-لحسن أيت الفقيه-
الفقر ظاهرة سوسيواقتصادية قابلة للقياس اعتمادا على ثلة من المؤشرات. والظاهرة تتراءى أيضا في بعض المظاهر، وإن كانت مخادعة، كمستوى المعيشة للسكان، ونمط الاستهلاك، ودرجات الحرمان. إن رصد ظاهرة الفقر أمر ممكن، لكن بدون اعتماد مؤشرات رقمية، فالحقيقة المستخلصة من الرصد لن تكون واقعية. ومكمن خداع الرصد في استفحال ثقافة الجوع ورسوخها في المجتمع المغربي. ولا غرابة في ذلك فالمغرب شهد في تاريخه منعطفات تاريخية عسيرة وراءها الجوع والوباء والجفاف، حتى كاد تاريخ البلد سمته تاريخ المجاعات والأوبئة.
كلنا عاجز عن رصد الفقر في مجتمعنا، فلا ملبس يعبر عنه ولا مسكن ولا مستوى العيش. ولو اهتدت إحدى المنظمات المحلية أو الأجنبية لرصد عيش مستوى العيش والاستهلاك من خلال تمحيص مكونات القمامة المنزلية خلال أمد زماني معين، كاف للإحاطة بالمطلوب من عينة الاختبار، لكانت النتيجة مجانبة للحقيقة الواقعية. ذلك أن الاستهلاك محكوم عنه بالطابع السيكولوجي، ويتمثل في الخوف من الجوع. وأما نمط العيش فمحكوم عنه بالثقافة التي يغذيها الزهد والتصوف والتقشف.
إن أزمة اليقين ملازمة لدراسة الفقر في المغرب بفعل إكراهات ثقافية ونفسية. أتذكر مجتديا في السبعينيات، يطوف بحوض زيز، ويقضي لياليه في الكهوف والأضرحة، ولا يكتسب سوى حمار ونتاع قليل. ولما هلك، اجتمع بعض المحسنين لتبادل الرأي في موارد مالية تكفي لدفنه، غسله وكفنه. وبينما هم في مراء ساخن لغاية دفن المتشرد الهالك سألهم أحدهم: كيف تتصورون متسولا قضى جل حياته طالبا الجدوى ولم يورث عنه مال كاف لدفنه؟ فهل بحثتم في أغراضه، ولم تصادفوا مالا؟ وبالفعل عثروا على رصيد مالي مهم ثاويا في طية ببردعة حماره. فالمهمشون، وإن فضلوا الحياة في الهامش، تملكهم ثقافة الادخار. ومعنى ذلك أن ثقافة الادخار تبطن الثروة وتظهر الفقر، وبدلك تنشئ مشهدا مخادعا لرصد الفقر في المجتمع.
وفضلا عن صعوبة تحديد الفقر انطلاقا من مظاهره سهلت معاينة التوزيع النطاقي للفقر على خريطة المغرب للعلاقة ب التناسبية بين موارد الطبيعة وفرتها وندرتها بنمط عيش الإنسان. وتعد خريطة الفقر تجسيدا لمؤشرات ثاوية في تقارير التخطيط على المستوى الوطني والدولي. كلنا يعلم أن المغرب يشكو من أزمة العدالة المجالية. وكانت الحماية الفرنسية أسست لثنائية المغرب النافع بخيراته الفلاحية والمغرب غير النافع الفقير إلى موارد الطبيعة. وحتى إذا استحضرنا، كما يرد، أحيانا، على لسان بعض المهرجين أن جهة درعة تافيلالت غنية لأنها تختزن 56 في المئة من الثروة المنجمية الوطنية، فإن تلك الجهة لا خلاق لها في تلك الثروة مادامت الضرائب تدفع ببلدية المعارف بالدار البيضاء حيث توجد مقرات الشركات المستثمرة. وإذا أردنا تصنيف المغرب، ووفق سياسة التهميش، نلفى المناطق الجبلية أكثر فقرا في المغرب لاستفحال انجراف التربة، واجتثاث الغابات، وصعوبة المسالك وهشاشة البنية التحتية الطرقية، واعتماد الاقتصاد على الرعي الذي يتأثر دوما بتعاقب سنوات الجفاف والتغيرات المناخية. فالجبال تحتضن وحدات سوسيومجالية