مفهوم “الماركسية الموضوعية” في فكر عبد الله العروي .

-ملفات تادلة 24-

أزمنة وأمكنة

” لست من الذين يقفون اليوم على قبر لينين وماو .لكني أرى اليوم أن تجربة القرن العشرين تشير أنه لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها ، ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها ” ذ عبد الله العروي .

                                *************

   توطئة ضرورية :

     من قال أن العروي كمفكر تجمد عام 1966 كما قد يتبادر للبعض؟ العروي مفكر معاصر، وليس كما يقال أنه أيقونة تجمدت منذ صدور كتابه الشهير “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” أو كتاب” تاريخ المغرب” حين صدر في طبعة ماسبيرو الفرنسية في أواخر الستينات. يجيبنا العروي نفسه عن حالة المعاصرة التي نؤكد عليها في مشروعه الفكري بقوله : “لا يجب أن يرى (بضم الياء) في شخصي إلا مؤلف “تاريخ المغرب”. خلال أربعين سنة، العالم تغير، كل شيء تغير، أنا تغيرت وبقيت في نفس الآن وفيا لمنطقي”. ماذا يعني قول هذا الباحث المغربي الذي مازال يواصل البحث والتأليف؟ يريد أن يقول صاحب كتاب “من ديوان السياسة” الصادر سنة  2009 و قبله “السنة والإصلاح” سنة 2008 ، أن الشخص هو منهج التفكير، التحليل والاستنتاج، قبل الأسلوب .الحداثة سلوك، اجتهاد متجدد وثوابت راسخة ! فلنبحث عن هذه الاستنتاجات والتحليلات والثوابت إذن التي ظل وفيا لها ذ العروي في كتابه الأخير الصادر سنة (2016) بعنوان ” Philosophie et histoire” بالفرنسية، والذي قام بترجمته أو نقله أستاذنا المترجم المغربي ذ عبد السلام بنعبد العالي صاحب الشذرات الفلسفية المتميزة ..وبموافقة العروي طبعاعلى ذلك ، ذلك أن العروي يولي أهمية كبرى للترجمة والتأويل و لا يمنح “تأشيرة” الترجمة أو “النقل”  كنا يقول لأحد إلا بشروط .. فهو يفضل كلمة “نقل” على “ترجمة”، و أن تكتب على غلاف كل كتاب يترجم من لغة لأخرى..لم ينس العروي ماذا فعل بعض مترجمي كتابه الأول الصادر سنة 1967 كتاب” الايديولوجية العربية المعاصرة” من الفرنسية إلى العربية. قال العروي حين اطلع على تلك الترجمة معلقا بمرارة: ” إن المترجم العربي المعاصر يبدو وكأنه يتناول القلم باليمنى والكتاب بيده  اليسرى مكتفيا بما في ذهنه من مفاهيم ومفردات ، وإذا خانته الذاكرة عاد إلى المورد أو المنهل”. وقد اخترت بالمناسبة وإسهاما في إغناء فكر المعارضة في ملف هذا العدد من جريدة ملفات تادلة أن أضع بين يدي القارئ المهتم والملتزم بقراءتها نصا متميزا من النصوص الواردة لعبد الله العروي في كتابه المترجم «فلسفة وتاريخ ” الذي صدر في أواخر سنة 2016 بعنوان “ماركسية موضوعية” . ومقتضى تسميتها “ماركسية موضوعية” كما يتضح أنها ليست من ” الماركسية الذاتية ” المتعلقة بذاتية المثقف وبتصوره للماركسية، في شيء، وإنما تنم عن “حاجة موضوعية” و”وقتية” يقتضيها “الواقع الموضوعي” ويمليها. أكثر من هذا، يمكن القول كما سنلاحظ في هذا النص الذي نقدمه عمد العروي إلى تطبيق التاريخانية حتى على الماركسية نفسها. إذ من شأن الماركسية إذا ما نحن نظرنا إليها وفق المنظور التاريخانية أن “تتلون حسب المجتمع الذي ينتمي إليه القائلون بها، وذلك في بداية تأثيرها على الأقل” كما يقول، وهو يحصي في هذا الصدد على الأقل أربعة ألوان من الماركسية : 1/ الماركسية الليبرالية كما تحضر عند مفكري الاقتصاد (روبنسون،سويزي، بتلهابم) وتحضر عند مؤرخي الاجتماع (دوب، هوبسباوم….) 2/ الماركسية المنهجية (ألتوسير وتلامذته)….3/ الماركسية العقدية كما نجدها بشكل أو بآخر عند المفكرين الصينيين.4/ الماركسية الإنسية كما هي عند غرامشي، وسارتر ،وجارودي الأول).هذا فضلا كما يرى كثير من الباحثين أن ثمة تأويلات أخرى للماركسية لا يكاد أحد حصرها.ومن ثمة فالقاعدة  التأويلية أو الأفق التأويلي كما يصوغه العروي هكذا: ” دائما وأبدا يقرأ ماركس في ضوء معين”. والقارئ الشغوف والمتورط في تأمل وتحليل قضايا فكر العروي وللماركسية وهذا العالم الراسمالي في تطوره الحالي والمضطرب فكريا وسياسيا..الغريب بتناقضاته ومفارقاته.. التي تزداد حدة، يمكن أن يقف على مفهوم العروي للماركسية وقراءته لها على ضوء ما حدث وما يحدث الآن وما هو آت أيضا.. لنقرأ نصه:

