مع ذ عبد الله العروي في كتاباته النقدية..

-ملفات تادلة 24-

    يرى الأستاذ عبد الله العروي في كتابه الأخير “من ديوان السياسة ” :  ” أن ما يحعل السياسة بئيسة عندنا هو بالضبط شموليتها “. معنى ذلك أننا في نظره لم نستطع بعد أن نفصل السياسة عن المجالات الأخرى . فنحن نسيس كل شيء ، نسيس  الرياضة، نسيس الفن، نسيس العلم، ونسيس الفلسفة أيضا..وبذلك نفرغ السياسة من محتواها ، ونجرها إلى الحضيض.. يقول ذ العروي في كتابه الفكري/السياسي  بامتياز : “الكل سياسة ؟ جملة كان يروجها قبل ثلاثين سنة ، المثقفون المنتمون في المجتمعات المتقدمة حيث يكثر من لا يقيم السياسة وزنا وينغمس في التجارة أو الفن أو البحث العلمي أو الرياضة ..الدول الديمقراطية تمارس السياسة كثيرا وتتكلم قليلا.الحاصل عندنا هو العكس. لا يلتقي منا اثنان إلا ويبادر أحدهما بالسؤال: ما الخبر؟ .والخبر لا يتصور أن يكون غير سياسي .لا غرابة إذن أن نسيس الدين أكثر مما “ندين” السياسة.”. ولعل هذا الوجود العائم للسياسة الذي يتحدث عنه العروي هو الذي يجعلها تخترق جميع المجالات، ويجعل الجميع يناط بها من غير أن يناط بها أحد بالضبط، لعل ذلك هو الذي حال عندنا في نظره دون بروز نخبة سياسية حقيقية ..يرجع سبب  هذا التعويم السياسي، واختراق السياسة” كل المجالات إلى الأمية .لم يحصل – في نظره –  بعد عندنا الفطام الضروري من الغريزة إلى العقل، من الإتباع إلى الاستقلال، من التوكل إلى الهمة، من المبايعة الى المواطنة ..ما يجعل السياسة بئيسة كما يقول  عندنا هو بالضبط “شموليتها”. لا تنفصل “الغمزة” عن “الدبزة”، “القهر” عن “المؤالفة”، السياسة /رعاية عن السياسة / تدبير. لم تتكون بعد نخبة سياسية واسعة تتأهل وتتجدد باستمرار، تتحمل المسؤولية لمدة محدودة كعبء مكلف وبالتالي مؤقت، كمرحلة لازمة ضمن تجربة أوسع وأغنى. فيستطيع المرء أن يقول : هناك حياة قبل وبعد السياسة .

ذلك أن هذا التحديد وهذا التخصيص – في نظر العروي- كما يوضح ذلك في كتابه السالف الذكر هما اللذان من شأنها أن يعينا وحدهما ما السياسة وما ليس منها، فينقذا بذلك السياسة ويفصلانها عن كل منطق لا يناسبها، وهما اللذان سيتكفلان تبعا لذلك لتحرير المجالات الأخرى ، كي يظل الفن فنا ، والرياضة رياضة ، والعلم علم، والفلسفة فلسفة. قد يختلف معه البعض في هذا التحليل الذي يعلله منذ الصفحات الاولى من كتاب “من ديوان السياسة”، وهو يتحدث عن المرأة والزاوية والقبيلة والمخزن والطبقة والتربية والحزب والمجتمع المدني والنخبة السياسية…. مفاهيم يحللها ويتأملها على ضوء وجودها المادي والرمزية، دورها في الواقع المغربي في تطوراته المختلفة ارتباطا بالآخر، بالتقليد وبالاستعمار وبالحداثة التي اخترقته ..لكن يبدو، وأنت  تقرأ الكتاب في ارتباط بمراجع أخرى، في إطار مشروع عمر أزيد من خمسة عقود ،وتتأمل الواقع كما هو لا يمكن لأي منا إلا أن يوافق الأستاذ العروي رأيه هذا بخصوص هذا الوضع العائم للسياسة.. سيما إذا أخذنا – كما يقول ذ عبد السلام بنعبد العالي – في كتابه “امتداح اللافلسفة” بعين الاعتبار الثمن الباهض الذي أديناه، ومازلنا تؤديه في العالم العربي برمته من جراء تسييس كل شيء.إلا أن أسئلة ملحة كما يقول هذا الباحث والمترجم ملحة تظل مطروحة على رغم ذلك ،إن نحن صغنا المسألة على النحو الذي صاغه هو به: فهل يمكن أن نفصل الرياضة على سبيل المثال ، عن السياسة؟ هل يمكن أن “نفصل” الممارسة العلمية، تطبيقا وتنظيرا، عن الصراعات السياسية التي ترمي الدول العظمى في تسابق محموم؟.

