-أسامة البحري*
لمعالجة موضوع الاستبعاد الاجتماعي الذي يتعرض له المختلون العقليون من زاوية اجتماعية، لا بد من العودة إلى أهم الأعمال التي عالجت هذا الموضوع من زاوية سوسيو تاريخية، ومن بينها عمل ميشال فوكو تاريخ الجنون، فبالعودة إلى الفصول الأولى من هذا العمل سنجده قد خصصه للعزل الذي تعرض له” الحمقى” من طرف المجتمع عبر التاريخ.
ففي القرن الخامس عشر كانت حادثة “سفينة الحمقى”، من أهم الحوادث التي عبرت عن الاستبعاد الذي يمارسه المجتمع اتجاه الممارسات التي قد تخالف القواعد التي تشكله، فهي تعبير حسب فوكو على المصلحة الفرددية التي تجعل مجتمعا بأكمله يستغني عن أجزاء منه من أجل مصلحة الباقين، بحيث كان يتم تسليم “الحمقى ” إلى بحارة يبحرون بهم بعيدا عن المجتمع.
فقد جمعت القرون الوسطى بين اللاعقل و”الجنون”، بحيث تم الربط بين اللاعقل وبين فساد المجتمع، وبهذا فلا شك أننا نلاحظ أن داخل المجتمعات يعتبر الغبي والبليد والمعتوه والكسول والأحمق جميعا مجانين، وذلك من خلال تأثر المجتمعات بالتطور الذي شهده تاريخ الإنتاج الفكري، ففي القرن السابع عشر ظهر مستشفى المجانين، ليصبح المستشفى مكان الإبحار، ولكنه كان غريبا حسب فوكو لأنه لم يضم فقط المجانين بل ضم أيضا، البخلاء والغارقين في اللاعقل والمبذرين.
فقد أصبح السجن أو الحجز هو التصرف اللائق اتجاه المجانين، بحيث هو الحل الذي خلصت له الفترة الكلاسيكية، وأصبح السجن هو الحل للاعقل وأصبح الحمق واللاعقل مرادفا للخطيئة، وأصبح الجنون جريمة ويرتبط بانت “إنسان مشاكس” أنت ” إنسان سيء”، فبما أن للمجتمع ضوابط وقواعد فإن مخالف هذه القواعد يعتبر مجرما، وبما أن “المجنون” يربط في المخيال الثقافي باللاعقل، فإنه يصبح بذلك أداة لقياس كل ما هو غير مالوف.
ورغم التطور الملحوظ الذي عرفته المجتمعات من حيث التضامن، والوعي والتطور الملحوظ الذي جعل الإنسان يتحول من حالة وحشية إلى إنسان ينطق ويكتب والأكثر من ذلك يتواصل، جعلت الإنسان، ينتج عوالم رمزية وصور مخيالية أنتجها هذا الإنسان حول الحمق تماما، كما أنتج صورا مخيالية حول الشياطين وحول السحر إلخ، فالصور المخيالية التي تتأسس اجتماعيا وثقافيا حول الأحمق هو أنه كائن لا روابط اجتماعية وثقافية وذهنية تربطنا به، وهذا ما يجعل كل أنواع الاستبعاد والإقصاء تحيط به داخل التفاعلات الاجتماعية، لكن بالقرن الثامن عشر حسب فوكو بدأ الوعي اتجاه الجنون يأخذ مسارا من الفحص لكنه رغم ذلك فلم يكن متماسكا.
وقد ظل تعريف الحمق رهينا بغياب العقل والانزياح عنه، وقد كانت العقلانية الناتجة عن الثورات الفلسفية قد أعلت من قيمة الأفكار وغيبت بذلك كل من لا يفكر، بحيث أصبح الأحمق مكانه هو الاختفاء عن الأنظار، وقد اعتبر بعض المفكرين في العصر الكلاسيكي أن روح المجنون مريضة، ولكن بعد الثورة الفرنسية حسب فوكو لم يعد سجن للمجنون، بعدما أعلن عن حقوق الإنسان، وستعرف انتقالها إلى مستشفى الطب العقلي في القرن التاسع عشر، بحيث سيصبح مصطلح المرض العقلي، مكان الجنون.
