-ملفات تادلة 24-
“ليس المهم أن نقول قولا، وإنما أن نكرر القول، وأن نقوله كل مرة ، وكأنه قيل للمرة الأولى..”
M.Blanchot.l’entretien infini.
تمهيد أولي :
في ذكرى ذ رحيل محمد عابد الجابري في 3ماي 2010 ..وتكريما لهذا المفكر المغربي وتقديرا له كواحد من أكثر المشتغلين بالفلسفة في المغرب عطاء وحضورا في البحث والكتابة والتدريس والعمل السياسي في آن واحد.. قدم الأستاذ الباحث في مجال الفلسفة والترجمة.. ذ عبد السلام بنعبد العالي قراءة تفكيكية يحدد فيها كعادته وبلغة فلسفية دقيقة وأمينة ووفية مضامين ومنطلقات وأبعاد نصوص الراحل محمد عابد الجابري ..قراءة فلسفية خاصة ومتميزة يرسم فيها بنعبد العالي أهم المنطلقات التي يعتبرها ضرورية وبدونها لا يمكن لأية قراءة جادة لأعمال الجابري و”لمشروعه العام” إلا أن تتم في إطارها ..لا يعني ذلك وكما يقول أستاذنا بنعبد العالي الذي يتميز دائما بالتحديد المنهجي وضبط المفاهيم في كتاباته أننا مجبرون على التسليم بها جميعها أو بعضها، إلا أننا ملزمون بأخذها بعين الاعتبار كلما عزمنا على قراءة أعمال صاحبها بعيدا هذه المرة عن ممارسة السياسة ، إن لم يكن في الثقافة بمجملها ، فعلى الأقل في القراءة . وإذ أقدم هنا قراءة عبد السلام بنعبد العالي كما هي واردة في عدد 9497 من جريدة “الاتحاد الاشتراكي” كما نشرت بتاريخ يوم الثلاثاء 8 يونيو 2010 ..وهو العدد الخاص الذي تم نشره في أعقاب رحيل الأستاذ محمد عابد الجابري في 3ماي 2010. فإني أقدمها رغبة في تخليد ذكرى رحيل أستاذي الكبير الجابري.. كطالب سابق تتلمذ على يديه في بداية السبعينات.. وكمهتم أيضا منذ عقود بفكر الجابري وبكل إنتاجات وأعمال رواد الفكر الفلسفي المغربي بشكل خاص، أقترح هذا المقالة المكثفة لأستاذنا الكبير عبد السلام بنعبد العالي على قراء الجريدة الأوفياء، ومختلف المهتمين من مثقفين وباحثين.. علها تعينهم في هذه المناسبة، مناسبة إحياء الذكرى على تبديد بعض الصعوبات المعرفية والمنهجية التي قد يجدها القارئ الشغوف بأعمال الجابري كرائد من رواد الفكر الفلسفي المغربي وأحد رموزه الكبيرة إلى جانب ذ عبد الله العروي وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم .. هي “قراءة دقيقة” من شأنها أن تعين كل مهتم بفكر الجابري وبمشروعه المجتمعي السياسي الذي مازال حاضرا بيننا ويرغمنا على استثماره ،و التفكير فيه مجددا وقراءته القراءة المتبصرة الواعية المتجددة التي تكشف عن جوانب خفية ومسكوت عنها في نص الجابري وتملأ فراغاته وبياضاته..، نص الجابري مازال ينكشف في كل لحظة انكشافا عجيبا لقرائه على ضوء تطورات المناهج والعلوم في البحث ، و أيضا على ضوء تطور الواقع المغربي والعربي والعالمي..، نصوص “ابن فكيك” الغنية بالدلالات والرسائل المتعددة ..تلزم كل قارئ يقظ ونبيه في وقتنا الراهن لمسيرة هذا الرجل الفكرية والسياسية.. أن يعترف بالجهد المعرفي الذي بذله الراحل، والالتزام الأدبي العلمي والأخلاقي الذي تحلى به الراحل طيلة حياته.. لقد كان الراحل مهووسا بالدرس الفلسفي الإنساني عموما، والمغربي على الخصوص ،كان همه هو تقديم قراءة متميزة للتراث العربي الاسلامي ،قراءة مغايرة لما هو سائد أو كان سائدا من القراءات في عهده..ومرة أخرى نقول : إحياء لذكرى رحيل هذا المغربي الكبير الغيور على وطنه، رجل التنوير الشجاع، المتسامح، الذي خلف أعمالا غنية بشكل استثنائي ، نأمل من هذا كله أن تنكب الأجيال الحالية والقادمة، على أعماله لدعم نضالاته المختلفة ضد التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي ..،ويحولوا أفكاره القوية التي تتضمنها أعماله إلى بذور خصبة لردم عوائق التقدم والخروج من هذا الوضع المتأزم المتردي ..
