابق أبدا والمعنى الذي نمنحه للعقل هنا والآن، وهذا هو أساس كل المفارقات. أساس يسميه ذ عبد الله العروي “عقل الزمن” ويقصد به ” التطور والتغير لا بمعنى الظهور بعد الكمون”، وإنما الاستمرار في الظهور ..أي التاريخ. “عقل المطلق” هذا لم يعرف جدل علماء الكلام فقط ومناظرتهم بل عرف أيضا ما يسميه المؤلف “عقل العقل”، وهذا الأخير هو صناعة المنطق بكل ما تحتويه من قضايا وموسوعات وآليات.. فإذا كان “عقل المطلق ” قد كيف العقل العربي وأدى به الى انحسار دائري لا مخرج منه، فما هو دور “عقل العقل” في تحديد ذلك العقل” ؟ ليس المشكل هو: هل صناعة المنطق في حد ذاتها تعرقل التوجه الى الواقع في كل زمان ومكان، وإن كانت شهادة التاريخ ترجم هذا الظن. المشكل هو : هل استيعابها في ظروف معينة، ظروف الترجمة والتعليم والتطبيق التي سادت في العالم الاسلامي، يعمل على العرقلة المذكورة أم لا؟”.

بعبارة أخرى، اذا نظرنا الى ما انتهى الانتاج الفكري الإسلامي من انحطاط، علما بأنه اعتمد في جزء كبير منه على البرهان لجاز أن نتساءل، هل البرهان دور فارغ؟ وبالتالي هذا الدور هو مايفسر الهجوم الذي طاله رغم أنه هجوم يقتصر على المتأخرين ولا يمس المتقدمين؟ بكلمة، ما علاقة العلم المطلق بالمنطق؟ هل طوع العلم المطلق المنطق لكي يوافقه أم بالعكس حدث ما هو طبيعي ومناظر وافترضه الكثيرون، أي أسس المنطق علما استقرائيا مستقلا انتج فيما بعد عقلا يوافقه”؟ من موقعنا التاريخي هذا، نقول إن الجواب متضمن في السؤال. ومع ذلك لابد من الإشارة إلى الظروف التي لمت بهذا الاختيار .لقد كانت نظرة الثقافة الإسلامية إلى المنطق الأرسطي حسب العروي نظرة انتقائية مقارنة بالنظرة الغربية ، لم تدرك مركز المنطق ضمن الثقافة اليونانية ، كما كانت نظرة جزئية وبالتالي قطاعية .هذا لا يعني غياب الثقافة اليونانية المحيطة بالمنطقة الأرسطي عن فضاءات الثقافة الإسلامية ، كما لا ينفي ريادة الأوائل في بسط هذا المنطق والاشتغال به. من هذا يستنتج العروي مفارقة مضاعفة: الأولى تتعلق بميل أنصار المنطق الأرسطي (بالنسبة للأستاذ محمد عابد الجابري في تحليله لبنية العقل العربي الإسلامي يستثني ابن رشد الذي ينفلت من هذا الحكم..) .إلى “العلم الأفلاطوني الثابت الذي يكون فيه منطق القول هو منطق الكون ويكون الكلام هو الحق عينه”. وبالنتيجة إلى نظرة أفلاطونية استنباطية. والثانية تتعلق بأعداء المنطق أولئك” الذين اكتفوا بقياس المماثلة وأعرضوا عن قياس الانطواء أو البرهان”، أولئك الذين قاموا فعلا باستقراء اللغة والشعر والنثر والفقه.. وكانوا أكثر وفاء لروح المنهج الأرسطي. الأنصار مزجوا بين المنطق والإلهيات في حين “استطاع الأعداء إبراز الجانب الاستقرائي في المنطق الأرسطي”. أو ليس هذه إحدى غرائب التاريخ الإسلامي؟ من نتائج هذه القرابة أو المفارقة حصر وتوقيف صناعة المنطق والعلم سواء عند الأنصار أو الأعداء. (ص127).

كتاب العقل، كتاب يشتغل فيه العروي على المفارقات ..داخل هذه المفارقات عقل logos ..(هوة ساحقة” هي بكل بساطة هي أزمة التاريخ ..) وهو ما يسميه العروي في موضع آخر بالتأخر التاريخي في كتابه العرب والفكر التاريخي)، ونجد الأمر نفسه عند الراحل ذ الجابري حين يسمي هذا المشكل أو التأخر بالفجوة الميتافزيقية في كتابه “بنية العقل العربي”. لكن يحلل ذلك محمد عابد الجابري في سياق فلسفي/انطولوجي ..خلاف العروي الذي يسكنه هاجس التاريخ والزمن ويمكن الوقوف في هذا الصدد على مفهوم التاريخانية عند العروي .

ويأتي هذا الكتاب كتاب مفهوم العقل عند العروي ليطرح من جديد وبكل جرأة وعقلانية واقعية …ما هو مسكوت عنه في ثقافتنا ومحتمعنا وحياتنا العربية الإسلامية الراهنة وما يطبع سلوك المثقفين والأفراد من مفارقات ..لا ندعي أننا أحطنا بكل فصول الكتاب، فقط عرضنا بعض مفارقات العقل العربي بعجالة، ونريد أساسا في هذه المقالة أن نشرك القارئ في التفكير في أسئلة العروي الأساسية، لتأمل كل عناصر مشروعه الضخم .. ولنقل باختصار:

إن كتابات العروي – كما يقول رودنسون – “أذكى بمائة مرة من الأشياء السطحية التي يغرقنا بها أولئك الذين يعتقدون أنهم يتمسكون بالوقائع بازدرائهم التفكير”.

ذ. التهامي ياسين

 

                        ***********

احالات مرجعية وإشارات:

* لم نتعرض لكل المفارقات التي ذكرها العروي في كتابه واقتصرنا على بعضها فقط.

– انظر كتاب العروي مفهوم العقل ..

-عبد الله العروي الأيديولوجية العربية المعاصرة دار الحقيقة بيروت .

– هناك مقالة استأنسنا بها وهي “جينالوجيا العقل العربي أو عقل الحداثة عند عبد الله العروي للأستاذ إدريس كثير.

– انظر مقالاتنا المختلفة في جريدة ملفات تادلة الصادرة حول عبد الله العروي..




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...