– أسامة باجي –
حرية الإعلام والتعبير بالمغرب؛ موضوع قديم يتجدد في كل المناسبات. يتفق الكثيرون؛ صحافيون، وباحثون، وحقوقيون أن مؤشر حرية الإعلام بالمغرب في تراجع مستمر. كما تؤكد ذلك الدراسات والتقارير؛ منها تقرير منظمة مراسلون بلا حدود لسنة 2023 الذي صنف المغرب في المرتبة 144 عالميا.
قانون مُشوه
يعتبر المحلل السياسي والفاعل الحقوقي، خالد البكاري، في حديث لملفات تادلة 24 أن قانون الصحافة والنشر بدايةً تحوم حوله ملاحظات عدة. فهو “لا يحقق الضمانات الكافية لحماية حرية الرأي؛ حيث أن منطلقاته رغم عدم تضمينه للعقوبات السالبة للحرية يظل زجريا، إلا أنه يظل أفضل من الاحتكام للقانون الجنائي في قضايا الصحافة والنشر، وللأسف فهو حسب الاجتهادات القضائية والتأويلات التي يقدمها القضاة لبنوده لا يشمل قضايا التدوين والكتابة عموما خارج الإطار الصحافي المهني”.
وحسب البكاري، فإن قانون الصحافة والنشر لا ينطلق من مبدأ “افتراض حسن النية” المعمول به في قوانين الصحافة المقارنة، ولا يجعل من حماية حرية التعبير منطلقه الأساس، بل يضع سقفا لما يجوز الكتابة فيه، لذلك فإن “قانون الصحافة والنشر لا يمثل ضمانة كافية لحماية حرية الصحافيين”.
ويؤكد البكاري أنه حين “تضاف هيمنة الخطوط التحريرية الموالية للسلطة أو المترددة بسبب الخوف من الحرمان من الإشهار، وتضاف الانتهاكات التي تطال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحافيات والصحافيين، فالخلاصة هي أن شروط اشتغال الصحافيين تحد كثيرا من حرياتهم”.
ويضيف المتجدث نفسه أن “متابعة الصحافيين بالقانون الجنائي دليل على أن الدولة غير جادة في حماية حرية الصحافة، فما تعطيه باليد اليمنى رغم ضآلته، تسلبه باليد اليسرى، عبر متابعة الصحافيين في قضايا النشر بالقانون الجنائي المتضمن لعقوبات سالبة للحرية، أو عبر فبركة ملفات أخلاقية أو مالية، أو عبر التشهير الذي يتمتع بحماية غير مفهومة”.
تراجع وتشهير
يؤكد خالد البكاري أنه من الغريب عدم تفعيل مؤسسة النيابة العامة لصلاحياتها في متابعة منابر وأشخاص يقترفون جريمة التشهير بشكل متواتر، ويدعون أنهم يدافعون عن مؤسسات أمنية أو إدارية، مع العلم أن الاستمرار في التطبيع مع التشهير هو الذي أفضى إلى أن يصبح حتى مسؤولون في الدولة ضحايا له، والمسؤولية “يتحملها من أطلقوا هذا الوحش ودعموه وتغاضوا عنه ووفروا له الحماية”.
وفي علاقة بمحاكمة عمر الراضي وسليمان الريسوني يقول الفاعل الحقوقي إنها “محاكمة سياسية، وأكثر من ذلك؛ هي محاكمة للرأي. من المعلوم في الأدبيات الحقوقية، أن المحاكمات السياسية تستلزم توفير شروط المحاكمة العادلة (وهذا لم يتوفر لعمر وسليمان)، بينما محاكمات الرأي تفترض ليس فقط المحاكمة العادلة، بل إطلاق السراح، إذ التعبير عن الرأي لا يجب أن يؤدي لسلب الحرية”.
ويؤكد البكاري أنَّ المُخيف في موضوع حرية الرأي والتعبير ليس هو خنق حرية التعبير والرأي والصحافة فقط، لكن الجديد في المرحلة هو غياب آليات للدفاع عن حرية الصحافة، “في الماضي ورغم القمع، كانت النقابة الوطنية للصحافة المغربية إلى جانب الأحزاب في واجهة المدافعين عن حرية الإعلام”.
ويعتبر البكاري أنه “اليوم هناك شبه استسلام، فمن لم يتواطؤوا مع التضييق، إما ركنوا للصمت أو الانسحاب أو التخفيف من الخطاب دون تعميم. وهو ما أعطانا في النهاية نُسخا متشابهة وكأن الخط التحريري واحد، مع ملاحظة الصعود المضطرد لصحافة التشهير والإثارة”.
