سؤال المعارضة .. بين الواقع  والمأمول

-ملفات تادلة 24-

أزمنة وأمكنة

” الديمقراطية كما نفهمها اليوم لا تبنى ولا يمكن أن تبنى إلا بالديمقراطية نفسها.ليس هناك طريق آخر”.

                                  محمد عابد الجابري

 

    يبدو أنه قد قطعت “المعارضة” في مسرح الثقافة السياسية المغربية أشواطا كبيرة كانت تكتفي فيها أحيانا بالمعارضة والنقد..وأحيانا أخرى بالمشاركة الفعلية داخل المشروع الديمقراطي الذي فرض نفسه على كل التنظيمات السياسية، وبات هذا المشروع إطارا تتجاذب داخله وتتنازع كل المواقف والتنظيمات السياسية على اختلافها.. بالطبع نقصد هنا “المعارضة” التي ترتبط بحركة اليسار المغربي التي يمكن أن نجد فيها “مواقف أخرى” فضلت أن تبقى خارج نطاق المشاركة ونهجت المقاطعة أسلوبا لها انسجاما مع مواقفها التي تعلن عنها .ومهما يكن فقد راكمت المعارضة التي انخرطت كتنظيمات أو كأفراد  في المشروع الديمقراطي فحاولت الجمع بين ” المعارضة النقدية” و”ممارسة السلطة” معا ، تجربة لم تكن سهلة دون تكلفة ومتاعب وأزمات..وواجهت في تدبيرها للشأن العام في كل المسؤوليات التي تقلدتها أسئلة الواقع المركب وتناقضاته المعقدة  بالفعل لا بالتنظير عن بعد ، بل باتخاذ قرارات من مواقع المسؤولية السياسية والاجتماعية المباشرة ..كانت تلك التجربة اختبارا حقيقيا لبرامجها ولفلسفتها وأهدافها ومدى قوتها..وسمحت تلك التجربة للمهتمين بمحاسبتها ونقدها وتحليلها دون هوادة ..إن سؤال المعارضة، سؤال مشروع يجعلنا نفكر في واقعها اليوم ..كيف هي المعارضة اليوم ؟  فكرا وممارسة وهي تتحمل “القيادة والمسؤولية” أحيانا أو تعارض أو تقاطع أحيانا أخرى ؟ فهل حققت ولو قليلا من استراتيجيتها وبرامجها أم أخفقت وخبا وهجها وأعلنت غير ما مرة حاجتها إلى مراجعة نقدية جذرية ومساءلة لاستراتيجيتها ومآلها ؟ يحيلنا هذا أيضا إلى سؤال آخر عريض وهو: لماذا تصلح السياسة اليوم رغم ما يقال عن تقلباتها على ضوء تحولات كبيرة شهدتها المنظومات والمرجعيات الإيديولوجية التي كان يغترف منها اليسار المغربي؟ هذا السؤال عندما يطرح ونحاول مقاربته نسبيا، متجاوزبن السؤال عن مصداقية السياسة ومشروعيتها، فإننا نجد أن هناك، على الأقل، زاويتي نظر تفرضان نفسيهما في هذا الصدد. ذلك أن الذي يطرح هذا السؤال ينطلق من إحدى الفرضيتين: أولاهما تؤكد أننا مارسنا السياسة في مجتمعنا إلى درجة كبيرة أو كما يقال إلى درجة “التخمة” كما يسميها البعض ، أو كما يقول ذ عبد الله العروي في كتابه من ديوان السياسة أن ” الكل أضحى سياسة” ،  بحيث لم نعد نعرف كيف نزاولها ، وأنه إختلط الأمر علينا من كثرة ممارستها، وأننا استنفذنا السياسة واستغرقنا فيها إلى أن غادرتنا من تلقاء نفسها وتخلت عنا ؛ ذلك أنه لم نعد نميز فيها بين ما هو سياسي حقا.. وما هو فني و رياضي وعلمي وديني وفلسفي وتربوي ..إن من يطرح السؤال من هذه الزاوية يعتبر أن ممارسة السياسة السيئة زادت ربما عن حدها في مجتمعنا ولم تستقل وتتجرد، فكرا وعملا،  من الزوائد الشوائب، لتتجه إليها الهمم، تقتحمها المواهب، وتنمو بها الجهود كما يقول ذ.العروي صاحب الايديولوجية العربية المعاصرة..وينطلق أصحاب الفرضية الثانية من أنه لا توجد لدينا سياسة بشكل كاف وإنما فقط توجد حاجة كبيرة وماسة إلى ممارستها ،إن في طرح السؤال: ” لماذا تصلح السياسة اليوم؟ من هذه الزاوية، نوعا من الثناء الضمني إلى ممارسة السياسة وتوفير الشروط الضرورية لحضورها المكثف في حياتنا. قد تبدو للبعض أن هذه القضايا نظرية أكاديمية، لكنها في الواقع، حاضرة معنا في كل أركان ومناحي الفعل المجتمعي الراهن. فهناك من يصرح أو يستهل كلمته من موقع مسؤول مثلا في المجالس الجماعية أو في التشكيلة الحكومية وغيرها من المسؤوليات  بأنه مسؤول سياسي.. و في ذلك اعتراف ومؤشر بأنه يرفض التقنوقراطية، كما أنه يحيل على نظام معين من المسؤولية السياسية وعلى الحسابات التي من المفترض أن يقدمها هؤلاء الفاعلون إلى المؤسسات السياسية من مجالس وغرف وجماعات وغيرها ..