محمد حنشي عمراني قائد فتوحات الموسيقى الأندلسية في بني ملال

-لبنى زيدون*

“الفن يولد من رحم المعاناة، عشت طفولة متقلبة بعد وفاة والدي، فكانت هذه المعاناة حافزا لي للغوص في بحر الموسيقى، الموسيقى الأندلسية تحديدا”، بهذه العبرات استهل “محمد حنشي عمراني” حديثه مع ملفات تادلة 24، عن مغامراته من فاس إلى بني ملال، فاتحا ومؤسسا لنمط موسيقي لم يكن وليد تربة مجال تادلا.

ولد محمد حنشي عمراني أو نجيب عمراني، كما يناديه معارفه، في العاصمة العلمية فاس سنة 1954، وبها فتح حواسه على الموسيقى، وهو لا يزال في العاشرة من عمره، وهناك افتتن بروائع الموسيقى الأندلسية، وشق طريقه عازفا ومدرسا لهذا النمط الموسيقي الأصيل، وبقي وفيا له إلى أن بدأ الشيب يغطي رأسه.

تلقى دروسه الأولى في الموسيقى الأندلسية، سنة 1964، في المدرسة الابتدائية أبي الحسن المريني بفاس، تحت إشراف الأستاذ عبد الكريم الرايس، أحد أهرامات الموسيقى الأندلسية بالمغرب، وكانت آلة “الدربوكة” أول ما داعبت يمناه، وآلة الكمان ثاني ما عزفت يداه، ثم بعد ذلك درس مادة “الصولفيج” والكمان الكلاسيكي.

“الموسيقى بالنسبة لي علم وفن، تمكن الإنسان من الاعتماد على نفسه، فهي علم نموذجي يزاوج بين النظري والتطبيقي، لذلك كان لزاما علي سبر أغوار هذا البحر، ومواصلة المشوار دارسا وباحثا عن خبايا هذا العلم، لهذا طرقت باب المعهد الموسيقي “دار عديل” التابع لوزارة الشؤون الثقافية، وحصلت فيه على الجائزة الأولى في مادة الموسيقى الأندلسية سنة 1975″، يقول نجيب عمراني، وهو يسرد جزء من سيرته للجريدة.

لم تكن الموسيقى وحدها ما شغل بال نجيب عمراني، فالشعر والأدب أيضا أخذا قسطا من اهتمامه ووقته، وراح قلمه يخط ما يخالج صدره من مشاعر وعواطف، متأثرا بما يدور حوله من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية (حرب الخليج، وأحداث البوسنة والهرسك…) حيث أصدر ديوانا شعريا بعنوان “عواطف وعواصف” مؤمنا بأن الإنسان عاطفي وعقلاني، وفي أحايين كثيرة يصادف في حياته الكثير من العواصف.

طرق نجيب عمراني أيضا باب النقد الأدبي، وولج إلى عوالمه من خلال كتاب نقدي بعنوان ” الشعر والشعراء” وهو دراسة تحليلية في الموسيقى الأندلسية، فضلا عن دراسة حول “تعريف النوبات المغربية” وغيرها من المقالات ذات الاهتمام بالأدب والشعر والموسيقى.

شق حنشي مساره المهني بثبات مكلفا بالدروس الموسيقى الأندلسية بالمعهد الموسيقي لأكادير، ثم بالمعهد الموسيقى لمدينة تازة من 1976 إلى 1983، ثم انتقل بعد ذلك إلى الدار البيضاء من 1983 إلى 1987 مدرسا لنفس المادة، ليحط الرحال ببني ملال في مارس من سنة 1987.

كان ضمن الفوج الأول من الأساتذة الذين التحقوا بمعهد عبد الوهاب أكومي ببني ملال. اشتغل رفقة تلة من أساتذة الموسيقى ومن بينهم الأساتذة رشيد لحلو، وإدريس شوكاح، ومصطفى بودراع وغيرهم، تحت إشراف الأستاذ عبد الوهاب أكومي أحد رموز الموسيقى المغربية المعاصرة، والذي له أياد بيضاء في تأسيس عدد من المعاهد الموسيقية، ومنها معهد بني ملال.

“كنت أول من أوصل الموسيقى الأندلسية، وهذا التراث الفني إلى مدينة بني ملال، وهذا شرف لي، كانت المدينة آنذاك في طور الانفتاح على ثقافات أخرى، لذلك كان إيصال هذه الموسيقى للمدينة، بمثابة فتوحات أندلسية” يواصل نجيب عمراني حديثه عن تجربته الفنية والمهنية ببني ملال.

ثم يضيف ” بفضل ما قدمناه، اليوم أبناء مدينة بني ملال، أصبحوا يحبون الموسيقى الأندلسية ويهتمون بها شعرا ولحنا، بل ويدرسونها في المعهد، ومنهم من أصبح أستاذا متخصصا في هذا النوع الموسيقي في معاهد بمدن أخرى”.

كان للوسط الاجتماعي الذي تربى فيه نجيب عمراني تأثير كبير على طريقة تلقينه للموسيقى لأبناء المدينة صغارا وكبارا، فكما أحب الموسيقى الأندلسية، أراد أن يحببها لطلبته، فكان أقرب إليهم، فبفضله اليوم أبناء المدينة يحبون هذا النوع الموسيقي ويقبلون عليه.