***************
يقول ذ فيعبد السلام بنعبد العالي في مداخلته:
“يقترح علينا الإخوان المنظمون لهذا اللقاء ، قراءات جديدة لأعمال المرحوم محمد عابد الجابري. القراءات الجديدة كما نعلم ، كانت ابتداء من ستينات القرن الماضي موضة ، أو لنقل على الأقل ،كانت ظاهرة طبعت الفكر الفلسفي على الخصوص ، وجاءت في أعقاب تحول ابيستمولوجي اقتضى إعادة نظر في ما تراكم ومن تأويلات وما سلف من قراءات .على هذا النحو أعيدت قراءة فرويد ، فماركس ، فهيجل، فنيتشه.. إلى غير ذلك من الإعادات والمراجعات. وقد صوحبت هذه القراءات الجديدة، كما نعلم ، بإعادة نظر في أهمية مؤلفات، وفي قيمة ترجمات، وصحة تأويلات. ما يهمنا في الأمر أن المسألة لم تكن وليدة قرارات اعتباطية، ولا ملابسات عرضية ،وإنما كانت انعراجا فكريا تمخض عن إعادة نظر في نظرية القراءة ذاتها، مع ما يتطلبه ذلك من تحول في الأدوات والمفاهيم. السؤال الذي يطرح علينا نفسه في هذا اللقاء الذي يعقب وفاة المرحوم هو: هل هناك مبرر للدعوة إلى إعادة قراءة متنه، أي مراجعة الكيفية التي كان يقرأ بها،أو قرأناه بها حتى الآن.؟ وما هي الخصوصية التي طبعت أعمال الجابري وممارسته للكتابة والتأليف لتجعل قراءة جديدة تفرض نفسها بعد رحيله ؟ من المأثور عن المرحوم أنه كان يمارس السياسة في الثقافة. لا شك أن نتائج متعددة تتمخض عن هذه القولة لن نخص منها إلا ما يعنينا هنا، وهو أن مختلف القراءات التي تمت لأعماله كانت هي كذلك تمارس السياسة في القراءة. ولعل ذلك ما يفسر كثرة الانتقادات التي تعرضت لها تلك الأعمال من أطراف متعددة. فقد اختلف معه الماركسيون مثلما اختلف معهم، وانتقده السلفيون مثلما انتقدهم، إلى غير ذلك من المذاهب والتيارات.
قد يكون من المبرر إذن أن تتم الدعوة الآن لسن نهج جديد في القراءة لأعمال الجابري لا يتوخى بالأساس أن يكون” مع “أو “ضد “، ولا يرمي إلى محاكمة أعمال المرحوم من وجهة نظر الصواب والخطأ، ولا يتوخى بالأساس جره إلى تيار بعينه، بقدر ما يكتفي بإبراز المنطلقات التي يصدر عنها في تفكيره والمسلمات التي يتطلب منها في كتاباته. لنقل بلغة المرحوم إن هذا النهج يرمي إلى الوقوف عن “الأساسيات” ، لإخضاع صاحب ” نقد العقل العربي” للقراءة عينها التي مارسها هو على موضوعه.
سنحاول هنا إذن أن نقتصر في قراءتنا على المنطلقات والأسس التي اعتمدها المرحوم في كتاباته. ولعل أول تلك المنطلقات التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار هو أن صاحب ” نقد العقل العربي” لم يكن لينشغل بقضايا نظرية خالصة، ولا ليهتم فحسب بالتاريخ لأفكار ، وإقامة صرح معرفي ومنظومة فكرية . إن ما كان يشغله أساسا، وكما كتب هو مرارا هو ” إعادة بناء الذات العربية” ، ومحاولة الجواب عن السؤال الذي ما فتئ يقض مضجع كل من اشتغل بالفكر من عرب معاصرين، وأعني السؤال : كيف يمكن للفكر العربي المعاصر أن يستعيد ويستوعب الجوانب العقلانية في تراثه، ويوظفها توظيفها جديدا؟ لعل هذه إحدى الدلالات التي كان يقصدها عندما كان يقول إنه كان “يمارس السياسة في الثقافة”. والمنطلق الثاني الذي ينطلق منه صاحب “نحن والتراث” هو أن هذه الاستعادة للجوانب العقلانية لا يمكن أن تتم باستيراد أفكار، وأن كل تجديد لثقافتنا ينبغي أن يكون تجديدا من الداخل. إلا أن هذا التجديد لا ينبغي أن يتغلب على ذاته. صحيح أنه يبدأ بنقد التراث ، إلا أنه مجبر على الانفتاح على الحداثة ، لا لتقمصها ، وإنما لنقدها و”الكشف عن نسبية شعاراتها”. بهذا لا يمكن للتحديث أن يعني قطيعة مع الماضي، وهذا هو المنطلق الثالث لفكر الجابري . كل تحديث ينبغي أن يكون تأصيلا ، بل إن التحديث والتأصيل وجهان لعملية واحدة .