دراسةٌ في رواية “الزّمنِ المُوحش” لِحيدر حيدر(10) تراكبُ مستويات السّرد

-ملفات تادلة 24-

والدراسة متواصلةُ النّشر توفي صاحبُ متْنها، صاحبُ “الزمن الموحش” و”الوليمة” . سبعٌ وثمانون عاما هو عمْر  “حيدر حيدر”، عُمرٌ قد يطول أو يقصر، لكنّ صداه عميق في النّفس، يتردّد بين الحين والحين.

 

 السّرد الشعري:

هو أهم سمة مميزة للرواية بل هو عنوانها الغالب، وذروة سنامها، “فالزمن الموحش” رواية الشعرِ، وشعرُ الرواية في نفس الآن، فكلما قلّبتَ صفحاتها تجد شعرا. فالشعر ينزف من ثناياها، فهي رواية تنبض وتقطر شعرا.

إن حضور المحكي الشعري في النثر، ليس سوى حكيٍ يستعير من الشعر، آليات انبنائه وتأثيراته، لذلك ينبغي الانتباهُ لهذه الملاحظة الأساس في وصف ما هو شعر، وما هو رواية. إن حضور الشعر في النثر (المحكي الشعري) هو ظاهرة انتقال أو عبور بين الرواية والشعر[1]. فترتاد هذه اللغة الشعرية، ” فضاءات معتمة لا تستطيع لغةُ “الوعيِ الموضوعية” ارتيادَها والبوح بتحولاتها، حيث يتسلل الوهج الشعريُّ إلى البنية السردية، ليشرُخ رتابةَ الحكي ويُبطئ حركيته، ومن ثم تنتقلُ مجموعة من التحولات السردية، من مستوى الحركة الحدثية إلى حركة وجدانية، تسافر بالحواس داخل الأشياء، وهو ما يفضي إلى كتابةِ تؤول إلى ذاتها، فيما هي تتزوّجُ بالخطاب الحكائي المتعدي”[2]، مما يولّد  “صراعا ثابتا بين الوظيفة المرجعية، بمهامها الإحالية، والوظيفة الشعرية، التي تستدعي تفحّص شكل الرسالة ذاتها”[3].

لذلك يضفي السرد الشعري على ” الزمن الموحش” طابعا خاصا، يقربها من بنية المحكي الشعري( Le récit Poétique) التي تتوزع حسب تاديي( Tadié) ، بين الكتابة الشّعرية بلزوميتها، وكثافتها، “وموسقيتها”، والتخييل الروائي القائم على الوصف والاستحضار والتشخيص[4].

وهكذا تطالعنا الرواية في أول سطر منها:

  • ” ها هم قادمون من الجبال والسهول زحفا باتجاه المدن، في عيونهم غضبٌ، وعلى جباههم غبار ومَجد منتظر، في الرياح تخفق راياتهم وأصواتهم الجليلة، تملأُ سمع العالم، تحتهم ترتعش الأرض, ونفوسهم مفعمة بالأماني والغبطة”. (بداية الرواية ص9).
  • “وفي ذلك الزمن، كنتُ أشعر بأنني متوحدٌ ومنفيٌّ كشجرة في قفْر، تحت مهبّ ريحٍ سمومٍ. ولأنّني صمّمتُ أنْ أكون نفسي، رفضتُ وثائق التبرير، وفكرة الضحية للأجيال المتقدّمة على أنقاضي”. (ص74).

–  “هذا الجدار كتيمٌ لا ينفُذ منه الحُب، يكفي نفسَه بنفسه، والعابرون ظلالُ غيمٍ تنسحب فوق هذه الأرض، إدراكها يعبر حالة من الغفالة. حالة رجراجة، ترتعشُ بالمستقبل، يبغون خدْش جدار التاريخ، والتاريخ مظلم وعكِر، وهذا الجدار كونٌ خاص، أقامته مسافات تاريخية، عُمرها آلافُ سنوات النّهب والاستلاب والانتهاك والدم فولدت داخلهُ، طغيانا من الثأر اللاشعوري الصامت”. (ص171)                                                                                                                            –  “في جميع الأمكنة، كان الشرقُ بشطريه الرّومانسي والواقعي، شبيهَ سرابٍ في صحراءَ شاسعة، يستغرق العمر ولا يطال. والجيلُ المُنبثق يحاول أن يكون، فيتجزأ في بحثهِ عن الأمان والسرية، وعن امرأةٍ هي الأرض حينا وحينا آخر المطرُ أو العقيدة، وإذ يتصدّعُ يعود مقسورا. فيمضي ما تبقى من العمر كذبة ضائعة في سفر الزمن الخادع”.  ص(238)

ومن ثمّ فالسرد الشعريُّ، يُمثل ذروةَ توتر اللغة الروائية التي تتوسل بالاستعارة والمجاز والإيقاع والرمز، و”لتشخيص, صوت الذاتية, المشدودة إلى تجربة الأقاصي، أقاصي الحلم والمعرفة،  والعشق التي تندّ عنِ التشخيص والوصف”[5].

 الســرد الحُلمـي:

ينقلُ إلينا السردُ الحلميّ جانبا مستترا  ومثيرا من حياة الشخصية الروائية، إنه عالم اللّاوعي الغامض والمرعب والمُغوي حيث تحتشدُ الكوابيس الملازمة، والملغزة والأحلام المحبطة، والرغبات الموبوءة التي يحاصر ثقلَها بلا هوادة  “أنا” شِبلي الموزع بين إكراهاتِ الواقع وتحليقات الرغبة التي لا تجد مطلق إشباعها وكمال تحققها سوى في عوالم المتخيل الروائي والشعري.

