أمينة بحيرة: جنديات الخفاء

-أمينة بحيرة*

أمي لم تسمع أبدا عن الحريق الذي شب في مصنع بأمريكا، أضرمه فيه صاحبه انتقاما من النساء العاملات عنده، أثناء إضرابهن البطولي، من أجل المطالبة بتحسين شروط العمل، فكان أن راح ضحيته 129 عاملة يوم 8 مارس لسنة 1908.

ولا علمت شيئا عن نساء شاركن في مقاومة الاستعمار، عندما كانت المرأة ممنوعة من الخروج من البيت، لأن ذلك يعتبر خروجا عن طاعة الأب، الأخ، والزوج، بالتالي؛ فإن الأم كانت تحرص على تلقين ابنتها بأمانة ما لُقن لها، همها الأكبر، أن تنال رضا الأب والعم والخال، بعد الجد ثم الأبناء الذكور.

 ما أعجب له، هي تلك الرغبة الجامحة الدفينة التي استولت عليها، والتي ظلت تحضنها برفق بداخلها، في صمت، تعبر لي عنها بعفوية، عبر توجيهاتها الحكيمة لي، على رأسها، ضرورة مواظبتي على الدراسة وعن طريق رعايتها التامة لي.

حينها، تعاملت مع نصائحها ببراءة، حيث بدت لي مسألة عادية أن تهتم أم بمستقبل ابنتها، فكنت أسعى لتحقيق نتائج عالية، من جهة لأنني أحب الدراسة وأعشق المنافسة، ومن جهة ثانية، كي أسعِد أمي مثلما كنت أسعَد بتشجيعها المستمر لي بكلماتها الحنونة التي لا تنقطع عني، صادرة عن أم تحب ابنتها، وترغب في رؤيتها سعيدة عندما تصير شابة.

كانت تفتقد إلى الكفاءة اللغوية التي تمكنها من توصيف دقيق لوضعها كامرأة أمية، لا تكتب اسمها، لا تفك رموز رسالة، ولا تقرأ ما يظهر على شاشة التلفاز، فكيف بها أن تصف مشاعرها القوية، أو أن تعبر عن سلب إرادتها وحريتها في اتخاذ قرارات تخصها؟ إلا أن ذلك كله، رغم قساوته، لم يقف عقبة في وجهها، بل ابتكرت بذكائها الفطري طرقا بسيطة، مكنتها من إيصال مشاعرها ورغباتها لي، التي تخص مستقبلي.

شيء واحد لم تكن تتهاون في تذكيري به يوميا، هو أن الدراسة وحدها سبيلي نحو حياة أفضل.

بفضل إلحاحها في ذلك، رسخت لدي الشعور أن تشبثي بالتعليم هو مسؤولية، علي أن أكون أهلا لها، فكان أن وضعت كل ثقتها في الحماس الذي كانت كلماتها  البسيطة والعميقة  في آن  واحد،  تخلفه في عقلي وفي وجداني على حد سواء، زودتني بفضل نفسها الطويل، بمفهوم صحيح للصبر، على أنه لا يعني الاستسلام للواقع وانتظار ما سيأتي و قد لا يأتي، أن مستقبلي علي أن أصنعه  بالكد والاجتهاد، أن الطموح هو امتداد للحلم في الواقع، أن عمل الفتاة وحده يكفل لها كرامتها، دروس عدة لقتني إياها دون أن تدري هي نفسها بذلك، لأنها بنظر المجتمع مجرد سيدة أمية، لا تتعدى كونها  ربة بيت، تنحصر مهامها في العناية بأسرتها وببيتها، بينما أنا أتعلم منها دروسا ثمينة، بدوري عن غير وعي مني، نظرا لعمري الصغير، استوعبت الموضوع، وأمورا أخرى عدة، بعدما كبرت، أما في الصغر، فقد كان مني البراءة والانتباه الشديد ومنها التضحيات والحكمة والتواضع.

رسمت لي خطواتي الكبرى من حيث لا تدري، أو ربما هي كانت تدري وأنا التي كنت لا أدري أنها تدري، كونها لم تكن ذات لسان فصيح يجعلها تعبر عما يجول بخاطرها بسلاسة، إلا أنها كانت كتلة من العواطف لا تتناقص، توزع منها علينا وعلى كل من يقترب منها.

ألتقي كل صباح بنساء الحي وأنا في طريقي إلى المدرسة، تحمل كل واحدة قفة صغيرة تحتوي على بعض الخضراوات، تعلوها ربطة بقدونس ونعناع، يملن نحو جهة اليد الأخرى، التي تمسك بتلابيب جلباب متواضع، بسبب وزن القفة.

يمشين بخطى حثيثة بنفس الوتيرة، كما لو أنهن في سباق من أجل العودة بأسرع ما يمكن، لإعداد وجبة الغذاء، نصب أعيهن عودة الزوج والأبناء إلى المنزل جياعا.

أسمع شظفات من شكاوى بعضهن للبعض الآخر عن نفس الضغوطات اليومية، أما بالنسبة لي، فإني أعود من الدراسة يوميا إلى بيتنا، مطمئنة النفس لأنني أكون واثقة من أن أمي لا تخذل جوعي أبدا.

 اعتبَرَت نجاحي نجاحها، مني المواظبة على الدراسة بجدية وعليها الرعاية الكاملة.

مرت الأعوام، وتحقق أمل الأم في ابنتها الذي هو حلمها أيضا، فهي تعد في نظري، من جنديات الخفاء اللواتي يعود لهن الفضل في نيل بناتهن الاستقلالية المالية.