                                *****************

يقول ذ عبد الله العروي:

(اكتشف سارتر متأخرا أن الماركسية هي الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لعصرنا، الأمر الذي جر عليه النقد الساخر لخصوم سطحيبن لا ينقصون خبثا. الحقيقة أنه يمكن قول الشيء ذاته عن كانط وهيجل، بل وحتى عن نيتشه: كل واحد من هؤلاء طرح سؤالا لا يمكن حله ولا تجاوزه على الفور. استعملت عبارة ماركسية موضوعية، ولكن بمعنى حصري. إن السؤال الذي طرحه ماركس سؤال فلسفي في نظر سارتر، فهو يتوجه إلى الإنسانية جمعاء، في حين أن السؤال الذي يشغلني على وجه الخصوص، يتوجه الى جزء من الإنسانية فحسب، وهو ذاك الذي يوجد تحت سيطرة آخر، فيسعى نحو التحرر.

أتحدث عن ماركس صاحب الإيديولوجيا الألمانية، وليس مؤلف الرأسمال ،أو ذاك الذي يؤكد ان ألمانيا في تأخر لمرحلة، درجة ومستوى، وبعبارة موجزة، بثورة، مقارنة مع فرنسا وانجلترا، ماركس الذي يحث ألمانيا الحالمة على فهم أسباب تأخرها، بهدف وضع برنامج استدراك واقعي قابل للتحقيق.

أكتفي بأن ألاحظ أن الايديولوجيبن العرب يطرحون، فيما يخصهم، سؤالا مماثلا لهذا، وينهجون الطريقة نفسها لحله. يعطي كل واحد منهم جوابا جزئيا، وهذه الأجوبة الجزئية تجد تركيبها على يد الدولة القومية في شكل برنامج عمل (قائمة إصلاحات) تسعى جاهدة لتنفيذه. ثم تأتي فيما بعد مرحلة نقد هذا البرنامج الذي يبقى في المستوى التجريبي. الأمر شبيه بوضعية العامل الذي يتبع تعليمات رئيسه الذي يأتمر بدوره بأوامر المهندس. ترجع للعالم مهمة الكشف عن القوانين التي تبرر قرارات هذا الأخير وتسمح بتجنب فشلها. بهذا المعنى تكون الماركسية هي أفق الإيديولوجيين المصلحين، فهي تعطي معنى لكل إجراء تم افتتاحه أو اتخاذه، في إطار كل له معنى. لماذا الافتتان بالعلم والتقنية؟ لماذا السعي وراء تحرير الفرد من قيود التراث؟ لماذا التصرف على نحو مغاير إزاء الألوهية؟ يمكن أن نجيب عن كل سؤال من هذه الأسئلة، أو عن أخرى مرتبطة بها، بجواب مناسب ومحدود في الوقت ذاته. لكن، في الوقت ذاته، يمكن أن نواصل التفكير لجعل كل جواب لا يتنافى مع الكل، وحينئذ تستهدف نقطة تلوح في الافق، وإما أن نقرر توقيف البحث فجأة بسبب ضيق الوقت أو عدم الاهتمام. ومع ذلك فالأفق قائم هناك، ولا يمكن استبعاده. إنه الوعد بتركيب يظل ممكنا، لانه سبق أن تحقق. من هنا يتولد بعد جديد من أجل من التحق متأخرا، وهو بعد المستقبل-الماضي، وهو البعد الذي يعمل فيه بالضرورة الزعيم المصلح، مهما كانت درجة التأخر الذي يلزم تداركه. وبما أن هذا التركيب قد تم من دوننا، وبالرغم منا وفي غيابنا، فلذلك يمكننا القول إنه يحجب الأفق. الوعي بذلك يوفر الوقت، لأننا نعرف حينئذ في أي اتجاه نسير. وإذا ما تقرر تجاهله، لسبب أو لآخر، فإن ذلك لا يوقف العمل، وإنما يجعله أكثر ترددا، وأقل فعالية. يمكن لمشروع أن يعرقل مشروعا آخر، وهذه هي مأساة الإنتقائية، والنفعية المبتذلة، والخلط بين القديم والجديد، إنها مأساة التركيب العجيب بين” الأصالة والمعاصرة”، الذي ليس إلا خدعة لاستعادة التراث. من قبيل الوهم التطلع الى إصلاح سياسي، أو تطور علمي حقيقي في غياب “ثورة ثقافية حقيقية”.