مأزق وخطوط حمراء
من جهته يقول محمد العوني، رئيس منظمة حريات الإعلام والتعبير (حاتم)، في حديث لملفات تادلة 24 إنه “من المهم ربط حرية الاعلام بحقوق الصحافيين، فكلما تقدَّمت الحريات تطورت الحقوق، وكلما تحققت حقوق الصحافيات والصحافيين اتسعت حرية الصحافة. وينبغي الاقرار بأن ثقل الانشغال بالهموم يؤثر على الاشتغال بحرية”.
وحسب العوني؛ هناك عدة حالات يتم رصدها من طرف المنظمة، “غير أن النقاش اليوم يرتكز على العناوين الكبرى لخرق وانتهاكات حرية الاعلام؛ كحالتي سليمان الريسوني وعمر الراضي بالنظر إلى طبيعة الأحكام، غير أنه لا ينبغي إخفاء الكثير من الحالات المرتبطة بانتهاك حرية التعبير وراء العناوين الكبرى”.
يعتبر العوني أن هناك من يسعى لتسقيف حرية الاعلام وتضخيم الخطوط الحمراء، فبعد أن كان كل شيء في السنوات الأخيرة قابلا للنقد من قبل الإعلام، أصبحت الخطوط الحمراء تتضخم اليوم من أجل أن يستمر إطلاق يد من يستفيد من هاته الأوضاع.
وحسب نفس المتحدث، فإن هذا الوضع يتناقض مع الدعوة في أوقات معينة الى ضرورة محاربة الاستبداد والفساد والتسلط، لدى العديد من رجال السلطة والفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين.
هذا الوضع يقف عليه محمد العوني ورفاقه في مرصد حريات؛ “قد تكون الحالات قد قلَّت بالمقارنة مع السابق لكن ما يفسر هاته القلة هو التضخيم الواقع في الخطوط الحمراء وتحديد سقف الحرية”.
ويؤكد العوني أن الوضع الجديد هو ما أصبحت عليه مؤسسات الاعلام العمومي؛ حيث أن “هناك سيادة للتفاهة والرداءة عبر الاعلام العمومي السمعي البصري والمكتوب، والتي كانت مجالا لتعبير المواطنات والمواطنين والنخب عن آرائهم فإذا بها اليوم هي مجال لتوجيه الرأي العام نحو توجهات محددة”. وهذا حسب المتحدث واحد من الأسباب يدفع المواطنات والمواطنين إلى الهجرة نحو الإعلام الأجنبي أكثر من إعلامهم.
استثناء ما بعد 2011
فاروق مهداوي، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان، يؤكد لملفات تادلة 24 أن “الصحافة بالمغرب تعيش حالة شاذة واستثنائية، لم نعرف مثلها في تاريخ المغرب المعاصر”. ففي الوقت الذي كنا ننشد مزيداً من الحرية بعد حراك 20 فبراير، واتساع رقعة الحريات، “سرعان ما قامت السلطات بتضييق الرقعة وخنقها”.
وأشار مهداوي إلى أنه “في السنوات الأخيرة تابعنا حوالي 6 متابعات لصحافيين انتهت بالسجن، بالإضافة إلى عشرات المدونين الذين تم اعتقالهم ومحاكمتهم في ظروف لا تمت بصلة للمحاكمة العادلة، قاسمهم المشترك، الكلمة والتعبير، وانتقاد المخزن”.
ويؤكد مهداوي أن السلطات “لم تبسط سيطرتها على الصحافة فقط، بل خلقت إعلاما مُشَوَّهاً يُواليها، وسعت إلى التحكم في المشهد الإعلامي من خلال التحكم في انتخابات المجلس الوطني للصحافة؛ حيث أنه ولحدود اللحظة وبعد تمديد مدة المجلس السابق، لم يتم إيجاد حل سوى إحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر”.
وحسب المتحدث فإن تشديد الخناق على حرية الرأي والتعبير، جعل هامش الخطوط الحمراء يتسع أكثر فأكثر، حسث “لم تعد مؤسسات بعينها فقط هي الممنوع مسها، بل أصبحنا أمام شخصيات سياسية ورجال دولة، من المحرم حتى ذكر أسمائهم في تقرير صحافي. وهذا ما جعل مجموعة من الصحافيين والصحفيات يغادرون المغرب سواء بطريقة عادية أو عن طريق طلب اللجوء بحثاً عن بلدان جديدة قادرة على توفير هامش حرية أكبر في التعبير”.
