-ملفات تادلة 24-
يبدو من الضروري، طرح هذا التساؤل في هذا الزمن الذي يشهد اكتساح الأفكار الجاهزة لعالمنا، وانتشارها المتزايد مع انتشار وسائط الإعلام وتقدمها المتسارع في مجتمعنا، في هذا الزمن الذي تعمل فيه “الصورة ” في مجتمع الفرجة، على مخاطبة ملكاتنا واستثمارها في غرس “البلاهات”..هذا التساؤل : أي مستقبل للفلسفة في عالمنا اليوم؟ يستمد أيضا مشروعيته وراهنيته وأهميته.. من التراجع الملحوظ لدور الفكر الفلسفي والضعف الذي أصبحت عليه الفلسفة كفكر في مجتمعنا الراهن، الذي يعرف هزات وتصدعات في أسسه القيمية المختلفة. فبقدر ما تنحو وسائط الإعلام نحو جمالية الكيتش kitsch، وبقدر ما تشمل مجموع حياتنا وتحيط بنا وتخترقنا، بقدر ما يغدو الكيتش جماليتنا وأخلاقنا اليومية.. ذاك أن الكيتش kitsch ، كما بين “ميلان كونديرا” Milan Kundera : “ليس إلا ترجمة لبلاهة الأفكار الجاهزة إلى لغة الجمال والوجدان”. فأي دور للفلسفة في هذه الأوضاع والمستجدات التي هيمن فيها التكنولوجيا ..وكيف هي وضعية الفلسفة وما مستقبلها أمام هذه التحديات.. هل نكتفي بأن نردد مع نيتشه حين يدعونا إلى “إزعاج البلاهة ومقاومتها” Nuire à la bêtise. نريد طرح هذا التساؤلات وغيرها لمعرفة وضعية الفلسفة في هذه المجتمعات ..وما مآلها و مستقبلها ..، لن نتساءل عما إذا كان “العالم العربي” الذي نعيشه قد عرف، أو يعرف الآن فلاسفة بالمعنى التقني للكلمة، ..كما يقول الباحث ذ عبد السلام بنعبد العالي في كتابه “منطق الخلل’ ؟ فهو يرى أن هذا النوع من التساؤلات لا يفضي إلى أجوبة، وغالبا ما يفتح أسئلة أخرى أشد تعقيدا. فالسبب الأهم لاستبعاد هذا التساؤل في نظره، هو أن الفلسفة ليست مجرد أسماء أعلام، والحقيقة إنها ليست أساسا أسماء أعلام بقدر ما هي مناخ فكري . ذلك أنه قد تكون هناك فلسفة من غير أن يوجد فلاسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. وربما يصدق هذا كثيرا على الفكر المعاصر حيث تلقي الفلسفة عند غير أهلها : ما فيها عند أصحاب النقد الادبي والدراسات الإنسانية مثلا، وعند علماء الأنتربولوجيا والتحليل النفسي، وعند المؤرخين ودارسي الأساطير..وبهذا المعنى بالفلسفة تعيش اليوم من / وفي هوامشها. ولعل أكبر “انتعاشة” عرفتها الفلسفة بعد ” اكتمالها” لم تتم على أيدي من عهدنا وألفنا تصنيفهم فلاسفة، ولم تترعرع كما نلاحظ في فضاءات الفلسفة التقليدية ،المعهودة، وإنما عرفت تطورا حين انبثقت في النوادي والمقاهي ،وفي نقاشات أهل الفن ونقاد الألوان والصباغة والتشكيل والسينما وغيرها من الفنون، وفي أعمال ماركس ونيتشه وبلانشو ودو سوسير وأرطو وليفي ستراوس ورولان بارط وميشيل فوكو ودولوز.. أمثلة دالة على ذلك…كذلك نجد في مجتمعنا كتاب وفلاسفة وأدباء مثل الكاتب عبد الكبير الخطيبي الذي يعارض أي تصنيف لفكره ..فهو يؤكد أنه يكتب على هامش السوسيولوجيا وهامش الفن وهامش الأدب…الخ. فهو يرفض أن ندرجه فيلسوفا بالمعنى الذي نجده عند كانط أو هيجل.. إنه يبحث في التراث الإنساني عموما وقضايا العصر بحثا فلسفيا ..