ربما وجدنا أجوبة لكل أسئلة من هذا النوع، لو نحن ميزنا على غرار كثير من المفكرين المعاصرين بين السياسة والسياسي le politique ، على اعتبار أن السياسي هو مستوى من مستويات كل تشكيلة اجتماعية ، وهو قوام التاريخ والفكر ، كل ما يعمل وما يقال: “إنه البعد الأساسي للواقع”.أما السياسة فهي المستوى الذي يتحول فيه السياسي إلى حنكة ومهارة ،  يتحول فيه النقد إلى ترديد للشعارات، وروح المبادرة إلى امتثال لأوامر، ومحاولة تغيير الواقع إلى “أخذ الواقع بعين الاعتبار”. آنئذ يغدو تحرير المجالات الأخرى من ” من وهم السياسة” أمرا ضروريا، لا لنهضة تلك المجالات فحسب، وإنما لتضييق مجال والإعلاء من قيمتها .

يقول العروي موضحا ذلك وبشكل مفصل حين يتحدث عن النخبة السياسية منتقدا إياها: ” الأمي هو من لا يزال في حضن أمه، يتكلم بلهجتها، يتصف بصفاتها، يتوخى أغراضها، يعمل على إرضائها، يعيش في حماها ولا يتعدى أفق حياتها حتى عندما يهاجر بعيدا عنها. ترتفع الأمية لا بإتقان الكتابة والقراءة، ولا بحفظ مقولات عن الكون والإنسان والماضي، بل عندما يستقل المرء بذاته، ويرى فيها المادة التي يشيد بها الكيان السياسي .” لكن حين نطرح على العروي سؤالا كيف يمكن تحقيق ذلك يجيب كالتالي فيقول:  ” لابد من تربية مخالفة بل مناقضة لتربية الأم ، هي التربية المدنية .وهذه التربية تتمثل بالضرورة تجارب غير تجارب الأم .تتغير اللهجة ، تتجرد المفاهيم ، يتسع الأفق ،تكثر المثل وتتنوع التصورات..وهذه التربية لا تكتسب دائما في التعليم النظامي، حتى العالي منه، بل الغالب هو أن التربية النظامية تساير تربية الأم ، فتساعد على تكريسها ، تبريرها ، تقويتها ونشرها : أمر ملاحظ عندنا”.

هنا العروي يوجه سهام نقده لا للتربية المتوارثة حسب قيم يذكرها في كتابه داخل الأسرة فحسب، ولكن أيضا للصحافة والإعلام ولكل مكونات المجتمع السياسي .. لنتأمل الفقرة التالية فهي تحمل نقدا شموليا وقويا.. حين يقول: ” نشكي باستمرار من ضعف الصحافة عندنا، من شح التأليف واتياعيته، من سذاجة الزعماء السياسيين، من عجز الأحزاب والنقابات وحتى الجمعيات. تظهر العيان هذه العيوب خاصة أثناء الحملات الانتخابية. فنخجل مما نسمع ونرى، سيما إذا تزامنت الحملة عندنا بأخرى خارج حدودنا وتفرض علينا المقارنة.” أما الأمية فيعتبرها العروي، بمعنييها، الضيق والواسعة، فائدة للجميع. يستفيد منها الواحد لبسط سلطانه والبطانة لتثبيت نفوذها، وكذلك الجمهور. من يبيع صوته أثناء الانتخاب، ألا يستثمر أميته؟ يبرئ نفسه ويتهم غيره… أما اليوم فالجميع يقولون إنها عيب ونقيصة. خدش في المروءة …، لا أحد ينكر أن الطفرة من مجتمع أمي الى مجتمع مدني هي دليل المروءة والرشد والهمة. التخلف في هذا الميدان يضر بالسمعة أولا ثم لا يلبث أن يمس المصالح.

