أجرى الحوار: خالد أبورقية
– يتابع العالم منذ أزيد من شهرين، مجزرة في فلسطين لم يسبق أن تابعها في بث مباشر، وبينما تتناغم أصوات مثقفين وأكاديميين غربيين، وخصوصا يهودا، مع أصوات المواطنين في الدول الأوربية والأمريكية، نجد أن المثقف في منطقتنا من المحيط إلى الخليج لا يكاد يسمع، كيف تفسرون هذا الأمر؟
لا يتعلق الأمر بالضرورة بغياب صوت المثقف في القضايا الكبرى. بل في عملية التغييب التي مارستها عوامل متداخلة، منها ما هو مباشر، ومنها ما هو مؤثر بشكل غير مباشر.
لقد تمكنت السلَط العربية الجديدة من جعل صوت المثقف خافتا، عبر إبعاده عن القنوات التواصلية الكبرى. ولك أن تتخيل مثلا أن مفكرا وفاعلا مهما مثل محمد عابد الجابري، لم يستضفه التلفزيون المغربي سوى مرة واحدة. أما المثقفون المعارضون الذين واجهوا السلطة بشكل جريء، فمرورهم في برامج التلفزيون أمر مستحيل طبعا.
لنترك السلطة جانبا. لقد استطاعت الخطابات السطحية أن تمارس حضورا طاغيا أخفى صوت العقل وجعل المواقف الفكرية لا تصل إلى الناس. وأنت تعرف مثلا عدد المشاهدات الذي يمكن أن تحققه متابعة قناة على يوتيوب لمثقف مغربي.
لقد نزل المثقفون المغاربة من أبراجهم العاجية منذ زمن بعيد، لكنهم لم يعودوا مرئيين ومسموعين.
إن الأشكال التواصلية الجديدة دفعت إلى مقدمة المشهد كل الخطابات السطحية التي كان حضورها متواريا، أو بعبارة أخرى لم تكن لحضورها تلك السطوة التي نراها اليوم.
أضيف إلى هذا عنصرا آخر هو اليأس. هناك حالة عامة من الإحباط تمس نفسية المثقفين اليوم. ثمة ما يشبه اليأس من وظيفة الثقافة في مجتمعات غير ثقافية. هذا الإحساس يضاعف الأزمة.
لكن بالمقابل لا بد أن نقول الحقيقة: أين سيقول المثقف كلمته ولمن سيقولها؟ معظم المثقفين نددوا بالعدوان وصرخوا وغضبو وأدانوا، عبر صفحاتهم على فايسبوك وتويتر وباقي الوسائط، لكنها صفحات لا يراها سوى العشرات. لذلك تجد بالمقابل أن العالم العربي كله تقريبا تفاعل مع كلمة لاعب كرة قدم مصري مشهور. قد تكون كلمته مفككة ونبرتها خافتة وجرأتها محدودة. لكنها كلمة مؤثرة، لأن عدد متابعي اللاعب أو المغنية أو مؤثرة اليوتيوب والأنستغرام بالملايين لا بالعشرات.
-شكلت القضية الفلسطينية في مرحلة السبعينيات والثمانينيات، ما يمكن أن نسميه “جواز شرعية” لعدد من المثقفين، لكننا في السنوات الأخيرة أصبحنا نلاحظ أن عددا من المثقفين يضعون بينهم وبين هذه القضية مسافة بدعوى “الموضوعية” أو “الأكاديمية”، في سياق يسمه التطبيع، إلى أي مدى تمكنت السياسة من رسن الثقافة؟
لك أن تتخيل كيف سيكون التفاعل مع القضية الفلسطينية بعد أن شاعت هذه القولة: “تازة قبل غزة”.
