عزيز إدمين: هل سيدشن شوقي بنيوب للمرحلة الثانية من العدالة الانتقالية بالمغرب؟

-عزيز إدمين-

نظمت المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان والمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف ندوة حول “منجز العدالة الانتقالية بالمغرب” بتاريخ 30 ماي 2022، شارك فيها عدد من المساهمين في عمل هيئة الإنصاف والمصالحة، بالإضافة إلى طيف من المدافعين عن حقوق الإنسان.
ومن خلال المناقشات، سواء منها الافتتاحية أو الموضوعاتية، حول تيمة “الحقيقة”، يمكن تسجيل عدد من التفاعلات بخصوص الموضوع:

أولا: أهمية الندوة في السياقات الحالية

نُظمت الندوة في سياقات مختلفة سِمتُها التوجّه نحو طي ملف هيئة الإنصاف والمصالحة، وأيضا تنامي خطابٍ حقوقيٍّ يوسم المرحلة الحالية بكونها شبيهة بمرحلة سنوات الجمر والرصاص، وبعودة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وإن اختلفت أنماط هذه الانتهاكات، وبالتالي، فتنظيم الندوة، في حد ذاته، يعتبر مهمًّا جدا للنقاش العمومي، وتزداد الأهمية لكون الجهة المنظمة أحدها رسميا والثاني مدنيا.

ثانيا: تقييم المسار(ات) أم المنجز

اختار المنظمون عنوانًا للندوة هو “منجز العدالة الانتقالية بالمغرب”، وهنا يمكن رصد نوع من الخلط بين العدالة الانتقالية كمسلسل وكمسار فيه البعد السياسي والاجتماعي، وبين حصيلة عمل هيئة الإنصاف والمصالحة ومدى تنفيذ توصياتها.
يمكن الحديث عن “منجز تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة” لكونه حصيلة عدد من التشريعات والسياسات والتدابير والمؤسسات، وعملية التقييم تكون في الغالب “كمّية”، من خلال جرد ما تحقق، وما لم يتحقق، وما هو في طور التحقق، وذلك انطلاقا من جدولة للتوصيات الصادرة في التقرير الختامي للهيئة.. كما يمكنه أن يكون تقييما “نوعيا” أو “موضوعياتيا”، وبالتالي تقييم المنجز في علاقته بمدى التلاؤم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان أم لا، فمثلا القول بكون الإصلاح الدستوري لسنة 2011 تجاوز حجم التوصيات المقدمة، أو القول بكون الانخراط في المعاهدات الدولية وخاصة البروتكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتفاعل مع نظام الإجراءات الخاصة أكبر بكثير مما طرحته الهيئة، كما يمكن القول، بالعكس، إن إصلاح القانون الجنائي لم يراعي تحديد مفهوم التعذيب بشكل دقيق كما هو منصوص عليه في المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وإن إصلاح المسطرة الجنائية لا يستجيب لمعايير الحكامة الأمنية.
أما الحديث عن “منجز” للعدالة الانتقالية، فهو أمر لا يستقيم، كمن يتحدث عن “منجز الديمقراطية” أو “منجز العدالة الاجتماعية”، لكون هذه التعبيرات هي مفاهيم معيارية ومنظومة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وليست سياسات عمومية أو سياسات عامة.
وبالتالي، فمناقشة العدالة الانتقالية تأخذنا إلى النقطة الثالثة.

ثالثا: تحقيب العدالة الانتقالية بالمغرب

من أجل تحقيب مسلسل العدالة الانتقالية، يمكن تناول ثلاثة أزمنة، الزمن النسبي، والزمن المطلق، والزمن الإضافي. لا يختلف اثنان أن الزمن المطلق للعدالة الانتقالية بالمغرب بدأ مع إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، ولكن هناك اختلافات كثيرة في الزمنين النسبي والإضافي.