وأسماء أخرى كذلك كمحمد عزيز الحبابي ومحمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي وعلي أومليل وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري…وغيرهم من الباحثين الشباب الذين نجد “رؤية فلسفية” في دراستهم ومقارباتهم.. دون أن يصبحوا يوما ما فلاسفة. وعلى رغم ذلك، فحتى إن نحن لم نتساءل عن الفلاسفة واكتفينا بالتساؤل عن هذا المناخ، فلن يكون جوابنا إيجابيا بطبيعة الحال، إذ أن عوائق متشعبة تحول دون توفر ذلك، فكما نعلم تعيش الفلسفة، بل عاشت على فترات طويلة حصارا ونبذا وتهميشا.. فهي إلى اليوم لا تكاد تدرس في عدد من الأقطار العربية. وهي، في أقطار أخرى حتى ولو تم تدريسها، تدرس في التعليم العالي من غير أن يمهد لها في الأطوار السابقة لهذا التعليم. وحتى في الأقطار التي يسمح لها فيها بالحياة من ضعف المقررات وتقادمها، أو تقليص الحصص المقررة التدريس وغيابها في الشعب الاقتصادية والتقنية.. وفي الجامعات الكبرى للطب والصيادلة …الخ وندرة المراجع والافتقار إلى الكتب الأمهات.. دون أن نغفل إلى جانب هذه العوائق، المناخ السياسي والايديولوجي الذي تعرفه كثير من الأقطار العربية، وغير المناسب لازدهار الفكر الفلسفي ..إذا استحضرنا هذه العوائق المتشعبة والمتعددة تمكننا أن نفهم لماذا لا تنتعش الفلسفة ولماذا لا يظهر “المناخ” الفلسفي المنشود. بالطبع يبقى السؤال الذي طرحناه في مدخل هذه المقالة قائما ..كيف السبيل الى “خلق” هذا المناخ إذا؟ ..لا يتعلق الأمر بنا نحن في منطقة جغرافية معينة فحسب عرفت شروطا معينة ،بل لقد سبق للفكر الأوروبي أن واجه الجمود الفلسفي الذي عرفته معظم الجامعات الأوروبية فترات معينة بإحياء الفلسفة ،لكن خارج الجامعات، في فضاءات مختلفة خارج مؤسساتها الرسمية .فترك ” التقليد” الفضاءات التقليدية وجاء الانفتاح من “خارج” تلك المؤسسات التقليدية. فقد ترك التقليد السوربون وجاء الانفتاح من الكولبج دو فرانس، ترك التقليد الفلاسفة “الرسميين” وجاء الانفتاح على يد المؤرخين والتحليلين ورواد الفن والتشكيل والسينما ومؤرخي الأديان ..لقد تم إدخال الفلسفة إلى الدراسات والتدريس في “خروجها” ذاته، تم إحياؤها في “موتها”.
حين نؤكد أن الفلسفة ليست بحثا خالصا ومطلقا في الحقيقة .. أو بحثا في اللاهوت ..وليست خطابا ساميا .. إن هذه التصورات والتمثلات التي توارثت هي التي نزلت الفلسفة عن كل ما هو حي..فلو نحن أردنا أن نستفيد من الدرس الفلسفي المعاصر فربما وجب علينا ، أن نفتح دراساتنا الأدبية والتاريخية واللغوية والنفسية والاجتماعية والتربوية والفنية على الفلسفة ،أي على الثورات الفكرية المعاصرة كما تمت عند مالارمي وفرويد ونيتشه ماركس وهايدجر وفوكو وجيل دولوز.. حتى تقتحم كثيرا من الأبواب التي ظلت مغلقة وموصدة في تراثنا…لنتساءل الآن ماذا يفعل الباحث ذ عبد الفتاح كيليطو حين يكتب عن الجاحظ؟ هل يكرر ماكنا نعرفه عن الجاحظ كما تناقلته كتب كثير من الدارسين؟ بالتأكيد لا.. وإذا كان العروي يكتب في التاريخ وقضايا فلسفية، فهل يكتب ويفكر بالطريقة التي عهدناها في كتب التاريخ من القدماء والمحدثين؟ يؤكد جيل دولوز تأكيدا قويا على أن “التمييز بين النظرية والممارسة هو الذي سمم تفكيرنا “. ذلك أننا كنا نرغب في أن نجعل من الفلسفة خطابا ساميا – كما قلنا – دفعها إلى تحويلها إلى خطاب فارغ المعنى له – . ولكي نمكن الفلسفة من دور ما تقوم به ووضع ما يميزها ، لكي تتمكن من معانقة “قدرها الخاص بها” يتوجب علينا اعتبارها خطابا مبدعا كباقي الميادين الفكرية الأخرى ،خطابا مبدعا، وأن الفيلسوف هو “ممارس” و” نجار” يخترع كما يقول جيل دولوز حينما ينتج ،يسوي ويحكم (من الإتقان والإحكام) ..أنه يحكم ترتيب مفاهيمه والمفاهيم لا توجد جاهزة، يجب صنعها.. إن الفيلسوف صديق المفهوم.. أنه يصنعه. وهو ليس ثابتا..فالكوجيطو مثلا هو من توقيع ديكارت .ولما يتم الانتهاء من تشكيل المفهوم – الموضوع، فلن يقبل بتاتا أن يعلق في متحف الأفكار أو أن يعتبر شيئا نهائيا. ذلك أن المفاهيم ليست أشياء ثابتة جامدة، فهي تتطلب أن يعاد فيها النظر في كل حين. وكلما أعدنا فيها النظر كلما امتلكت انسجاما أكبر. .