 يومها، ظننت أن كفاحي من أجل ذلك الهدف السامي قد وصل إلى نقطة النهاية، توقعت صادقة أن الوظيفة ستنقلني إلى واقع أفضل وأنه قد آن الأوان لأجني ثمار كفاحي الطويل، وأمي إلى جانبي خلال سنوات، لم أكن أعلم أن ساعة الحقيقية هي التي قد حانت، كل ما في الأمر أن الكفاح من أجل هدف سامي مثل الاستقلالية المادية لا ينتهي بتحققه، بل تكون المرأة على وجه الخصوص، مطالبة بالعمل على تثبيت الوضع الجديد، أملها أن يرافقها في رحلة الحياة، شخص أمين  عليها، إلا أنها غالبا ما تكون لوحدها، حتى وإن بدت ظاهريا عكس ذلك .

تسير مثقلة بالموانع وبالممنوعات وبالواجبات، ما يزيد من تعقيدات لم تعتد عليها، في اتجاه حياة تصورتها خلال رحلة طويلة، أنها جديدة وهنيئة، وحدها أمها كانت شريكة شرعية لها فيها. كأن معارك حقيقية بانتظاري، لا علم لي بميادينها ولا استراتيجيات لدي لخوضها، لا دراية لي بالأسلحة المناسبة لها، سرت أخرج من حرب لأدخل حربا جديدة، كأنما هي سلسلة من الحروب متصل بعضها ببعض، لها نفس الخلفيات ونفس الهدف، هو كسر مجاديفي.

عشت الانتصارات الجزئية، كما عرفت الانهزامات المتكررة، أغلبها لم تكن لي، بل نسبت إلي اعتباطا، لأنه كان علي أن أدفع الثمن بالنيابة، جل المعارك لا علاقة لي بها مباشرة، تتشابه أسبابها، ما يختلف هم الأشخاص والأساليب، أما الإحباطات، فقد كان يصعب حصرها نظرا لكثرتها، فما أعدته لي الحياة اختلف عما سعيت دوما لتحقيقه.

وجدتني في خضم بحر أمواجه جد عالية، تتقاذفني كما لو كنت مركبا ورقيا يحاول أن يطفح فوق سطح المياه المالحة التي صممت على أن تغرقه فيها.

 لا يتسع المجال لذكر تفاصيل متعددة، تحتاج إلى عشرات الصفحات وإلى لترات من المداد وإلى طاقة داخلية قوية لرص صور حياتية تسببت في إفراز مشاعر عميقة.

إجمالا، يمكنني القول إن الحياة التي أحاول تسليط الضوء على فصولها، والتي تتقاسمها معي أخريات، هي عبارة عن أنفاق ممتدة، كل نفق يطول بالقدر الذي يجعل نهايته غير مرئية.

 سواء أثناء السير أو خلال المواجهة، الانكسار وارد، ويكون حين يتقوى الشعور بوجود ما يشبه أحبالا متينة، مهمتها الشد إلى الوراء.

تتوالد الانتقادات التي قد تتطور لتصبح اتهامات بلا أساس، لأنها جاهزة ومتوفرة في كل لحظة، قد يتم التفكير في التخفيف من حدتها بالعطاءات دون جدوى، حيث مع مرور الوقت، تصير كأنها واجبات في نظر المستفيدين، مثل ضريبة، مفروض أداؤها تفاديا لعواقب غير مرغوب فيها، بهدف التخفيف من الأذى، وقد يغيب الوعي أن التخفيف المنشود مجرد وهم، أو محاولة فاشلة في تغيير شيء.

يظل الواقع أقوى في غياب تقدير مستحق مقابل حجم التضحيات، بينما يظل النكران والإنكار سيدا الموقف، مع مرور الوقت، يتأكد أن كل العطاءات السابقة، قد ألقي بها في متاهة النسيان، أو في سلة مهملات، لا قيمة لها، من خلال تصرفات تعبر عن الجحود، أو كلام جارح بشكل مقصود.

مؤلم اكتشاف أن كل المجهودات خلال عقود ذهبت سدى، لم تنفع في شيء، حيث لم تتزحزح عن مكانها، الصورة الجاهزة للمرأة، والمرأة كما يعلم الجميع، تعيش وتموت دون أن تحصل على الأهلية الكاملة، بصفتها إنسان تام الحقوق، كما الواجبات.

عندما اعتقدت أنني أمشي في الحياة بخطوات ثابتة، أبدو قوية لأنني لا أريد أن يرى أحد ضعفي، تلك القوة التي لا أحد يعلم مصدرها غيري، كما تأبى دموعي التساقط إلا عندما أكون مع نفسي ، ألتفت مرارا من حولي بحثا عن سند، عن عون، عن دعم ما أوما شابه ذلك، فلا أجد غير تلك الصورة المتوارثة عبر قرون، على أنني، مهما  كان حجم عطاءاتي الطوعية والإرادية، لأنني اعتبرتها التزامات حسب فهمي المثالي للالتزام، دون أن  انتظر يوما مقابلا لا من قريب ولا من بعيد، إلا أن العرفان يمكنه أن يكون مودة أو إخلاصا، أو وفاء، أو كلمة طيبة، ولم يحصل أبدا .

 فلاشات حياتية التقطها ذاكرتي من حولي، قابلة للتفصيل والتدقيق.

 بما أن الأمر يحتاج لمساحة أوسع، أملي أن تسمح لي الحياة بنقلها للأجيال، فتقبلوني بميزاتي وبعيوبي وبهفواتي كما عودتموني أيها الأحبة.

* كاتبة وروائية مغربية 

 

 

 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...