وإذا كان الحال هكذا، الأمية متفشية والتعليم النظامي و وسائل الإعلام والنشاط العمومي، كل ذلك لا يفعل – في نظر العروي – سوى إعادة إنتاج الموروث،  يتساءل القاريء هنا ومالعمل إذن ؟ ينتظر القارئ حلا، لا نقدا فقط، خطة العمل، كيفية الخروج من الحلقة المفرغة ؟ كيف ينبغي يتم الفطام وتتحقق النقلة المرجوة؟، بل نتساءل مع العروي، وهو يسألنا :  ما جدوى التأويل الديمقراطي؟ أو ليس التأويل السلفي هو دائما الأقوى لأنه يملك في ذاته وسائل” التجديد”، إذ التجديد لديه هو إحياء القديم؟. ليس مسلما في نظره أن التجديد بهذا المعنى أيسر من إنشاء جديد حقيقي، حتى وإن كان الجديد عندنا معروفا مبتذلة عند غيرنا .لو كان سهلا لما تعثرت كل المشاريع الأصولية ولما أرغمت على استعمال القوة ..صحيح – في نظره – أن كثيرا من الأوهام الإصلاحية التلقائية قد تحطمت، تلك المتعلقة بالنفس البشرية التواقة إلى التقدم والتحرر، بالاقتصاد كقاطرة التنوير، بالطبقة العاملة كطليعة الإنسان المنتج الحر، بالمثقفين كأنصار العقل والعدل، الخ. قد اتضح بالتجربة أن الديالكتيك يعمل أيضا على هذا المستوى، وأن العوامل المذكورة قد تخدم بسهولة الاتجاه المعاكس، أي تركيز القديم وإحيائه. وذلك لأسباب فصلها المؤرخون وعلماء النفس .

يقترح العروي عناصر للخروج من هذه الوضعية المركبة والمتداخلة نوجزها بكثافة في العناصر التالية:

– اعتماد الديمقراطية المحلية، اذ يبدو في نظره خيارات لا مفر منه لتفادي التمزق والفوضى ..وهو تطبيق مبدئي لا يقبل التاخير، درءا لكل ما يخدم التفكك ..

– التعرض للمنافسة الدولية في إطار عولمة الاقتصاد .ومن لا ينافس غيره يحكم على نفسه بالذبول والاضمحلال .هذه القاعدة في نظره هي الفيصل بين المقبول والمرفوض في المشاريع الإصلاحية، إذا اتضح للجميع ان إحياء القديم، مهما بدا مغريا من منظور التلاحم والمساواة، يتحول الى عائق في مجال التنافس الدولي، إذا كان ثمن الإقدام على إنجازه هو الانخراط في قائمة الدول الفاشلة، أي مخرج سوى إبداله بمشروع معاكس، هو المشروع الديمقراطي ؟.

– تطور الأحزاب السياسية مما يتضح لأعضائها أنها لا تزال – كما يقول – مسلوبة الإرادة مسيرة دون وعيها…رديفة لنفوذالبطانة،  عليها أن تتعالى على مستوى الزاوية أو العشيرة  أوالقبيلة أوالنادي…الخ.

– تفعيل وتقوية المجتمع المدني ، ….

