دراسةٌ في رواية “الزّمنِ المُوحش” لِحيدر حيدر(12)

-ملفات تادلة 24-

رواية الزمن الموحش رواية الزّمن

 تتمحورُ قصة الخطاب حول الرّواي “عبد الله شبلي” الذي هو “نظير” العربي، يهاجر من قريته إلى الشام “دمشق”، فيُستقطب إلى الحزب من قِبل صديقِ قريته “راني”.

 ينطلق زمنُ القصّة في الرواية والرّاوي في “دمشق”، حيثُ يشتغلُ موظّفا بحياة روتينية متشابهة، دائرتها محدودةٌ معادة، الحانة، جلسات الرفاق وبيوت عشيقاته (مُنى/أمينة…)، فهو يعيش تحت وطأة “زمنٍ قاسٍ بيده سوطٌ، يسوقكَ من بوابة البيت إلى مستنقع الوظيفة، ثمّ إلى الشوارع، والأمكنة الأخرى”. (ص 70)

بُدئَ الخطابُ بالإعلان عنْ أشخاصٍ غير محدَّدين، حيثُ نقرأ في بداية المقطع الأول من الفصل الأول (مستهل الرواية):

  • ها هُم قادمون منَ الجبال والسهول زحفا باتجاه المدن، في عيونهم غضبٌ، وعلى جباههم غبار ومجدٌ منتظرٌ… يتقدمون، لِواءُ فرحهم معقودٌ، وأنا حاديهم، ومعنا مسرّةٌ وبنادق، زحفا باتجاه المدن التي سقطت تحت ضربات الطلائع الأولى….

الآن يبدو العالمُ صحوا أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى، صحوٌ يشبهُ هدوء بحيرة غبّ إعصارٍ…

– إنّني أتذكرُ الآن، بهدوء تام، كيف نفختِ الريحُ في تلك الأودية… ثمّ فجأةً لمْ يبقَ غيرُ الصّدى، النائح فوق البوابات التي عاودها صمتُها القديم…

– سيمضي وقتٌ طويل، قبل أن أستطيع إدراك كُنهِ تلك العلاقة الآثمة والطُّهرانية، التي يُخيّلُ إليّ الآن أنها قد جمعتنا…” .( ص9/10).

هذا الصوتُ الذي افْتُتح به الخطاب زمنيا، هو “صوتُ” ما بعدَ زمن القصّة، إنّه إعلانٌ عن زمنٍ لم يبدأ بعدُ في الآن، فيتغيّر الزمن أكثر من أي وقت مضى، زمنُ هدوءٍ غبّ إعصارٍ توارى ورحلَ”، فخلّفَ الحطامَ والسّكينة، وبعضَ غبار الحزن الطّلَلِيّ”.

وفي الجهة الأخرى، وبالأمس نجدنا أمام الزمن الموحش، زمنُ المدن “السّاقطة”، تحتَ ضربات الطلائع الأولى، زمنُ الريح التي نفخت في الأودية، وضربت بكل شراستها، وأنينها الموجع، أبوابَ الكهوف المتناثرة والمظلمة”.( ص9)

هذا الآن هو زمنُ ما بعد الهزيمة” الذي فيه يُرهنُ الزّمنُ الماضي. إنّ زمنَ الخطابِ ترهينٌ للزّمن الموحش في الآن، وبذلكَ يتحقّقُ البعدُ الأول الذي يجعل روايةَ “الزمن الموحش” رواية زمنٍ. إنّها استرجاعُ الزمن الماضي، عنْ طريق التّرهين في الحاضر ومحاكمة هذا الزمن”[1].

بعد الإعلان الأول، يبدأُ الحكيُ الأول مفتتحا بإعلان ثانٍ عن اختفاء “مُنى” ورحيلِها، “الآنَ رحلتْ، غابتْ كحلْم هاجسِ النّفي في ليلة صافيةٍ، ولم يبقَ غيرُ الطيوف والتهويمات…” (ص10).

إنّ كلَّ شيء، سيقدّمُ من خلال الاسترجاع والتذكر، ولعلّ الصّيغَ الزّمنية من قبيل “كنّاالآنَ…. كانتذاكرتيطفولتي…” ترهنُ الماضي وتشبكه في الحاضر، فظل يُطالعنا باستمرارٍ غيابُ منى”، وضِمنهُ تُرهنُ حياةُ “شبلي” و”مُنى” مرارا، الشيء الذي يَشي بتداخل الماضي والحاضر، إنهما زمنٌ واحدٌ.