هذا العمل الدائم الذي يتكون من الاختراع والاختراع المحدد يشتغل وفق طريق مزدوج : المنحى الخاص بالمجهود الفلسفي الذي تم ترشيحه بواسطة تحليل المشكلات الخصوصية من جهة ،ومن جهة أخرى أشكال التأثير التي يمكن رصدها في إطار العلاقة مع مختلف مكونات حقا الإبداع ..أن الدرس الفلسفي المعاصر يرغمنا على أن نفتح دراساتنا الأدبية والتاريخية واللغوية والاجتماعية والتربوية على الفلسفة، أي على الثورات الفكرية المعاصرة كما أشرنا. فمن الضروري البحث عن كل التقاطعات بين الفلسفة وسائر الإنتاجات الاخرى الأدبية والعلمية والفنية.. وبهذا الصدد فإن العلاقة بين الفلسفة والأدب تمنح لكل باحث امكانيات هامة من استكشاف تقاطعاتهما المشتركة وتشاركاتها وليس مجرد طي أحدهما في الآخر بإنكار الحدود النوعية للخطاب الفلسفي. ولعل القارئ لأعمال كونديرا يلمس ذلك الدور الذي تلعبه مثلا الرواية بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص في اكتشاف مختلف جوانب الوجود ..يقول كونديرا معقبا على الفياسوفين الألمانيين هوسرل وهايدجر: ” الواقع أن مؤسس الأزمنة الحديثة في نظري ليس ديكارت فحسب، بل كذلك سرفانتس، وربما كان هذا هو ما لم يأخذه الفينومينولوجيان بعين الاعتبار في حكمهما على الأزمنة الحديثة، اريد أن أقول بذلك :” إذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان فإنه يظهر بوضوح أن فنا أوروبيا كبيرا قد تكون مع سرفانتس، وما هذا الفن إلا سبر أغوار هذا الكائن المنسي” .ولذا فإن ميلان كونديرا يرى أن كافة التيمات الوجودية الكبرى التي يحللها هايدجر في كتابه” الوجود والزمان ” معتبرا أن الفلسفة الأوربية السابقة كلها قد أهملتها إنما تم الكشف عنها وبيانها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية. تساءلت مع معاصري سرفانتس عما هي المغامرة، وبدأت مع صموئيل ريتشاردسون في فحص “ما يدور في الداخل” وفي الكشف عن الحياة السرية للمشاعر، واكتشفت مع بلزاك تجذر الإنسان في التاريخ، وسبرت مع فلوبير أرضا كانت حتى ذلك الحين مجهولة ، هي أرض الحياة اليومية ، وعكفت مع تولستوي على تدخل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري ، إنها تستقصي الزمن: اللحظة الماضية التي لا يمكن القبض عليها مع جيمس جويس، وتستوجب مع توماس مان دور الأساطير التي تهدي خطابا الخ….تصاحب الرواية الإنسان على الدوام وبإخلاص منذ بداية الأزمنة الحديثة.
ومن هنا نكتشف أنه بقدر ما تلعبه الفلسفة من دور في فهم هذا الواقع المركب المتنوع.. نعرف أن هذا الدور يتكامل حين نفكر في العلاقات التي تربط استراتيجيات معينة مع الفنون والآداب والمعارف الأخرى.. لقد آن الاوان أن ننقل فعل التفلسف من المواقع المعهودة والمنابر التقليدية والموضوعات المستهلكة .. وأن لا تظل سجينة تاريخها وأكاديميتها. يقول جيل دولوز منتقدا هذه “المصيدة “التي نصبتها الفلسفة لنفسها: ” كيف يمكنكم أن تفكروا من غير أن تكونوا قد قرأتم أفلاطون وديكارت وكانط وهايدجر، وكذا كتاب فلان أو فلان عنهم؟ إنها مدرسة جبارة للتخويف تنتج اخصائيين في الفكر، وتعمل أيضا على أن ينتقل من يظلون خارجها أقوى امتثال لهذا التخصص الذي يسخرون منه. لقد تشكلت تاريخيا صورة عن الفكر تدعى فلسفة، تحول بين الناس والتفكير…”.
ذ.التهامي ياسين
إحالات مرجعية:
انظر للمزيد من الاطلاع
– سؤال طرحه ذ عبد السلام بنعبد العالي في كتابه : ضد الراهن لكن بصيغة أخر ى. أي مستقبل للفلسفة في العالم العربي…؟
– كتاب منطق الخلل لنفس المؤلف
ب- بين الفلسفة والتاريخ لعبد الله العروي