–  فاعلية منطق المنفعة، أي تضمين المصلحة الشخصية معنى جديدا .والأمر غير ممتنع في نظره عقلا..

– التربية لا يمكن أن تكون إلا أن تكون إلا ديمقراطية ،مبنية على الفرد الحر المسؤول، المتحه نحو المصلحة والفائدة والمنفعة عن طريق توظيف العلم التجريبي.وقد آن الأوان كما يقول لكل من يريد أن ينخرط في المشروع التحديثي أن يعتبر المسؤولية عليه.

 لكنه يبقي على هامش كبير من التفاؤل رغم هذا النقد  حين يقول:

” نستعمل لفظ أمل معقود في تحقيق تجديد صحيح .لأن الإخفاق أيضا وارد ..الجدل بين الخارج والداخل، الاقتصاد والسياسة، التجارة والقانون جربناه  مرارا ،لولاه لما كان  تطور في التاريخ. يستعمل العروي لفظ أمل ..فهو يؤمن بأن أي مشروع مهدد بالإخفاق. البشرية في نظره كلها قد تخسر الرهان في نهاية المطاف ضد الطبيعة، ضد الحيوانية، صد الفناء. يعتبر أن حضارتنا قد تخفف إخفاقا تاما إذا لم تتغلب على محنتها الحالية ولا عزاء لها في ثورة العنف. وكما يقول وهو يؤمن بالأمل والإخفاق

معا.. وفي نفس الآن . دولتنا الوطنية قد تخفق كما أخفقت دول أخرى لم تعد توجد إلا بالإسم في قائمة الأمم المتحدة. لكن يؤكد في نفس الوقت أن النجاح أيضا وارد وبالقدر نفسه ، وإلا  لما فكر في الأمر أحد.”.

لاشك أن مشروع العروي لا يطرح في هذا الكتاب وحده ،بل يستدعي من القارئ  الإلمام بكل مؤلفاته ،وهي منسجمة متناغمة تخدم هدفا واحدا يكمن في تجاوز الخطاب العربي النهضوي الحالم بأشكالها وتلويناته المختلفة  في نظره ، وتفكيك الوضع الحالي كما هو واقعيا على ضوء هذه الليبرالية التي تجذرت وتطورت و تسلحت بالتكنولوجيا ، فاكتسحت كل العالم …مشروع العروي الذي يستمد عناصره من الفهم التاريخاني للأمور كما هي في تطوراتها الكونية المتلاحقة ..مشروع مثير للجدل والتفاعل معه لا يخلو من صعوبات منهجية ومعرفية… ومستفز (استفزاز فكري )  أيضا لكل الخطابات المختلفة السياسية الايديولوجية يمينية كانت أو يسارية، و أيضا للخطابات السلفية  التقليدية معتدلة أو أو راديكالية ..و لكل الأفكار الساكنة المطمئنة  لواقعها . خطابه موجه إلى الكل ..وبشكل خاص كل من يعتبر نفسه سياسيا..أو يمارس السياسة في بلدنا ، لكن بمفهومها الحقيقي النبيل والواقعي ..وقراءة هذا الكتاب “من ديوان السياسة “الصادر في سنة 2009 بالتحديد  يدعو أيضا من المربين و كل من يهمه أمر الإصلاح الثقافي والتغيير، أن يقف على دلالات هذا الكتاب القوية والعميقة وخطابه النقدي الفكري الشمولي، وأن يتفاعل أو يختلف معه سلبا أو إيجابا بالتحليل والتأمل..

ذ. التهامي ياسين

—————————-

إحالات مرجعية:

– انظر عوائق التحديث نوفمبر2006 عبد آلله العروي

– من ديوان السياسة 2009 ذ عبد الله العروي

– امتداح اللافلسفة ذ عبد السلام بنعبد العالي

– بين الفلسفة والتاريخ ذ عبد الله العروي الطبعة الأولى 2020 ترجمة ذ عبد السلام بنعبد العالي

 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...