يقومُ تقديم الخطاب في الرواية على أساسِ المقاطع السّردية المستقلة عن بعضها البعض، وكثرة اللّوحات والمشاهد التي هي نتاجُ هذا التقطيع السّردي والزمني، كلُّ ذلكَ يجعلُ ضبْط التّسلسلِ الزمني في الرواية صعبا ومُنفلتا. يتّضحُ ذلك منْ خلال تحليل الفصلين الأول والثالث:

*- الفصل الأول (ص 9/ ص 97) 

يبدأُ بالإعلانيْن السّابقين (قدوم الشّخوص/ رحيلُ منى) وضمنَهما يَنطلقُ الحكيُ الأول: تعرّفُ الرّاوي على “مُنى” ذاتَ صيفٍ –ا لاختلاءُ في النادي رفقة “راني” والمثقفين- معاشرة “أَمينة”- تعرّفهُ إلى سامر “البدوي” الشاعر، وجلساته الخمرية الجدالية وزمرة المثقفين، فضمن هذه التمفصلات الكبرى، نعثرُ على استرجاعاتٍ لأحداث ماضية:

  • طفولةُ الراوي وأسرتُه/نظرتُه باعتباره ريفيّا إلى دمشق/طفولةُ “مُنى”/علاقتُه مع “راني” الذي استقطبَه إلى الحزب.

وإلى جانبها، نجدُ استباقات وآراء حول ما سيجري، وهي مشاهد متقطعة متداخلة، تراوح مكانها فتقدم وتؤخر، كل تلك المشاهد تقدم إلينا على أنها تجري الآن.

*- الفصل الثالث (ص 243/264)

إذا كان الرّاوي في الفصل السابق، يحاولُ رسم صورة داخلية وخارجية عن الشخصيات، فهنا في هذا الفصل يحاكم وعيها معتمدا اللّعبة الزمنية ذاتها (التقطيع، التضمين، التداخل). فقد عاد راني من بيروت، وإذ يسأل عن منى وأمينة ودمشق، يخبرُه الراوي أنّ “منى” راحلةٌ. وتتصاعد وثيرة الكشف عن الشخصيات، الراوي رَجلٌ بنصفين: أحدهما صادقٌ والنصف الآخر مخادعٌ، يكفكف دموع “منى” التي ما عادت تميزُ الأشياء وراني في توحّده بعشيقته ” لينا” و”سامر” البدوي سدين الخمر والنساء والهجرات الليلية.

يُختتم الفصل بإحالةٍ على الزمن العصيب الذي يتساوى فيه الحب والكراهية، والإبداع والغباء، وخلاله نَمَتِ الأعشابُ الضّارة، فأتتْ على الخِصب والحبّ، وفيه طَفَا على سطح وعي الرّاوي موتُ الأب الذي عاش ممزّقا بينَ السّماء والأرض.

أما على صعيد التمفصلات الكبرى، نجد أنفسنا أمام توالي صيفٍ وشتاء وخريف متداخل ومتشابك، ليصدقَ حدس الرواي، فيقعُ خرابُ عالمٍ بأكمله، ومِنْ خلال ذلك “تتعرّى الذاتُ، وتلعب الذاكرة دورا مركزيا، لكنَّ الحلم بالغد “منى” الراحلة، التي تظل هاجسا من بداية الخطاب إلى نهايته، يظل واردا. إنَّ هذا العالَم لا يمكن ألا يُرثى، فيصدّرُ الخطابُ بمراسيم دفنٍ، يُذيّلُ بملاحقَ ضمنها مراثي إرميا، ما موقع الإعلان الأول الذي مهّدنا به؟ يظلُّ ذلك الصوتُ الذي يصعب التحقّقُ منهُ! وينتهي الخطاب منْ خلال مذكرات “منى”، بأنها تلدُ، لكنها تلِدُ الولدَ المشوّه:

“… كتلة من اللحم والدّم الممزق، لا علاقة له بالآدميين، لقد ولدتِ الأرضُ المطعونةُ طفلًا عليلَ النّفس، عليلَ الجسد.”[2].

ذ.عبد الحكيم برنوص 

 

[1] –  سعيد يقطين تحليل الخطاب الروائي ، ص 160.

[2] – سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي ص 162.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...