يعتمد السرد الحُلميّ على مجموعة من التقنيات، كالتكثيف الدّلالي والرمزي، وشحنته الشّبقية،  بوصفه فضاء لمغامرات البطل، وعمقا استراتيجيا لتحليق رغائبه،  واستيهاماته المتوقدة باستمرار، نقرأ في الصفحة تسعون من الرواية:

– الضحى. تململتُ في الفراش، كنت ما أزال مصدوعا، عبَثا حاولتُ تذكّر الحلم الذي رأيتُه، أشْعاتٌ منه هوّمت: مطاردةٌ عبر جبال وعرة. رجالٌ مسلحون. ثمّ اختباء في كهف صخريٍّ. امرأة ريفية هاربة وطفل مذعور تركَته تلك التي يمكن أن تكون أمّه. وأنا مختبئ أرتجفُ من الهلع. سحبتُ المرأة إلى داخل الكهف. كانت هلعة تلهثُ. وإذا لامستُها أحسسنا بقليل من الأمان… كان الكهفُ مفتوحا من جهات متعددة وبدا ضيقا. لم يكن هناك ظلامٌ. شعرتُ بالقرف بعد العملية الجنسية ثم لا أذكر شيئا.(ص90/91)

ونقرأ كذلك :

– شاطئ مُرمل ومعشب. البحر هادئ يسبح فيه أناسٌ لا أعرفهم، بناءٌ شاهقٌ قربَ البحر، يشبه القلاع القديمة، داخل البناء مظلمٌ ورطب، تذكّرُ هندستُه الداخلية ودهاليزه بسجون القرون الوسطى. البناء من الداخل ضيق ذو طابقين وأنا في الطابق الأعلى. ثمّة سّلمّان متقابلان، يؤديان إلى أسفلَ حيثُ يقوم بئر عميق مظلم وأنا محاصر، داخل مساحة بحجم السجن وخائف. (ص294) انظر كذلك الصفحات (72/179/211/279/307/311) .

 السرد الإيروسي:

إنّ المرأة والأرض المغتصبة (فلسطين) صورتان تتداخلان عبر صفحات الرواية، وكلّ واحدة تشكل العزاءَ عن الأخرى المنفلتة الهاربة دوما. ففي الرواية، وعلى امتداد فصولها الخمسة، يُطالعنا سردٌ إيروسي أو”شبَقي” يصدرُ عن خلفيةٍ جمالية ومعرفية، تتعارضُ كليّا مع النظرة الإباحية المُسطّحة التي تختزلُ الجسدَ والجنس إلى مجرد موضوعاتٍ، أو محفّزات لإثارة نزوات القارئ وخيالِه الجنسي، واستثارتهما. في الرواية نعثرُ على المرأة الرمز، المرأة الملجأُ والوطنُ، التعويض عن الفقْد والتيه، فهي رمزُ الخصب والحياة:

– إنّني أذكرُ الآن كيف كنتُ أتصبّاها داخل كهفيَ القديم، متوهجا برائحتها التي تشبهُ رائحة الزّيزفون البريّ، مُدركا بعد لحظاتٍ بأنني مُقبل على الانغمار في جحيم جسدها، مولِّدين شرارةً تشبهُ الموت، ينتصبُ بعدها حائطُ الزمن بيننا” (ص12).

– “على الخِوان قبّلتُها بشغفٍ وعذوبة، على شفتيها وعنقها وخلف أُذنها، وفي تلك اللحظة بَدَتْ مسحورة، ملتهبة كحجارة الصيف، كانت تتنفّسُ وتئنُّ بكلّ جسدها الذي هُجر، وفيما بعد منحت كما ينبغي لامرأة عاصفة تعرف العشق لأول مرة”.(ص 234)

” إنّ السرد الإيروسي، من هذا المنظور، يشيّد كتابة إشكاليةً، يتعالقُ فيها الحسي والغريزي، بالمكبوت واللامفكر فيه، والميتافيزيقي، وفق صوغٍ تخييليّ، بالغِ الجمالية والكثافة والإمتاع، وفي هذه الحال فإن القارئ بدوره يكون مدعوّا لتفعيل طاقاته الخيالية، في سيرورةِ تخصيب شفرات السّرد الإيروسي، بوصفه تجسيدا خاصا للغة الجسد، وجسد اللغة”[6]، ذلك أنّ إرغامات الجنس، بالمعنى الفرويدي، وهيمنة الوهْم والزيف، تُفضي كلها إلى محاصرة الشخصيات الروائية وعزلها، حتى داخل العلاقات الحميمية وبما أنّ لكلٍ نصيبه من هذه الإرغامات الشعورية واللاشعورية والاجتماعية، فإنّ المحكيات التي تتناولُها، تصبح كالشذرات المِرآوية التي تعكس فضاءاتٍ ومتاهات متماثلةً داخل عالمٍ يفقد تدريجيا، سِماته الإنسانية”[7].

ذ. برنوص عبد الحكيم

 

[1] Le récit poétique, jean yoes tadié. Puf Ecrture 1er ed paris 1978/p 7

[2] – أحمد فرشوخ، حياة النص دراسة في السرد ص 58

[3] Le récit poétique, jean yoes tadié, puf écriture P7/8

[4] – نفس المرجع السابق ص 8

[5] – يوسف شكير شعرية السرد الروائي عند إدوارد الخراط، عالم الفكر، يوليوز سنة 2001/ ص256.

[6] – يوسف شكير، شعرية السرد الروائي عند ادوراد  الخراطـ ص 258

[7] – احمد اليبوري، في الرواية العربية – التكون والاشتغال، ص88




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...