دراسةٌ في رواية “الزّمنِ المُوحش” لِحيدر حيدر(17/17) الزمن الموحش” رواية صعبة مُتعبة تصدُم القارئ العادي
-ملفات تادلة 24-
خاتمــة
هكذا جاءت الروايةُ جردا وتصفيةَ لمرحلة تاريخية بكاملها، مرحلةٌ من صنع الهزيمة (هزيمة 67) وتجديد البناء الاجتماعي والممارسة النضالية.
جاء “الزمن الموحش” ليؤبن مرحلة كاملة، ويفتح الصفحة على أبواب مرحلة جديدة، يبدو فيها الصراعُ مريرا بين الفرد والمجتمع والتاريخ. إنّه “الزمن الموحش” فماذا بعد؟
هو ذا السؤال الذي ينطلق من فضاء عالم هذه الرواية هاتكا ومدينا، إنه النفير.
إنّ مقاربة هذه الرواية في أيّ جزءٍ منها يُوقع في وهم كبير، لكنّ الجريرة الدنيا لن تكون فقط تشويه جماليتها وشرخ عالمها، وتدمير بنيتها الكلية الشديدة الانسجام والتماسك. إنّها تمدّ لسانها إلى مرحلة، ولكنْ ليس بالشماتة والتفجّع حدّا لتتلذّذ بآلام الآخرين.
إنّ رسم الموقف الجدريّ منْ كل ما يضجّ به الواقع الموضوعي هو خطاب التخييل هنا.
وبالمقارنة العميقة، وضمن الوضعية العامة لأحداث الرواية وفضاءاتها وشخصياتها، بَدَت أسبابُ السّرد وسيطا بين التّشكيل اللّغوي والبنية النصية، لأنّ السّرد الذي حاولْنا مقاربتَه ليس هو السّرد في معناه الكلاسكي، وإنّما السّرد الشّعري الذي يمزج بين ماهية الشعر وماهية النثر على السواء.
السرد الذي لا يفصِلُ فصلا حادّا بين النوعين، ولكنه يُمثل نوعا ثالثا يحمل سماتٍ من كِليهما، تكاد تتساوى في عمقها ودرجة تأثيرها، فالأمر برُمّته وإن بدا سردا لذاتٍ ضمن جماعة، إلا أنّ مفرداته المركزية اعتمدت بُنى الشّعرية، من خيالاتٍ وتكثيفٍ في الرؤية وغموضٍ بمعناه الشعري، فلم يكن التّقدم سهلا رغم اللّهف والأغنيات والأطفال وبساط الريح والنبوؤات العتيقة.
لقد هدأ الإعصارُ (حرب 67) وبقيتْ أثارُه داخل النّفس مخلّفا الحطامَ والسّكينة، وغبار الحزن الطّللي، وهو ما أكّد أنْ ليس في هذا السرد حكايَةَ (قصّة) تُحكى على النّحو المعروف المألوف، حتى ولو كانت تقنياتُ الحكاية هي تقنيات الحساسية الجديدة، من تشابكٍ للواقعيّ والحلْمي، وتداخل الأزمنة وشاعرية اللغة الروائية، والتباس الأسئلة وكسْر النّمطية، وتفتيت الشّخوص، والأحداث إلى آخر ما كرّسته كتاباتُ “الحساسيّة الجديدة ” من تقنيات وطرائقَ للسّرد.
لقد مثّلت روايةُ “الزمن الموحش” نمطا مهمّا منْ أنماط الشّعرية الروائية، إنه نصّ مفتوحُ المواجع والمسارب، ملتبسُ المنعرجات، ولكنّه قام على نواةٍ محوريةٍ غائرةٍ هي مساءلةُ الذّات الفارقة تاريخيا.
ففي سرد الذّات بدت لنا الحكايةُ (القصّة) كما لو كانت نصّا شِعريا غنائيا، يُعبِّر فيه الروائيّ-الشاعرُ- عن علاقتهِ بالكون والحياة والأشياء من حوله، ويناقشُ رؤاهُ وفلسفته، ويطرح أسئلتهُ وهمومَه الفكرية.
ولأنّ روايةَ ” الزمن الموحش” تُريد أنْ تكون رواية شِعرية، ورواية كُلية تطرح القضايا والهمومَ، فقد ظلّ خطابُها يتوسّل بغلائلَ شعريةٍ تنمو صوب التعبير عن ” الجوهرية” بلا وسائطَ أو بنيان، يحد انطلاق العشقِ والبوح والحقد والتمرد الصادرة عن السارد المتكلم” (1). لقد عكست هذه الفردية نفسَها على البناء الروائي فأدّت إلى خلخلته، فليست في الرواية أحداث هامةٌ، هي مشاهد ومقتطفات من حياة الشخصيات، وهذا يبين الهوة القائمة بينهم وبين المجتمع وربما كانت هذه اللغة الشعرية المكثفة، وانعدام الحدث الروائي يهدفان إلى الابتعاد الكامل عن العالم والغرق في أبراج الحلم الذاتي، فالقارئُ يُحس بافتقاد الرواية إلى التطور العضوي من الداخل، كما أنه لا يجد ما يغريه بمتابعة القراءة إلا إذا كان مهتما بالموضوع السياسيّ، وهو اهتمام يأتي من خارج الرواية، لهذه الأسباب كانت ” الزمن الموحش” رواية صعبة متعبة تصدم القارئ العادي.(2)
يمكن القول إن السرد في رواية ” الزمن الموحش” يتسم بالغموض والكثافة والتعقد، في جانبه الشعري، وهي سمات أمكننا رصدها من خلال الوقوف على أهم مظاهر السرد الماثلة في الرواية، وهي مظاهر بلا ريب، تُؤشر على خصوصيةٍ جماليةٍ وإبداعية تستلزم تضافرا نظريا ومنهجيا لحقول عدة، تتلاقحُ فيها السّرديات واللسانيات وشعريات الخطاب لتشييد مقاربة جديدة لشِعرية السّرد الروائي.
فاللّغة في ذاتها تحمل أبعادَها وتشكيلاتها الجمالية التي قد ينتمي بعضها إلى الشّعر وبعضها إلى الرّواية وبعضها إلى المسرح، وهو انتماءٌ ليس نهائيا، وإنّما هو انتماء جماليٌّ، قدْ يتغيرُ منْ عصرٍ إلى آخرَ، ومن بيئةٍ إلى بيئة بحسب عامل التلقّي الذي يُمثل مكونا أساسيا من مكونات التحديد الجمالي.
ذ. برنوص عبد الحكيم
———
1 – محمد برادة: الرؤية للعالم في ثلاثة نماذج روائية، مجلة الأداب ع 2/3 ص 45.
2 – شكري عزيز ماضي، انعكاس، هزيمة حزيران على الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنثر، بيروت 1987/ص48/103/105/179