لكن وبالرجوع إلى السؤال لماذا تصلح السياسة اليوم ؟  وبالاستئناس كذلك بنتائج الدراسات الأكاديمية التي تفسر الظاهرة ظاهرة “التسيس” ببنياتها العميقة أي بالشروط الموضوعية والنزعات الثقافية العميقة ..يمكن أن نشير إلى بعض النزعات البنيوية .فظاهرة اللاتسيس البنيوي تطبع واقعنا إلى حد بات معه من المشروع أن نتساءل عن ماهي النزعة التي تكتسح فضاءنا بسرعة: أي التوسع الإرادي أو غير الإرادي لمجال السياسة أم النزعة المعاكسة لذلك؟ وكثير من المؤشرات أيضا بأن “اللاتسيس” يتقدم بسرعة أكبر من نزعة “التسيس”، ويؤكد على هذا كما يلاحظ اتساع مجال تجربة “التكنوقراط” التي تراكمت واكتسحت كل المجالات..وهي تكتسح المجال أو المجتمع المدني بقوة. وهناك من يؤكد على أن المغرب يعيش طور الإصلاح وهناك من يعتقد بشكل كبير أن الإصلاح لايحتاج الى سياسة..بل يذهب الى حد إقامة تعارض بين “الإصلاح” و”السياسة” معتبرا أن للإصلاح طابعات تقنوقراطيا محضا، وهو ما يكرس نزعة اللاتسيس السائدة والمكتسحة للفضاء المغربي. ويبقى السؤال مطروحا لدى البعض الآخر الذي يؤمن بدور السياسة في الحياة العامة كفعل مؤثر منظم ومسؤول تاريخيا وحضاريا رغم كل العوائق والمثبطات.. ويؤمن بأن للسياسة حظوظ في أن تبرز وتهيمن، وماذا يمكن لها أن تقوم به والنزعات العميقة تفعل ضدها باستمرار وإصرار. السؤال الأول الذي عنونا به مقالتنا سؤال المعارضة بين الممكن والمأمول..يبقى سؤالا سياسيا أساسيا يستمر وينفتح على كل التحولات ، وهو مرتبط بشكل عضوي وقوي بالمشروع اليساري الذي يمكن أن يضفي التجدد والانفتاح على كل التطورات لاستيعابها وفهمها ..غير أن سؤالا آخر يطرح نفسه الآن وبإلحاح وهو :اليسار المغربي كيف هو؟ وإلى أين ؟ واليسار هنا نتكلم عنه من هو داخل التجربة المشارك في المؤسسات المنتخبة او خارجها ..لقد لاحظ الكثير في الآونة وفي الاستحقاقات الأخيرة لاحظ كيف أن البرامج السياسية المطروحة أضحت متشابهة الى حد كبير ، ويجد المهتم بها صعوبة أكثر فأكثر في التميز عن البرامج السياسية لليسار ووسط اليسار ولليمين ووسط اليمين ويمين اليمين أحيانا، وتفتقد الأسس والقيم والاختيارات الموجهة..من المؤكد أن تجربة اليسار تاريخيا بما لها وما عليها ،أنها تؤكد الإمكانيات الهائلة للإصلاح المتاحة أمام اليسار وقدراته على التأثير من خلالها داخل المجتمع ..وهو يمكن أن يكون ذو أثر وفعالية حين يتجاوز هذا المشروع التنظيمي اليساري انقساماته المتناسلة و معيقاته الذاتية والموضوعية ليترجم إلى قوة سياسية مجتمعية موحدة يفرض القبول الصادق والعميق والمسار المتعدد الذي يتفاعل بإبداعاته واجتهاداته وعطاءاته وإسهاماته المختلفة مع واقعه المركب والمتطور..وقد نتامل حوارا بين المفكر الراحل عبد الكبير الخطيبي المعروف بكتاباته الفلسفية المشاغبة النقدية  والقلقة ..وذ. عبد الله ساعف كفاعل  سياسي مسؤول خبر المعارضة وتحمل مسؤوليات مختلفة في السلطة الحكومية وكباحث مغربي أكاديمي له تنظيراته المتميزة في نفس الوقت، حين قدم هذا الأخير كتابه الذي يغطي المراحل السياسية الأخيرة من تاريخ بلادنا ويضم أيضا يوميات خاصة ..قدمه للخطيبي وذلك لقراءته..وقد سأل الخطيبي ذ عبدالله ساعف السؤال التالي: هل يمكن للمرء أن يكون في موقع الفعل السياسي ويمارس السياسة من موقع المسؤولية..وأن يفكر في ذات الوقت في فعله وممارسته ومسؤوليته؟ أي هل يمكن أن نفكر في السياسة. ونحن نمارسها؟ في إجابة ذ ساعف عن سؤال الخطيبي نعثر على إحاطة شاملة منه بكل عناصر الفكر السياسي نظريا وممارسة كما تبلورت على أرض الواقع ومختلف المواقف والإشكالات التي تطرحها العلاقة بين الفكر والممارسة كما بدت له من تجربته مشيرا إلى نموذج في التراث الاسلامي الفلسفي كابن خلدون الذي اهتم بالسياسة بعدما أغلق على نفسه في قلعة ابن سلامة بغرض كتابة مقدمتها..وأن التفكير عند ابن خلدون يربح كثيرا عندما يكون على بعد مسافة مع الممارسة..

