-أسامة بحري*
انتبهت السوسيولوجيا كما يقول ذ. الابراهيمي منذ فتراتها المبكرة لفكرة البناء الاجتماعي للجنس، وخصوصا مع مارسيل موس، الذي سبق وأن أثار فكرة البناء الاجتماعي للجسد وتقنياته، فبالنسبة لموس تختلف تمظهرات الجسد من مجتمع لآخر ” طريقة المشي، مسك اليد، النوم ” فهي ليست ظواهر طبيعية، بل ظواهر اجتماعية بامتياز، تتشكل عبر التربية وتجعل العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي علاقة ضيقة، و يتميز الجسد حسب موس بطابعه الشمولي والأكثر من ذلك أنه يعكس لنا أثر المجتمع في الجسد، وخصوصا البناء الاجتماعي للجنس.
فما يميز الذكور والإناث أذا، ليس تقسيم العمل الاجتماعي كما يرى دوركهايم، بل نجد أن المجتمع هو من يضع نظاما من التمييز بين الذكور والإناث، و يتأسس ذلك على ما سماه هو تقنيات الجسد وخاصة تقسيم تقنيات الجسد بين الجنسين، وهو نتاج تكوين تاريخي طويل من تكوين المرأة، فهو ليس تصور طبيعي بل هو عبارة عن تصور اجتماعي، تحول بدوره على شكل تصور كوسمولوجي، ويظهر ذلك في التقسيمات الاجتماعية للجنس في العالم، فقد اتفق معظم المفكرون كما يرى د الإبراهيمي على أن المرأة توجد داخل المجتمع في وضعية أدنى من المكانة التي يحتلها الرجل، سواء المكانة النفسية أو المكانة الاجتماعية أو البيولوجية.
وهنا عرض لنا ذ. الإبراهيمي بعض التفسيرات التي عرفت دور المرأة بالمجتمع ومن بينه التفسير البيولوجي الذي يعتبر أن المرأة بويضة في المنزل، أما الرجل فهو حيوان منوي فاعل، زد على الجانب النفسي الذي يعتبر أن الأنثى كائن يصاب بصراع مع نفسه لأنه منذ نشأته يرفض طابعه الانوثي لأن كل شيء فيه يوطد تفوق الذكر عليه، أما الجانب التاريخي فيعتبر أن المرأة من الناحية البيولوجية، كانت درجة تملكها للعالم، أضيق من الذكر، و في هذا الصدد سيستشهد ذ. الإبراهيمي بسيمون ديبوفوار مناقشا التفسيرات الأنفة، مسلما بأن التفكير العلمي في معنى الأنوثة يخضع لنفس المنطق الاجتماعي الذي يعتمده الأفراد في بناء الجنسين، وهذا ما يعني لنا أن الجنس ليس معطى طبيعي، بل هي ظاهرة تستند إلى تاريخ طويل من العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي، و هذا ما اتفق عليه بورديو أيضا، حينما اعتبر أن التقسيمات الجنسية التي تستدمج في الذهن والجسد، نتاج عمل طويل من إضفاء الطابع الاجتماعي على البيولوجي، فالثنائيات التي يقوم عليها الاجتماعي ك ” اسفل / اعلى ، قوة / ضعف ، جاف / رطب ..” تؤسس تمثلا اجتماعيا مستدمجا في الجسدين الأنثوي والذكوري، وهو ما يجعل من الانثى أسفل، ضعيف، صلب، شمال، هش، على عكس الذكر الذي له هابيتوس القوة والعلو والصلابة والخشونة، وهو ما يجعل من الانثى رمزيا قرينة بالمرض، وإلى كل تمظهرات الهشاشة والحاجة إلى العناية، على عكس الثاني أي الذكر الذي تنحوا به استعدادات القوة والصبر إلى التحلي رمزيا بالقيم البيولوجية والاجتماعية.
الصحة والمفارقة في المعتقد بين الجنسين:
رصد ذ. الإبراهيمي في مجتمع الدراسة الذي اعتمد على فهم بنياته، فكرة غاية في الأهمية وهي أن الذكور يمنحون خصائص اجتماعية تمرر عبر التنشئة وهي ما تجعل من الذكر مقاوما للمرض، وذو قيمة إيجابية وبيولوجية واجتماعية لمقاومته، و هذا ما بينته رحمة بورقية، في تعزيزها لفكرة أن المجتمع هو من يجعل الأنثى أسفل وذلك من خلال نسق المعتقدات واللغة والأمثال، والتي تربط دائما الأنثى بالضعف faiblesse، وهنا رصد لنا ذ. الإبراهيمي في الصفحة 266 من المحور الذي نحاول تبنيه في كتابة هذه الورقة ” صحة الذكور وأمراض الإناث “، كيف أن المجتمع يفقد في كل 10000 ولادة 148 أم ، وهو ما يقدم لنا بيانا على خبر غير سعيد اتجاه المرأة، والخدمات الصحية الموجهة للنساء، والتي تعتبر أكثر ضعفا.