1- الزمن النسبي

يُقصد بالزمن النسبي البوادر الأولى لبداية التحضير للعدالة الانتقالية بالمغرب، وأي متتبع أو مهتم لابدّ أن يجد صعوبة في ضبط عقارب الساعة على الصفر في هذا المسلسل، وذلك لاختلاف وجهات النظر والمواقع والمسؤوليات.
هناك من يعتبر أن إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان هو بداية المسلسل، في مقابل الدستورانيين، الذين يرون في دستور 1992، الذي نصّ على إضافة أن المملكة “تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا”، في التصدير، هو بداية البدايات، فيما الضحايا وعائلاتهم يرون أن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وتأسيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، هو البداية.. أما القانوني، فيرى أن إلغاء قانون “كل ما من شأنه ” هو النافذة المطلة على العدالة الانتقالية، فيما النقابي، يرى في توقيع أول اتفاق اجتماعي في فاتح غشت 1994 هو أول خطوة في هذا المسار، بينما الحزبي يرى في كون المفاوضات من أجل تشكيل “حكومة التناوب التوافقي” هي البداية… في مقابل هؤلاء وأولئك، يحاجج بعض أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة بكون تقديم وثيقة الحقيقة والمصالحة إلى مستشار الملك فؤاد عالي الهمة هي اللبنة الأولى في مسلسل الإنصاف والمصالحة.. وأخيرا، يجد الحقوقي في المناظرة الأولى للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هي المنطلق، الذي هزّ كيان الدولة لفتح جراح الماضي.. أما الرسمي، فإنه يؤكد أن الانطلاقة الفعلية تمثّلت في استجابة الملك، وفق توجّهه الإرادي لتأسيس “العهد الجديد”، للتوصية المقدمة من قبل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

2- الزمن المطلق:

يُقصد بالزمن المطلق الزمن الواقعي لفتح ورش العدالة الانتقالية، مع إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة، وإصدار ظهير تشكيلها ووضع نظامها الداخلي.

وفي هذا الإطار، يمكن تناول موضوعِ منجزِ طرقِ وعملِ وحصيلةِ الهيئة كتقييم مادي وزمني لها، وإن أصبح هذا المجهود متجاوزا لكونها أصبحت أمرا واقعا، وتوصياتها غطت على مرحلة عملها، كما أن المجهود يكون له أثر في حينه، أي أثناء عملها أو بعيد صدور تقريرها.

3- الزمن الإضافي:

اشتغلت هيئة الإنصاف والمصالحة 23 شهرا، ومع ذلك لم تنتهي من إتمام أشغالها، مما دفعها إلى وضع توصية “متابعة تنفيذ توصيات الهيئة”، من خلال إحداث لجنة بالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، يعهد لها بهذا الدور في مجالات الحقيقة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار.

بناء على ذلك، يعتبر نشرُ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وبدايةُ عمل لجنة تتبع تنفيذ التوصيات هو بداية الحقبة الثالثة لمسلسل العدالة الانتقالية، وإن كان من الناحية البيداغوجية يمكن وضع بداية لهذا الزمن الإضافي من أجل طي صفحة الماضي الأليم، لكن يصعب وضع نهاية له…

لقد اعتقد البعض أن نشر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنتي 2009 و2010 لتقرير متابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بملاحقه الأربعة، هي نهاية هذه الحقبة، ولكن بالعودة إلى ظهير إحداث المجلس الوطني لحقوق الإنسان 1.11.19 في فاتح مارس 2011، الذي أكد أن المجلس الوطني يحل محل المجلس الاستشاري في جميع التزاماته (المادة 58)، بما فيها دور المجلس الاستشاري في “تسوية ملف ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان” (الفقرة 5 من تصدير الظهير)، نجد أن الملف ما زال مفتوحا إلى ما بعد 2011، يضاف إلى ذلك أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقريره السنوي لسنة 2020 “كوفيد-19: وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد”، سجل أن رئيسة المجلس أصدرت، بتاريخ 3 شتنبر 2020، قرارا بإعادة هيكلة “لجنة متابعة تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة” و”تدعيم طاقمها الإداري والحرص على تفرغه”.