ليست السياسة وحدها هي الفاعل في هذا التحول. اين هم مثقفو السبعينيات؟ لقد انقرضوا. وحتى الذين بقوا حاضرين في الحياة الثقافية تغيروا وتغيرت مواقفهم. أو على الأقل خبت نارهم أو حرارتهم. كانوا مستعدين للدخول إلى السجن من أجل فكرة. منْ مِنَ المثقفين اليوم يريد أن يكون في السجن؟
مؤسسات الدولة في العالم العربي، خصوصا في بلدان ثرية، تتبارى اليوم في الاحتفاء بالمثقفين على طريقتها الخاصة، عبر الاستضافة في المهرجانات والحجز في الفنادق الراقية، والسفر في الدرجة الأولى للطائرات والجوائز والهدايا والتعويضات المالية. هذه الظروف كفيلة بترطيب وتليين صوت المثقف. كان غرامشي يتحدث عن المثقف العضوي. إننا اليوم أمام “مثقف ناعم”.
-يمكن أن نجازف بالقول أنه في كل المنعطفات التاريخية التي تمر بها التجمعات البشرية، أو المجتمع الإنساني عموما، وبشكل خاص خلال الحروب المدمرة، يتجه النقد في النهاية بعد السياسيين إلى المثقفين، بل إن السياسيين يتم نسيانهم لكن المثقفين تبقى وصمة مواقفهم، على أي شيء يدلل هذا الأمر؟
دائما تتم محاكمة المثقفين بعد كل حدث كبير. وهذا لا يعكس حقيقة وعي الناس وإيمانهم بالثقافة، إطلاقا.
لماذا لا يسأل الناس عن المثقفين إلا حين تقع الأزمة؟ لماذا لا ينتبهون إليهم في الظروف العادية؟
كان عبد الوهاب المسيري يقول: “المثقف عليه أن يكون في الشارع”، لكن على هذا الشارع أن يؤمن أيضا بالمثقف. الشارع العربي اليوم مزدحم بالتسطح ومشغول بفضائح الفنانات أكثر من انشغاله بمصيره.
-موضوع “خيانة المثقفين”، ليس موضوعا جديدا، وقد طرحه جوليان بندا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، في كتابه الذي ترجم بنفس العنوان وأحيانا بعنوان “خيانة الكهنة”، ولازال صداه يتردد ويتجدد، ما الذي برأيكم، بوسع المثقف أن يفعله أمام آلة حرب أو ماكينة ظلم؟
عبد الرحمن منيف قال باكرا: “في الظروف الجديدة تصعد إلى القمة أمة لا شأن لها بالمثقف ورؤيته”.
والشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا قال قبله: “عصرنا هو عصر البلهاء والمهرجين”. ماذا كانا سيقولان لو عاشا بيننا اليوم؟
-تراجع صوت وحضور المثقف وتأثيره في المشهد العام، وإن كان هناك من يربط هذا الأمر بالسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إضافة إلى تطور الوسائط التواصلية، لكن ما هو تفسيركم لغياب وتلاشي المؤسسات الثقافية كاتحاد كتاب المغرب مثلا، كيف نفسر عجز المثقفين حتى عن الحفاظ على حضور مؤسسات تنظيمهم الذاتي؟
موضوع المؤسسات الثقافية شائك وعناصره متداخلة. لكن مكمن الأزمة هو في المنطلق أو في الأرضية التي كانت تنطلق منها هذا المؤسسات. لقد تحول خطاب المؤسسة من الممانعة والمواجهة إلى الصمت وأحيانا التزوير. لا نريد من المثقف اليوم أن يواجه ويمانع. أصبحنا نتمنى على الأقل ألا يتحول إلى شاهد زور.
كان الترافع في السابق حول مفهوم الثقافة ووظيفتها. ثم تحول إلى ترافع ونقاش بل صراع أحيانا حول ما يمكن أن يتحقق من مكاسب من الحياة الثقافية، مكاسب ذات طابع مصلحي. وحين ينخفض سقف المطالب ينخفض معه سقف المؤسسة الثقافية، بل قد ينهار.