“طريقتي سلسة في تدريس الموسيقى، وهدفي هو تحبيبها للكبار والصغار معا، لذلك كنت، قريبا منهم، أصغي إليهم كما يصغون إلي، وكانت لغة الموسيقى بمثابة الخيط الذي يجمعنا”، يحكي حنشي شذرات من حياته بالمعهد وعلاقته بطلبته.

أعطى نجيب عمراني الشيء الكثير للمعهد الموسيقي ببني ملال، منذ التحاقه به في مارس من سنة 1987، أكثر مما أخذ اعتبارا للمدة الطويلة التي قضاها بين جدرانه، والتف حوله الصغار والكبار، فاشتدت رغبته في تعليم هذا النوع الموسيقي الجديد الوافد على المدينة دون تردد.

أحيا العديد من الحفلات الفنية بالمدينة وخارجها، خلال المناسبات الوطنية والدينية، رفقة الفرق الموسيقية التي أشرف على تدريبها، كما شارك في مهرجانات وطنية ودولية للموسيقى الأندلسية، وكان خير سفير لمدينة بني ملال وللمنطقة ككل في هذه المحافل.

“لازلت أتذكر أن أول فوج بالمعهد ضم أساتذة ومفتشين وهم كبار في السن، وكانت رغبتهم جامحة في تعلم الموسيقى، وكانوا يعتبرون جهلهم بصناعة الموسيقى نقصا، فكان لزاما علينا ألا نحرمهم من تعلمها، ثم سرعان ما انفتح المعهد على جميع الفئات، حتى الصغرى منها” يقول حنشي.

يقول الأستاذ مصطفى بودراع مدير معهد عبد الوهاب أكومي للموسيقى ببني ملال “تعرفت على الأستاذ محمد حنشي عمراني، أستاذ مادة الموسيقى الأندلسية، في أول يوم التحق فيه بمدينة بني ملال قادما إليها من مدينة الدار البيضاء، بوجه مبتسم وعزم الشباب وشرف المسؤولية “.

ثم يضيف بودراع في شهادته في حق الأستاذ حنشي “إنشاده وعزفه الآلي ظل منقوشا في قلوبنا، وقلوب طلبتنا، لقد بذل نجيب العمراني زهرة عمره بهذا المعهد ليرفع من شأنه”.

وهذه شهادة أخرى للأستاذ زهير باحمو نائب عميد جامعة السلطان مولاي سليمان، في حق حنشي “العمراني أستاذ، وفنان وموسيقي كبير،… راكم سنوات طويلة من الخبرة النظرية والتطبيقية في علوم الموسيقى العالمة”.

ويسترسل باحمو “كنت أستمتع جدا بدروسه بمعهد الموسيقى، يتميز بطريقة بيداغوجية ممتازة في تعليم الصولفيج والطرب الأندلسي، في كل دروسه يتعدى النظريات الموسيقية ليحدثنا عن السياقات الاجتماعية والشروحات الانثربولوجية للموسيقى بالمجتمعات المختلفة”.

“خلف الأستاذ المتميز، يختبئ في سي العمراني الإنسان النبيل ذو الإحساس الرهيف، الرجل المعطاء والمتواضع جدا. لقد ساهم بشكل كبير في تكوين أجيال من الموسيقيين المغاربة في مختلف ربوع المملكة وبجهة بني ملال خنيفرة على وجه الخصوص” يختم باحمو شهادته.

يكن نجيب لهذه المؤسسة حبا كبيرا، ولا يتردد في التعبير عن غيرته وحزنه لما آل إليه المعهد في الوقت الراهن، فحبه لهذه المؤسسة دفعه ليعبر عن خوفه من أن تفقد المدينة معهد عبد الوهاب أكومي الذي يعتبره ذاكرة ثقافية بالجهة.

“ناقوس الخطر أصبح يدق بباب المعهد، لأن المجلس الجماعي لم يعد يعير أي اهتمام لهذه المؤسسة، لأن المسؤولين بالمدينة لا يعتبرون الموسيقى من الأولويات، فآخر ما أصبح يفكر فيه هو المعهد الموسيقي. وهذا شيء يحز في النفس” يحكي حنشي وهو يسترجع ماضي المعهد المشرق.

ثم يضيف “بني ملال مدينة جميلة تستحق معهدا للموسيقى في مستوى تاريخها ومقامها، فالبناية المتواجدة في قلب المدينة لم تعد صالحة وبنايتها أصبحت غير ملائمة لتعليم الموسيقى، لذلك أصبح مفروضا على المسؤولين بالمدينة التفكير في وضع هذا المعهد”.

واعتبارا للمدة الطويلة التي قضاها نجيب عمراني في المعهد البلدي، أصبح يحس نفسه جزاء لا يتجزأ منه، لكنه لا يكل من مطالبة المسؤولين بالمدينة من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن مستقبل المعهد أصبح مجهولا، فهو ذاكرة ثقافية ومكسب للمدينة لا يجب التفريط فيه، يختم حنشي حديثه.

*صحافية متدربة

 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...