وهذا يتعزز بموانع ثقافية، وحضر هذا الضعف الصحي الموجه للنساء في التاريخ أيضا، فنجد أن الموت عبر التاريخ مرتبط بالأنثى، بسبب الإقصاء والتهميش التي تتعرض له، وهنا استشهد ذ. الإبراهيمي بإحصائيات وباء الطاعون 1800-1798، التي انتصرت إلى فكرة أن الوباء ضرب أول مرة الشباب ثم النساء، ولا يمكننا طبعا أن نغفل في هذا الصدد أن الاجتماعي العفوي حاضر في كل ما يبدوا لنا علمي، وهذا طبعا ما تبينه هذه الإحصائيات التي اعتبرت أن الجسد الانثوي هو كالجسد اليافع، القابل للموت والمرض.
وهنا انتقل الباحث الإبراهيمي إلى أقوال المبحوثين التي وطدت الحضور القوي للعنف الرمزي الموجه نحو المرأة، ففي هذا الصدد يقول مبحوث ” عادة تمرض المرأة أكثر من الرجل، إنها ليست قوية مثل الرجل، فالله قال إن الرجال قوامون على النساء، الرجل قوي على المرأة حتى عندما يمرض فانه لا يحس بينما المرأة تمرض بسرعة 1 ” ، وقد علق ذ. الإبراهيمي على هذا القول بأنه قول يحمل الطابع العام للخطاب الاجتماعي حول الجسد الذكوري من حيث أنه مصدر القوة و الصبر، وهذا أيضا ما عززه ذ. المختار الهراس في دراسته لقبيلة انجرة، و هو أن الصبر داخل مخيال المجتمع المغربي ذكوري بامتياز، وطبعا كما يتضح لنا، تعتبر هذه الدراسات الميدانية تعزيز لكل ما سبق وأن قيل ، وهو أن كل هذه الفوارق الرمزية لا تخلوا أبدا من انتاج التقسيم الاجتماعي للخصائص الجنسية.
فإذا كان الخطاب الاجتماعي ينتصر للذكورة، فإنه ينتصر في الآن ذاته لضعف النساء ، وهذا ما عبرت عنه أحد المبحوثات، مسلمة بأن الإناث قابلات للذوبان ” المرأة كاذوب بحال الزبدة ” و هذا ما انكب عليه ذ. الابراهيمي لفهمه من الملموس عبر مقابلات عديدة مع الافراد، فقد بينت المقابلات أن 50٪ من مجموع المبحوثين، انتصروا لفكرة أن المرأة قابلة للمرض على الرجل، و 22,4 ٪ اعتبرت أن الذكر أكثر استعدادا للمرض على الأنثى، و25,6٪ اعتبروا أن المرأة لها نفس قابلية الرجل للمرض بحكم انتمائهم لنفس النوع.
وهنا سيخلص ذ. الابراهيمي أن الصحة في المجتمع المغربي، ذكورية بامتياز، وبعدها سوف ينتقل ذ. الابراهيمي إلى تبيان واقع مغاير على ما عرضناه أعلاه، و هو أن مؤشر أمد الحياة بين الذكور والإناث، يضرب عرض حائط في كل ما سبق وأن رصد من أقوال المبحوثين، فنجد بذلك أن النساء يتفوقن في كل من المجال القروي والحضري في مؤشر أمد الحياة، لكن هذا لا يعني لنا حسب الدكتور ابراهيمي، أن النساء قد تفوقن بهذا المؤشر عن الذكور، بل على العكس من ذلك كما بين لنا الباحث فمن خلال الاطلاع على جل المعطيات التي تقدمها وزارة الصحة، والتي تربط علامات وأعراض المرض بالإناث، سنسقط مرة أخرى في أن المرض في المجتمع المغربي أنثوي بامتياز، بحيث أن هنالك وعي ثقافي صحي عام يوحي بأنثوية المرض بالمجتمع المغربي، فالاختلاف أذا بين الذكور والإناث في نقطة الصحة والمرض هي نقطة كيف، ففكرة أن المرأة كائن هش هي ذات بنية ذهنية ثقافية تتشكل على شكل نسق من الضعف والرقة والتي تربط المرض بها، وهذا طبعا ما عززه بورديو قائلا ” إن نظرة الإنسان إلى العالم والطبيعة هي ذو نظرة شبه جسمية .
1- د زكرياء الابراهيمي – الصحة و المجتمع – الفصل الرابع – صحة الذكور وأمراض الإناث
*طالب باحث في علم الاجتماع