لكن اللافت أنه، منذ سنة 2018، بدأت تصريحات رسمية، خاصة من قِبل الأمين العام والرئيس السابقين للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، تفيد أن ملف العدالة الانتقالية بالمغرب سوف يتم غلقه، وسوف يتم إصدار تقرير نهائي حول الموضوع في دجنبر 2019، يفيد أن المجلس استنفد كل إمكاناته القانونية والسياسية في هذا الموضوع…

هذا المنحى هو ما دفع، قبل ذلك، الحركة الحقوقية المغربية، بإشراف “هيئة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”، إلى عقد ندوة دولية بمثابة المناظرة الوطنية الثانية بمراكش أيام 20-21-22 أبريل 2018 بمراكش تحت شعار “من أجل ضمان عدم التكرار”، جاء في بيانها الختامي أن: “مسار تنفيذ التوصيات عرف تعثّرا وتأخرا كبيرين، وتأثر في ذلك، سلبا وإيجابا، بما واكبه من تمدد وتقلص في ممارسة الحريات والتمتع بالحقوق الأساسية”، مع التأكيد على ضرورة “تشكيل آلية وطنية للحقيقة لمواصلة الكشف عمّا تبقى من الحقيقة في حالات الاختفاء القسري، ولمواكبة عائلات الضحايا”.

وهذا ما جددت التأكيد عليه هيئة متابعة توصيات المناظرة الوطنية حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مسيرتها الوطنية في 18 دجنبر 2018، إذ شددت، مرة أخرى، في بيانها العام، على ما يلي: “انتهت الندوة الدولية المنظمة من طرف هيئة المتابعة بمراكش لتقييم مسار الإنصاف والمصالحة بالمغرب إلى ضرورة تشكيل آلية وطنية للحقيقة لمواصلة الكشف عمّا تبقى من الحقيقة في حالات الاختفاء القسري وحالات الانتهاكات الجسيمة الأخرى العالقة، ولمصاحبة ومواكبة عائلات الضحايا، وكل ذلك وفق أساليب وتقنيات التحري المعتبرة، وخاصة تحاليل الحمض النووي وغيره”.

داخل هذا التجاذب بين قوى تسعى إلى انهاء ملف العدالة الانتقالية بشكل أحادي ومنفرد، وأخرى ترى أن المسار لم ينتهِ بعد، يطرح سؤال: ما العمل؟

إن العدالة الانتقالية قوسٌ يُفتح لكي يُغلق، وليست مسلسلا إلى ما لا نهاية، ويبقى كيفية نهايتها وزمنها وطي ملفاتها هو محور النقطة الرابعة…

رابعا: الزمن الختامي للعدالة الانتقالية

تتقاطع إرادة إنهاء ملف العدالة الانتقالية بين كل الأطراف، ولكنها تختلف في زمنها وشكل وطريقة الإغلاق، وهو ما يقتضي التفكير في “الزمن الختامي” لهذا المسار، وهذه الحقبة الأخيرة من عمر العدالة الانتقالية قد تأخذ سنة، سنتين، خمس سنوات، عشر سنوات… وذلك حسب ما تم تحقيقه.

الطرف، الذي يريد إغلاق الملف بسرعة، يبرر موقفه بكون المجلس الوطني لحقوق الإنسان وصل إلى السقف المسموح له بـ”النبش” في الماضي، وما بقي عالقا لا يدخل في اختصاصاته، بل يدخل ضمن اختصاصات مؤسسات أخرى، ومنها أساسا الحكومة.

الطرف الثاني يريد إغلاق الملف موضوعيا، بحكم الأمر الواقع، بمعنى أن يُغلِق الملفُّ ذاتَه بذاتِه، وذلك بعد استكمال كافة التوصيات والضمانات بعدم تكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة. ويبرر هذا الطرف موقفه بما يلي:

– الدستور:

خطاب 9 مارس 2011، حيث أصدر الملك توجيهاته لمعدي الوثيقة الدستورية بأن تتم دسترة التوصيات الوجيهة لهيئة الإنصاف والمصالحة، وهو ما تفاعل معه المشرع الدستوري بأن خصص تصديرًا للدستور بمثابة دستور الحقوق والحريات، وبابًا كاملًا للحريات العامة والحقوق بمثابة دستور المواطنة.