تتخبط في أهوال التخلف. وإذا استثنينا بعض الجماعات التي تستفيد من الشريط الغابوي وبعض المؤهلات السياحية نحو جماعات إقليم إفران فجل الجماعات بالأطلس المتوسط الهضبي والأطلس الكبير كله، تكاد تكون مجردة من الموارد الطبيعية، وحسبنا نسبة الفقر بجماعة أنمزي التي بلغت 56 في المئة. ولقد فضح زلزال يوم 08 من شهر شتنبر الماضي استفحال الهشاشة بجبال الأطلس الكبير الغربي. وإلى جانب الشريط الجبلي يمتد الشريط الصحراوي القاحل من جنوب الانكسار الأطلسي الجنوبي إلى الحدود الجنوبية الشرقية الموروثة عن الاستعمار الفرنسي. ولا غرو، فالشريط الصحراوي يحتضن أيضا واحدة من أفقر الجماعات في المغرب، وهي جماعة سيدي علي، التي تمتد على هوامش الصحراء الشرقية. بلغ فيها نسبة الفقر وفق مؤشرات سنة 2017 حوال 38،2 في المئة. وأما مؤشرات الهشاشة فمخيفة في المناطقة المذكورة، إقليم زاكورة 25،4 في المئة، والرشيدية 18،2 في المئة، وورزازات 16 في المئة. وأما الريف وإن كان غطاؤه النباتي وافرا فهو فقير من حيث الاستثمار.
وفضلا عن سوء العدالة المجالية تأثرت الكثير من المناطق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فكان فقرها قائما على صلة تلك الانتهاكات بتخلف التنمية. ورغم برنامج جبر الضرر الجماعي الذي نزل في المناطق نحو، أزيلال، والرشيدية، وميدلت، وتينغير، وورزازات، والحسيمة والناطور وفجيج، والخميسات وطانطان، فمشاريعه هزيلة غاية ولم يدم أمدها كثيرا. ومع إحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان اختفى الحديث عن ذلك البرنامج وما يتصل به من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمناطق التي غشيها تخلف التنمية بفعل انتهاكات حقوق الإنسان.
ورغم يسر الحصول على خريطة نطاقية للفقر لعلاقة تخلف التنمية بالتهميش وسوء العدالة المجالية فإنه الصعب الحصول على خريطة قائمة على المؤشرات. ولا نملك في هذا الصدد إلا تقرير البنك الدولي والمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2017. وللإشارة فالمندوبية السامية للتخطيط شرعت في تتبع وضع الفقر في المغرب منذ سنة 2007، لكن المعلومات الصادرة عنها غير منتظمة من حيث بثها. لذلك كان من الصعب اعتماد التقرير المذكور، لا لأنه مضت عليه سبع سنين بل حصل أثناء ذروة جائحة كورونا. ووفق إحصائية صادرة عن المندوبية المذكورة، تبين تضاعف معدل الفقر سبع مرات.
وحسب ما هو مضمن في مقال نشره موقع هسبريس الإليكتروني يوم الجمعة 17 من شهر فبراير من العام 2023 فإن معدل الفقر بالمغرب ارتفع من 1،2 في المئة سنة 2022 إلى6،6 في المئة في السنة الحالية وذلك بسبب التضخم.
والفقر وقعه يهلك البادية أكثر من الحاضرة، حيث انتقل معدل الفقر من 7،6 في المئة إلى 6،10 في المئة في البساط القروي وهو ارتفاع مخيف إذا رجعنا إلى النسبة المسجلة في المجال الممدن من حيث ارتفاعها الضئيل من 2،1 في المئة إلى 2،2. ذلك هو النزر الذي بسطته هسبريس في العدد المذكور مقتبسة مضمونه من تقرير صدر عن البنك الدولي بعنوان «الاستجابة لصدمات الإمداد».