الحديث عن ماركسية موضوعية، يعني أن مختلف الإصلاحات التي تعد بها الدولة القومية يمكن أن تشكل كلا متماسكة سياسة تحديث. وهذا يعني استبدال نموذج مجتمعي بآخر. كل نموذج عبارة عن منظومة. التحديث مسلسل بطيء وتدريجي، ولكن المقصود هو المنظومة. وهذا صحيح لدرجة أن منظري التحديث السياسي، وهم أمريكيون في معظمهم، وخبراء المنتظمات الدولية، قد استوعبوه. وهم يلجأون ل”ماكس فيبر” كي لا يعودوا إلى ماركس صراحة. لا يعودون إليه لأن معظمهم ينتمي الى العالم المتقدم، وهم يستبعدون، فيما يتعلق بمجتمعاتهم، ماركس آخر لا يتحدث عن الماضي أو الحاضر، وانما عن مستقبل يخشونه. ومع ذلك فهم يعترفون ضمنيا أن ماركس، الذي قام بحفريات النظام الرأسمالي، ملائم المجتمعات المغايرة لمجتمعاتهم والرامية إلى السير على النهج نفسه. وفي بعض الأحيان، يذهب بهم المكر إلى أن ينعثوا ما هو ماركسية مبتذلة، بماركسية مضادة. الماركسية الموضوعية مرسومة في الوقائع، ولكن بأحرف باهتة. وهي ليست من قبيل اللاشعور، وإنما اللامدرك، الذي لا يحول دون التحرك والاقتراب من الهدف المنشود بسرعة تزداد أو تقل. بماذا تتميز عن الماركسية الأخرى؟ تقدم هاته نفسها كعلم صالح لكل مكان وزمان. من يقول العلم، يقول التحقق، هذا ما جربه المؤرخون وعلماء الاجتماع والانتربولوجيا فتاهوا في ذلك. على عكس الماركسية العلمية، فإن الماركسية الموضوعية (أو الايديولوجية او البرنامجية) لا حاجة لها بالتحقق من الناحية النظرية.يدرك المجتمع أن كل مجتمع حي-أي ذاك الذي لم يقرر الانسحاب من حلبة التاريخ – يتشبت بأن يكون في مستوى المجتمعات الأخرى، كي لا يتعرض لسيطرتها. وهو يحتذي مثال المجتمعات التي برزت كقوى مهيمنة في التاريخ الذي ندعوه بالضبط تاريخيا حديثا. كثير من المذاهب تبرر نهج هذه السياسة الجزئية أو تلك، ولكن ليس منها ما يبررها جميعا من حيث هي منظومة، بالوضوح ذاته والإيجابية عينها التي تعمل بهما الماركسية التي تستوعب مذاهب جزئية أخرى، والتي تشكل ظل كل مشروع ينهجه زعماء الدولة القومية.

ماهو ضمني في فعل ما لا يكون في حاجة إلى تحقق وتمحيص، إنه جزء من المشروع. وإذا ما وعينا به، فإن ذلك يزيد من فعالية العمل. ) . انتهى النص.

                              ***********

إحالات مرجعية: النص الذي عرضناه بين مزدوجتين من كتاب ذ عبد الله العروي الصادر سنة 2016

 Philosophie et histoire

والمترجم إلى العربية “بين الفلسفة والتاريخ” كما أشرنا.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...