وفي سياق متصل سبق لنواب أوروبيين أن انتقدوا واقع حرية الصحافة في المغرب معلنين، عن قلقهم إزاء مزاعم بتورط المغرب في فضيحة رشاوى، تهز البرلمان الأوروبي، يحقق فيها القضاء البلجيكي وتستهدف أيضا قطر. كما طالبوا “باحترام حرية التعبير وحرية الإعلام” و”ضمان محاكمات عادلة للصحافيين المعتقلين”، بناء على نص غير ملزم، صوت لصالحه 356 نائبا مقابل 32 اعترضوا عليه فيما امتنع 42 آخرون عن التصويت.
هذا وقد ركز النواب الأوروبيون على قضية الصحافي عمر الراضي، المعتقل منذ سنة 2020 والمحكوم عليه بالسجن النافذ لمدة ستة أعوام في قضيتي “اعتداء جنسي” و”تجسس”، وهما تهمتان ظل ينكرهما. كما اعتبر النواب أن “الكثير من حقوق الدفاع لم تحترم ما يشوب مجمل هذه المحاكمة باللاعدالة والانحياز”، مطالبين بالإفراج المؤقت عن الراضي والصحافي توفيق بوعشرين الذي أدين أيضا في قضية “اعتداءات جنسية” وحكم عليه بالسجن 15 عاما، وهو معتقل منذ العام 2018. كما طالبوا “بوضع حد للتحرشات ضد جميع الصحافيين في البلاد”.
حرية الإعلام حرية وطن
محسن رزاق، صحافي وباحث في الإعلام، يقول في حديث لملفات تادلة 24 إن “الحديث عن حرية الصحافة والاعلام لا يستقيم إلا بالحديث عن حرية المجتمع، ولعل خير دليل هو 20 فبراير 2011 حيث شهد المغرب حراكا ديمقراطيا تولَّد معه حراك على مستوى الإعلام فالحرية التي شهدها الشارع انعكست على الإعلام”.
وحسب رزاق يمكن القول بأن “الإعلام هو صوت المقهورين وصوت المجتمع عموماً؛ إذا كان المجتمع صامتا فسيكون الإعلام صامتا كذلك. إذا تحدث الإعلام سيتحدث لوحده، فالإعلام اليوم يلعب دوراً أساسياً في العملية الديمقراطية وفي حرية الصحفي، حيث يتحمل المسؤولية أكبر من السياسي ومن الحقوقي والنقابي، إن تحقيق الحرية لوسائل الاعلام هو تحقيقها في المجتمع فقط لا يجب أن ننتظر من الاعلام انه يجلب لينا الحرية في المجتمع”.
إن الممارسة اليومية للمهنة، وِفق الباحث، تبين بأن حرية الصحافة تواجه عقليات صعبة لدى المسؤولين والمؤسسات وحتى المجتمع، وهي حسب المتحدث مرتبطة بالحق في الوصول إلى المعلومة التي هي سلاح الصحفي “فقبل ان تكون لديه الجرأة في نشر المعلومة يجب أن تكون لديه القدرة على الوصول إليها”.
أزمة رقابة
يقول رزاق إن “الجسم الإعلامي اليوم يعاني من الرقابة الذاتية التي فرضها الصحافي على نفسه بعد المتابعات، سواء المتعلقة بالخطأ أو بالمتابعات التي طالت وجوها معروفة بالنضال والجرأة في الممارسة الصحافية”، وهذا سبب نوعا من الرقابة الذاتية والتخوفات التي بدأها يضعها الصحافي حاجزاً لنفسه.
وبالعودة لقانون الصحافة والنشر فقد جاء بخطوة كانت جيدة وهي سحب العقوبات السالبة للحرية. لكن رزاق يتساءل بصفته صحافياً ممارساً “كم هي عدد القضايا التي يتابع فيها الصحفيون بتهم الاخطاء المهنية وإن كانت فهي حالات معزولة؟”.
ويضيف محدثنا قائلا إن “بعض القضايا التي أثارت النقاش وسط الرأي العام كقضية وقضية عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين. هاته القضايا يختلط فيها السياسي بالحقوقي بالإعلامي بالمهني”.