وباعتبار أن الدستور وثيقة عامة موجهة تتطلب رزمة من التشريعات والمؤسسات من أجل تفعيل بنوده، فإنه يقتضي “آلية” تتبع ويقظة لهذه المكتسب الدستوري.

فعدد من المقتضيات الدستورية المتقدمة تم “قبرها” عبر قوانين تنظيمية وتشريعات مقيدة للحقوق.

– الانخراط في الهيئات الحقوقية الأممية:

صادق المغرب على البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وهو معطى إيجابي، وهناك من يعتبره أهم وثيقة أممية في إطار الشرعة الدولية. ولكن هناك من يعتبر أن البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب “ثورة” في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان، والمتتبع لمآل مصادقة المغرب على هذا البروتوكول وإحداث الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، يرى بشكل ظاهر كيف تمت وتتم عملية “تجميد” هذا المكتسب.

بالعودة إلى نشأة تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث توصية إحداثها وظهير تشكيلها، يجد أنها لجنة من أجل الحقيقة أولا، ثم المصالحة والإنصاف، بيد أنه تم تغييب مفهوم “الحقيقة” كعنوان عريض للتجربة.

– معالجة الحقائق المبتورة:

سبق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أن قدم تقريره في دجنبر 2009، بخصوص تتبع تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، إلا أن أجزاء كثيرة من “الحقيقة” بقيت “مبتورة”، وهو ما يتطلب “آلية” مستقلة تستمر في الكشف عن الحقيقة، وتعالج “أعطاب” الزمن الإضافي في تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب.

– الحاجة إلى تقرير مستقل وجامع وشامل:

يقدم المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقاريره السنوية، بعض المعطيات والأرقام بخصوص جبر الضرر الفردي والذاكرة، وذلك باعتبار ملف العدالة الانتقالية كأنه جزء من أنشطة عمله وملحقة إدارية تابعة له، في حين أنه ملف مستقل بذاته، ويقتضي إصدار تقرير خاص ومستقل حول مدى تنفيذ التوصيات والاكراهات والمعيقات.

– حقن التجربة المغربية بالمستجدات الدولية:

لاحظ المندوب الوزاري لحقوق الإنسان، أثناء الندوة، أن هيئة الإنصاف والمصالحة لم تقدم توصية بخصوص التفاعل مع نظام الإجراءات الخاصة، وبالفعل، فإن التعاطي مع هذا الإجراء الأممي مهم جدا، ليس فقط في ما يتعلق بتقديم الشكاوى الفردية أو الزيارات القطرية، بل تكمن أهميته القصوى في الاجتهادات والقراءات والتقارير الموضوعاتية، التي يقدمها بشكل دوري وسنوي، من أجل تعزيز وتطوير وحماية تجارب العدالة الانتقالية.

وبالتالي، فالمغرب بحاجة إلى دمج ما توصل إليه المقرر الخاص المعني بتعزيز الحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار، من اجتهادات وتجارب ومستجدات، ضمن مسلسل العدالة الانتقالية بالمغرب، وذلك شبيه باستجابة المغرب بدمج بعضٍ من مبادئ باريس لسنة 1993، ضمن النسخة الثانية من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.
وأخيرا، فإن الحاجة إلى المرحلة الرابعة من مسلسل العدالة الانتقالية بالمغرب، ينبني على معطيين:

أولا: وجود خوف وتخوف كبيرين من الانتهاكات الحاصلة الآن، من قمع للحريات والحقوق ومن فض التظاهرات والمحاكمة الجماعية والتعسفية لعدد من المتظاهرين والصحافيين، أن يهدم كل التجربة المغربية، وأن يتعرى مبدأ “ضمانات عدم التكرار” بكونه مجرد سرب في صحراء الانتهاكات.

ثانيا: يلاحظ أن الفاعل الحقوقي استنفد مصطلحات “التعاقد”، و”الصفقة”، و”الإرادة السياسية”، وبالتالي أصبح ينتقل من سردية “التسوية” إلى “محورية” حقوق الإنسان.

ختاما:

لا يمكن للزمن الختامي للعدالة الانتقالية بالمغرب أن يبدأ إلا بإطلاق سراح معتقلي الحركات الاحتجاجية والصحافيين…




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...