وهناك عامل آخر لتثبيت الفقر يتمثل في الفارق بين أسعار الإنتاج والتقسيط، وهو فارق يطبعه التفاقم؟ ذلك أن سعر الإنتاج يتضاعف أربع مرات أو أكثر ليصل المستهلك. ومع ارتفاع أسعار البترول فإن البضاعة المنقولة من الدار البيضاء إلى فجيج أو زاكورة يفوق ثمنها القدرة الشرائية للسكان. وتحت شعار: «كم من حاجة قضيناها بترك»، يستفحل الفقر.
وقد يعود الفقر إلى أزمة الحكامة وهشاشة البنية التحتية الطرقية وضعف التنظيم والمراقبة، لا سيما وأن ادخار المواد الغذائية مؤشر زُكِن، تراءى في كثير من المناطق.
وهل الدولة تحب القعود في مقعد المتفرج الملتزم؟ الأمر ليس كذلك، مادامت الدولة تعرض أحيانا بعض الأرقام. وإن إحصاء الظاهرة والاعتراف بها مقدمة إلى معالجتها. صحيح أن العقد الأول من القرن الحالي شهد تحسنا في محاربة الفقر، لتراجع النمو الديموغرافي من 4،5 ولادات في الثمانينيات من القرن الماضي لكل امرأة إلى 2،4 في الفترة الممتدة ما بين 2005 و2010. وفي العقد الأول من القرن العشرين كان انتشار الكهرباء بالوسط القروي للنجاح الذي حالف برنامج (بيرج PERG)، وبرنامج (باجير PAGER) الذي رام تزويد الوسط القروي بالماء الشروب. وسهل سياسة القروض الصغرى الاستثمار الذاتي لدى الأسر في الوسط القروي خاصة. وهناك مناطق اكتسبت بعض الدعم من العمال المهاجرين كما هو حال بعض المناطق الممتدة جنوب الانكسار الأطلسي الجنوبي وخاصة حوض دادس ومكون.
واستمرت جهود محاربة الفقر خلال العقد الثاني من القرن العشرين، ويشهد برنامج الأمم المتحدة عن جهود المغرب في تقليص نسبة الفقر إلى النصف خلال عقدين من الزمان. وللأسف، اكتسحت الجائحة المغرب، فبرزت مؤشرات مخيفة، صادفت زيارة المقرر الخاص للأمم المتحدة المنقطع لقضية الفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، المغرب في أواخر سنة 2022 ، فكان الإفصاح عن الفقر والتضخم. ودون العودة إلى التقارير الأجنبية فالمغرب شهد ارتفاع أسعار النفط وأسعار المواد الغذائية خلال الربع الأخير من سنة 2022 والربع الأول من سنة 2023. وكشفت المندوبية السامية للتخطيط أن 3،2 مليون شخص أزيحوا إلى نطاق الفقر. وتندرج مهمة «أوليفييه دي شوتر» ضمن ما يسمى في حقوق الإنسان بالإجراءات الخاصة التي يتكلف بها مجموعة من الخبراء.
وختاما، ثبت وفق المتاح من المعطيات أن المغرب، رغم المجهودات المبذولة، ورغم إحساس الدولة بظهارة الفقر، ليس ضمن البلدان الصامدة المواجهة للهشاشة. فالفقر قائم، في الحال، ويمكن أن يستفحل، في المآل، ويمتد ويسترسل. لذلك وجب التنويه بمبادرة الإخوان الساهرين على صدور جريدة ملفات تادلة بانتظام على مجهوداتهم في تناول المواضيع من نوعها وهي دالة وحساسة تساهم في إنشاء رأي ذي اقتراح إن لم يكن ضاغطا.