تقوم هذه العملية في محاولة إرساء المرجعية داخل ثقافتنا للمفاهيم التي تشكل قوام الحداثة بهدف “استنباتها في تربتنا” ، وربطها بما قد يكون لها من أشباه ونظائر في تراثنا، وإعادة بناء هذه بطريقة تجعل منها مرجعية الحداثة عندنا” . إنها اذن” تبيئة ثقافية ” لتلك المفاهيم. لا يتعلق الأمر بطبيعة الحال بمجرد إيجاد مقابلات عربية وترجمة مفاهيم و” نقلها” إلى لغتنا وثقافتنا، كما لا يتعلق الأمر بالأولى بإثبات سبق للفكر العربي الإسلامي في جميع الميادين، والتفاخر بأن أجدادنا كانوا “السابقين على الدوام” ، وإنما بتبيئة وزرع واستنبات . وهذا ما يمكن أن ينقدنا من مخاطر الحداثة الرائجة عند بعض ” الحداثيين” منا، وأعني تلك التي ” تستوحي أطروحاتها ونطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوروبية التي تتخذها أصولا لها “. التحديث وممارسة العقلانية ينبغي أن يتم في تراث “نا” .فما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة ب “نا”. على هذا النحو، فإن الدخول إلى العالمية – وهذا رابع منطلق – لا يمكن أن يتم إلا عبر خصوصية .كل تملك للتراث لما يسمى تراثا إنسانيا لابد وأن يتم عبر خصوصية بعينها: “فالشعوب لا تستعيد في وعيها إلا تراثها ، أو ما يتصل به. أما الجانب الإنساني العام في التراث البشري كله فهي تعيشه في تراثها لا خارجه”.عند الجابري إيمان قوي بوحدة التطور البشري ،وتسليم بأن هناك تاريخا كليا تتراكم لحظاته وتستمر وتتواصل ، بحيث يشكل التاريخ العام عصارة المساهمات النوعية للثقافات جميعها. بهذا المعنى يغدو تراثنا العربي الإسلامي لحظة من لحظات قيام الحداثة العالمية”. هناك إذن عالمية لتراثنا العربي الاسلامي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا الى حد أننا حينما نقيم تعارضا ومقابلة بين الأصالة والمعاصرة نكون كأنما وضعنا الفكر الإنساني في مقابل نفسه.. أما خامس منطلق فهو استعادة التراث لا تعني إحياء ل” المادة المعرفية” التي تداولها، أي جملة المعارف التي استثمرها وروجها. إن للفكر وظائف مفعولات تجعل في الإمكان التجاوب مع التطلعات الايديولوجية التي كانت من ورائه، من غير حاجة إلى التجاوب مع المادة المعرفية التي استعملها، فالمادة المعرفية نفسها يمكن أن تكون قد وظفت بأشكال ، إلا أن بالإمكان دوما توظيفها بشكل مغاير.
النقطة السادسة هي أن هاته الرؤية تنطلق من الكل إلى الأجزاء لا العكس. وربما كان إغفال هذه المسألة هو ما تسبب لكثير من قراء الجابري ومنتقديه في سوء فهم كثير من القضايا. إن الجابري لا يهتم باللوينات التي يتخذها هذا المشكل أو ذاك، هذا المفهوم أو ذاك عند هذا الفيلسوف أو ذاك، في هذا المؤلف أو في غيره. المبدأ الأساس الذي يلزم استحضاره عند قراءة صاحب “نقد العقل العربي” هو أن الحقيقة هي الكل لا الأجزاء. وليست الأجزاء إلا تعبيرات وحيدة الجانب عن هذا الكل. فليست الفروق والاختلافات إلا مفعولا لوحدة أولية هي ما يطلق عليه الجابري بوحدة الإشكالية. من هنا عيب القراءات التي تتوقف عند بعض الجزيئات لتخالف الجابري في نقط جزئية بعينها، إن هذه القراءات تغفل بكل بساطة أن المهم في المشكل داخل الإشكالية ليس ذاته، بل الدور الذي يقوم به بوصفه أحد عناصرها.
والمنطلق السابع والأخير هو أن صاحب “نقد العقل” لا يؤرخ للعقل كمنتوج، كأفكار، كمعرفة، وإنمايهدف كما يقول أن يقيم أساسيات المعرفة العربية محاولا متابعة الكيفية التي ترسخت عن طريقها “أصول الفكر العربي”، أي ” طرق في العمل والإنتاج وأساليب في الإقناع ومقاييس للقبول والرفض. إننا لسنا هنا حتى أمام بحث منطقي يسعى إلى إبراز المنهج الذي اتبعه فكر ما في توليد أفكاره، لسنا أمام بحث ابستمولوجي، وإنما بحث في الابستيميات، أي منظومة الفكر العامة التي تتخذ داخل إطارها آليات الفكر وأنظمة الخطاب.”.
ذ. التهامي ياسين