-خالد البكاري-
حين بدأ العدوان الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، غصت منصات التواصل الاجتماعي في بعض البلدان بالحديث عن تخاذل بعض ممن كانت “الجماهير” تنتظر منهم موقفا أخلاقيا أو قوميا أو وطنيا أو دينيا، لكن اللافت للنظر، أن “النقد الجماهيري” لم يكن موجها للمثقفين، وممن يفترض أن يكونوا بحكم موقعهم المعرفي هم صانعو الرأي، بل همت أغلب الانتقادات رياضيين من قبيل محمد صلاح المصري، أو “مؤثرين” في السوشل ميديا، أو خطباء جمعة.
وإذا كان من المفهوم تقبل نقد صمت خطيب الجمعة، باعتباره فاعلا دينيا، وباعتبار أنه ينسب لنفسه أو ينسب له من الأدوار والصفات، ما يجعله سكوته يصل إلى مقام عدم “الجهر بالحق”، والتخاذل عن “نصرة المظلوم”، والتكتم عن “بيان الحكم الشرعي” في نازلة مرتبطة بواحد من الأسس العقدية التي يقوم عليها المعمار الإسلامي، ونعني بذلك “جهاد الدفع” كما هي مبينة أحكامه في المدونات الفقهية والحديثية والأصولية، وكما كتب أحدهم ” كيف يصمت كثير من العلماء، وفي الوقت نفسه يستمرون في الحديث على أن العلماء هم ورثة الأنبياء، فهل كان الأنبياء صامتين عن الحق؟”
فإن من اللافت الذي يحتاج إلى الانتباه له، هو أن “الجماهير” لم تبحث عن موقف المثقف، واتجهت للبحث في تدوينات الرياضيين والفنانين، وتصنفهم إلى أبطال أو جبناء حسب درجة تعبيرهم عن التضامن مع الفلسطينيين.
إن “جماهيرا” تضفي على لاعب كرة القدم صفة “فخر العرب”، فمن العادي أن تشرع في عملية “جرج وتعديل”، ومحاكمة شعبية على قاعدة “ربط اللقب بالمحاسبة”.
إن لقب “فخر العرب”، ولو أنك لم تسع له، بل نحن من منحناه لك، يفرض عليك التزامات “معنوية” ورمزية، تتلخص في أن تكون أول معبر عن مشاعرنا ومواقفنا الجماعية، وإلا، فأنت خائن ل”سمو” ذلك اللقب، الذي حازه قبلك “القائد الملهم” و”خالد الذكر جمال عبد الناصر”.
هل في مثل هذه الأحداث، يجب محاسبة الحكام والمثقفين، وانتظار مواقفهم، والبناء عليها سلبا أو إيجابا، أم أن نولي الوجهة حيث يوجد شخص، لم يقدم أوراق اعتماده إلا بصفة لاعب كرة وكفى؟
طبعا، سيكون لانخراط الشخصيات الفنية والرياضية في فعاليات التضامن العالمي مع الفلسطينيين دورا مهما، في حملات التعبئة وفضح العدوان ومؤامرات الدول والشركات الكبرى، لكن التاريخ والأجيال المقبلة لن تحاكم فنانا أو رياضيا، لأنه تقاعس عن أداء واحد من “التكاليف الشرعية للنجومية”، قد تسجل “بمداد الفخر” أنه اتخذ موقفا مشرفا، ولم يعبأ بالخسائر المالية المترتبة عنه، ولكن في المقابل فإن مواقف الحكام والمثقفين ستسجل في “صحائفهم” التاريخية عزا أو ذلا.
لا زلنا لحد اليوم “لا نغفر” لسارتر سكوته عن جرائم المحتل الصهيوني، رغم أن له مواقف مشرفة في مواطن أخرى من الإمبرياليات والدكتاتوريات، ولكننا بالمثل لن نقلب أوراق التاريخ لنبحث عن موقف لاعب الكرة جيست فونتين من الامر نفسه، وقس على ذلك، كيف يحاكم الأرجنتينيون رمزيا وأخلاقيا لحد اليوم كل من شاركوا الطغمة العسكرية بقيادة الجنرال خورخي فيديلا في الانقلاب على الرئيسة إيزابيل بيرون، سواء من العسكريين أو السياسيين، وحتى من المثقفين الذين صمتوا أو برروا أو كانوا جزء من السلطة في الفترة بين 1976 و 1982، ولكنهم لا يدينون منتخب الكرة الذي فاز بمونديال 1978 في عز الديكتاتورية، ولا يحملونه ما لا طاقة له به، مع العلم أن تنظيم الأرجنتين لتلك النسخة المونديالية، والفوز بها، استغلته ديكتاتورية فيديلا لتنويم مطالب الشعب بالعودة للحكم الديموقراطي.