لكن تدخل الخطيبي في حواره مع ذ ساعف يريد أن يتحدث عن الأسباب التي تجعلنا نختار السياسة جوابا على جروحنا العميقة اللاواعية، وتجعلنا، في مابعد، ننتظر من السياسة أن تجيب فعلا على جميع الانتظارات والآمال والطموحات، وأن تكون بلسما لجميع الجروح، جروح كل واحد منا !.

 فالسياسة في نظر الخطيبي حين لا نهتم بهاتأتينا هي إلينا لكن بطريقتها الخاصة..يتساءل ذ ساعف وهو في حواره مع الخطيبي عن مدى صحة ما يقال نحن المغاربة أننا لازلنا ننتمي ،في المرحلة الراهنة ، لصنف المجتمعات ذات الحركية المحدودة وذات الفعل المحدود ،وكذلك الشأن بالنسبة للسياسة في الممارسة والفكر. يتساءل ماهي دلالة الفكر والفعل السياسيين في بلد تنذر فيه السياسة كما تنذر فيها الحركة!  لكن ذ ساعف كسياسي يساري وكمسؤول سابق في موقع القرار يربط في ذهنه سؤال الخطيبي الجذري باعتقاده أن ” أهم ظاهرة تكتسح بنيات وفضاءات مجتمعنا هي ظاهرة اللاتسيس، الأمر الذي دفعه إلى التساؤل عن أي جرح يجيب التسيس في بلد يكتسحه اللاتسيس ؟. ونقرأ في السياق نفسه نصا ونتأمله  لباحث ومفكر يساري آخر خبر المعارضة كمسؤول في حزبه و أيضا مارس البحث الفلسفي السياسي في قضايا الفكر والتراث والمجتمع ..نصا يتوجه فيه باقتراح إلى قوى  اليسار هو الراحل محمد عابد الجابري قائلا: ” مستقبل اليسار في المغرب كما في العالم العربي عموما يتوقف على مدى قدرته على التعرف على نفسه أو إعادة التعرف على نفسه لا كطرف مقابل ليمين ما، اقتصادي أو ايديولوجي ،بل أولا وقبل كل شيء كمبشر بالأهداف التاريخية التي تطرحها المرحلة الراهنة، كمدشن لعملية الانتظام الفكري حولها وكقوة دفع للعمل على تحقيقها، إن هذا ما يجعل اليسار أو سيجعله ذا مستقبل.”.

                             **********

إحالات مرجعية. :

_ عبدالله ساعف “رهانات التحول السياسي في المغرب”..دفاتر سياسية .

_ ذ عبد الله العروي “من ديوان السياسة” ..

_ د محمد عابد الجابري “مواقف” ..مستقبل اليسار العدد22

ذ.التهامي ياسين




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...