ولكي نفهم لماذا لازلنا نلاحظ داخل مجتمعاتنا العربية ومجتمعنا المغربي تحديدا، اللاستبعاد الذي يتعرض له المريض العقلي، وجب علينا تفسير الاجتماعي بما هو اجتماعي كما يقول دوركهايم، فمن بين القواعد المتعارف عليها داخل السوسيولوجيا وهي أن الكائن الاجتماعي هو رهين بما يمليه عليه مجاله الاجتماعي الذي يتواجد فيه، وينفرد المجال الاجتماعي بخصوصية ثقافة الأفراد وما انشؤوا عليه، فكل فعل عفوي ينتجه الإنسان هو نتاج ما سبق وأن تربى عليه الفاعل، ونتاج الشروط والمحددات الاجتماعية والثقافية التي يتواجد داخلها، فيعتبر الوعي الصحي مجتعنا المغربي، وعيا تقليديا وهذا ما سبق وأن رصدته العديد من الدراسات السوسيولوجية بمجتمعنا، بحيث أنه رغم التطور الملحوظ إلا أننا لازلنا نلاحظ الصراع التقليدي والحديث في نقطة الصحة والمرض، وهذا إن دل فإنه يدل على غياب تحسيسات توعية اتجاه الموضوع.
لكل ذلك لا زلنا نلاحظ تعامل الأفراد مع مواضيع غاية في الأهمية بما يمليه عليهم الوعي الثقافي الجمعي، وتماما ينطبق الأمر على المريض العقلي الذي لازال يفسر على أنه ممسوس، وأن علاجه يجب أن يكون على أيدي الفقيه أو الراقي، ويعتبر استمرار الرقية كما بينت بعض الدراسات، هو التفسيرات الدينية المستمرة التي كانت تعلوا على بعض الممارسات التي ظل الإنسان المغربي متخبطا فيها كالشعوذة وزيارة الأولياء…
وفي خضم هذا الصراع الذي كان قائما خصوصا في تسعينات القرن الماضي بين عادات الإنسان المغربي القديمة والتفسيرات الدينية، لم يكن بذلك للعلم صوت أو مكانة ليدلي برأيه ولكي يحاول أن يعالج هذه المواضيع من زاوية حداثية وعلمية تليق بالتطور الذي شهده الإنسان، ولذلك فإن الوصم الذي لازال يشهده المريض العقلي، هو ناتج عن بنية ذهنية ثقافية، وهذا ما تبرهن عليه بعض العادات التي زالنا نلاحظها في البيوت المغربية كتخويف الأطفال الصغار بالمريض العقلي “بوعو” ، وهذا نتاج ربط الأفراد، المريض العقلي بالمس والجن “عيشة قنديشة، حفارة القبور ..” ، وهذا كما سبق وأن قلنا هو نتاج انعدام وعي تحسيسي وخطة لتوعية الأفراد اتجاه المواضيع النفسية والصحية عموما، فقد نقول إن وعينا بالامور النفسية والصحية هو شبه منعدم، وذلك للأسباب سالفة الذكر وهي غياب الوعي وغياب التوعية.
وحينما نقول غياب الوعي، فإننا نقول اكتساح الوعي الثقافي للشؤون الاجتماعية من تفاعلات تفكير، فلا شك أن نلاحظ رفض المواطنين والمواطنات استشارة طبيب نفسي للأسباب سالفة الذكر، وهي أن الوعي الثقافي يعتبر المرض العقلي مسا من الجن، زد على ذلك أننا نلاحظ كل سنة أن قطاع الأمراض النفسية والعقلية يشهد بنية تحتية هشة، والتي تدفع بالمؤسسات إلى حمل المرضى وتركهم بين الناس بدل محاولة علاجهم بأحدث ما ينتج سنويا من عقاقير وأدوية، وكذلك العلاجات السلوكية، ولذلك فإن الوصم الذي يتعرض له المريض العقلي هو نتاج الكل، أي نتاج المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي لا تضع ضمن تفكيرها وعملها خططا تووعية لصحة الأفراد، زد على ذلك العامل الثقافي الذي لازلنا نشاهد اكتساحه للعديد من الشؤون الاجتماعية.
*طالب باحث في علم الاجتماع