وقس على ذلك، النقاشات التي ما زالت مستمرة إلى اليوم حول التباس موقف هايدغر من النازية الألمانية.
لا يعني سابقا، أنني ألتمس عذرا للمثقفين، لكون أن العلة في “الجماهير” التي لا تعبأ بدور المثقف، وهو تبرير لطالما رفعه بعض المثقفين حين يساءلون عن أدوارهم النقدية الغائبة تجاه السلطة.
إن صفة المثقف تفترض من حاملها أن يتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والمعرفية، فلا يمكن لهذا المثقف أن يستمر في استثمار عائدها الرمزي وحتى المادي والاعتباري، دون أن يتحمل تكلفتها، إنه بهذا يشبه عالم الدين الخانع، الذي يشهر في وجهك ورقة “العلماء ورثة الأنبياء”، فيما سلوكه ومواقفه بعيدة عن نهج الأنبياء، الذين كانت الدنيا بالنسبة لهم محطة عبور نحو الآخر فقط. وليست لاكتناز الذهب والفضة، والتفاخر بالأموال والأولاد.
يجهد المثقف “التنويري” -زعما وليس حقيقة- نفسه في نقد أعطاب المجتمع وتهافت خطاب الشعبويات، وقد لا نختلف حول جزء كبير من ذلك النقد، ولكنه يجبن عن نقد السلطة، وعن نقد حتى أدوارها في تعميق الأعطاب المجتمعية، وفي إنتاجها بدورها لشعبويات شوفينية.
أما ما يحصل اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فيكشف عن وجه آخر من خيانة المثقفين (بالمعنى الأخلاقي وليس السياسي)، ذلك أن جزء كبيرا منهم، يمكن اعتبارهم من ورثة عشيرة ” قلوبنا مع علي، وسيوفنا مع بني أمية”، ذلك أن صمتهم أمام المذابح، أو في أحسن الأحوال إنتاجهم لموقف خجول ومتذبذب وضبابي، يختفي حول قناع ” التعاطف الإنساني مع ضحايا الحرب من النساء والأطفال والمدنيين”، دون تحديد المسؤوليات بدقة، ودون الانخراط العضوي في واجب التضامن والإسناد، ليس سببه خوف من السلطة الحاكمة، مما يمكن إدراجه في “الحق في الخوف”، وإن كان لا يليق بالمثقف، بل هو خوف على مكاسب مادية فقط.
جزء من المثقفين الذين يحسنون الحديث والكتابة والإبداع باللغات الأجنبية، صنعوا لهم شبكات مصلحية مع مراكز أبحاث غربية، أو مؤسسات للإعلام والنشر تشتغل بميزانيات ضخمة، او مع مؤسسات مدنية غير حكومية، وهؤلاء أصبحوا يخافون من أن تلصق بهم تهمة معاداة السامية، ويتم تصنيفهم على هذا الأساس، وبالتالي سيتوقف التعاون معهم، مع ما يجره من خسائر مالية.
وجزء آخر، أصبحت قبلة صلاته المعرفية أو الأدبية باتجاه الخليج، بعد تراجع جاذبية القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، لأسباب معروفة، وللأسف فإن المال الخليجي والإماراتي بالخصوص، قد يظهر للوهلة الأولى أنه يستثمر في المعرفة، من خلال المجلات الثقافية ومراكز الأبحاث والجوائز المغرية، ولكنه في العمق يفرغ الثقافة من أدوارها النقدية والتنويرية، ويصبح الكاتب حريصا على انتقاء كلماته حتى لا تثير غضب الراعي الخليجي، ولنتذكر كيف أن هبة مفاجئة حصلت بعد التطبيع الإسرائيلي الإماراتي، وأعلن البعض مقاطعتهم لجوائز الإمارات ومعارضها، ولكن بعد مدة قصيرة، عاد أغلبهم للحضن الإماراتي، واليوم هم يعرفون أن “نزغة” زائدة من التضامن قد تكلفهم إعراضا من الرعاة الجدد، أما الانتصار للمقاومة فقد ألغوا حتى الكلمة من قاموسهم.
طبعا ما زال الشرفاء من المثقفات والمثقفين مرابطين في خندق المقاومة الأدبية والفنية والمعرفية، لا يضرهم من ولى وجهته صوب أبو ظبي أو تل أبيب أو فقط مخفرا للشرطة بالمعنى الرمزي.