مكتسبات وإشكاليات
من جهته يعتبر الصحافي سامي المودني، رئيس المنتدى المغربي للصحافيين الشباب، في حديث لملفات تادلة 24، أن مدونة الصحافة والنشر جاءت بمكتسبات عدة للصحافيين؛ كالتنصيص على الحماية القضائية والاجتماعية للصحافيين، وحماية مصادر الخبر، وحماية الصحافيين من الاعتداءات، والتنصيص على أن منع ومصادرة الصحف أصبح بيد القضاء وليس بقرار إداري.
وحسب المودني، “تعتري الممارسة القضائية عدد من الإشكاليات، أبرزُها استمرار متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي في قضايا النشر، وهو ما يؤثر على حرية الرأي والتعبير في المغرب. فرغم مطالب الحقوقيين ومهنيي قطاع الإعلام، إلا أننا نجد إصرارا رسميا على عدم الاقتصار على مدونة الصحافة والنشر في متابعة الصحافيين في قضايا النشر”.
ويؤكد المودني أن متابعة الصحافيين بالقانون الجنائي في قضايا لها علاقة مباشرة بممارستهم لعملهم، “بمعنى أنهم نشروا أخبارا أو تواصلوا مع مصادر وتمت محاكمتهم، يستلزم يقظة منا وإدانة ما وقع. إننا نكون أمام محاكمات ذات صلة بحرية الرأي والتعبير، وليست محاكمات سياسية لها إطارها ومعاييرها وفق المنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان والتي لا علاقة لنا بها في هذا الإطار”.
وحسب المودني فإن المتابعات خارج إطار الصحافة والنشر، لها ثلاث محددات هي توفير معايير المحاكمة العادلة، ضمان حقوق الضحايا، ضمان حقوق المتهمين. “وشخصيا لا أرى أن مصطلح محاكمات سياسية يعد دقيقا في هذا الإطار” يؤكد لنا.
ويرى المتحدث أنه يجب التفريق بين حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير. “ما يلاحظ هو الجنوح نحو اعتماد مقاربة قضائية زجرية تجاه تعبيرات المواطنين في شبكات التواصل الاجتماعي. في حين يجب الحرص أثناء تدبير الإشكالات المرتبطة بأشكال ممارسة التعبير على الاسترشاد بالممارسات الفضلى على المستوى الدولي، والتفاعل الإيجابي مع الأفكار الصادرة عن المواطنين التي قد تغضب أو تزعج”.
مكتسبات ونقاش حي
لا يتفق المودني مع الطرح القائل بأننا نعيش تضييقا ولا أننا نعيش وضعا جيدا. مؤكدا أننا نراكم مكتسبات، ولدينا تحديات يجب التغلب عليها لتوسيع مجال حرية الصحافة في بلادنا. “القول إن هناك تضييقا على الإعلام هو حكم في غير محله، قد تروج له بعض التقارير الصادرة عن بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، إلا أنه حكم غير دقيق. وحتى القول إننا في السابق كنا نتمتع بهامش حرية صحافة أكبر من الحالي، يظل حكما غير صحيح”.
ويضيف رئيس المنتدى المغربي للصحافيين الشباب “إن إشكالياتنا الإعلامية متعددة وكثيرة، ويجب أن نجد لها حلا في المستقبل القريب، حتى تقوم صحافتنا بدورها في المسار الديمقراطي، وذلك عبر عدة مداخل من بينها: تعديل مدونة الصحافة والنشر حتى تتلاءم مع المعايير الدولية، ولاسيما في الشق المتعلق بعدم متابعة الصحافيين بموجب القانون الجنائي في القضايا المتعلقة بالنشر؛ وإحداث آلية وطنية مستقلة لحماية الصحفيين؛ ووضع إطار قانوني يؤطر عمل الإذاعات الجمعوية بالمغرب”.
ودعا المودني إلى تعزيز دور الإعلام العمومي لكي يلعب دوره كاملا في الإخبار والتثقيف، ومد المواطن بالمعلومات التي يمكن أن تساهم في تشكيل رأيه بخصوص القضايا الجارية، على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتخاذ إجراءات عملية للنهوض بالنموذج الاقتصادي للمقاولة الإعلامية.
المدخل الرئيسي لهذه الإصلاحات، حسب المودني، تتجلى في فتح حوار وطني يشارك فيه متدخلون من مختلف المشارب والقطاعات، حول مختلف القضايا والإشكاليات المتعلقة بعلاقة الإعلام بالدولة، والإعلام بالمجتمع، والإعلام والفاعلين الآخرين من مؤسسات اقتصادية وجمعيات حقوقية، بالإضافة إلى الإشكاليات المتعلقة بأخلاقيات مهنة الصحافة.