-محمد لغريب-
هو واحد من شباب اليسار الذي حطم جدار الخوف، واختار مقاومة الظلم نهجا وسلوكا، وفي غمرة النضال تولدت لديه قناعة المواجهة والصمود وترسخت، فكان مناضلا حركيا متمرسا لا يهاب السجن والسجان. رفض الإذلال وواجه الموت بشجاعة قل نظيرها وهو يبتسم في وجه الجلاد بسجن لعلو بالرباط، فكان وقع استشهاده كبيرا على رفاقه ووالدته، لكن كفاحه واستشهاده ظل ملهما لجيل من الشباب الذين دافعوا عن قيم اليسار الثوري في الجامعات والساحات.
في هذا البورتريه تطلعكم ملفات تادلة على سيرة المناضل الثوري عبد الحق شباضة الذي استشهد بعد إضراب بطولي دام أزيد من 64 يوما بسجن لعلو السيء الذكر بالرباط سنة 1989.
ولد الشهيد عبد الحق شباضة بدرب الحرية بالحي الحسني بمدينة الدار البيضاء سنة 1961 في أسرة فقيرة، وتابع دروسه الابتدائية بمدرسة “ابن حمديس” ثم الإعدادية، بإعدادية “درب الجديد” ليلتحق بعد ذلك بثانوية ” ابن الهيتم” بنفس المدينة.
وخلال هذه المرحلة كان المغرب يشهد موجة قمع كبيرة، استهدفت كل معارضي نظام الحسن الثاني دون استثناء، حيث فتحت السجون والمعتقلات السرية أبوابها لكل المعارضين، وبخاصة اليساريين الجذريين الذين ينتمون إلى المنظمات الماركسية اللينينية.
وخلال الموسم الدراسي 1979/1980 سيحصل الشهيد عبد الحق شباضة على شهادة الباكالوريا، لينتقل إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته الجامعية، فكان اختياره على شعبة الأدب العربي بكلية الآداب بالرباط، وهناك ستبدأ مرحلة جديدة من حياة الشاب عبد الحق القادم من مدينة الدار البيضاء، حيث سينخرط في معارك الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بقيادة فصيل الطلبة القاعديين ذو التوجه الماركسي اللينيني، وسيتحمل مجموعة من المسؤوليات التنظيمية داخل هذا الفصيل، مما سيجعله على قائمة المطلوبين لدى الأجهزة الأمنية.
بدأت مسيرة الشهيد مع النضال منذ سن مبكرة، وهو لا يزال تلميذا، إذ سيشارك في التظاهرات الرافضة لقدوم شاه إيران إلى المغرب سنة 1979، كما شارك في مختلف الإضرابات التي شهدتها الثانوية التي يدرس بها، وأيضا في الإضراب العام ليوم 20 يونيو 1981 الذي دعت إليها الكونفدرالية الديموقراطية للشغل، وعرف قمعا شرسا وخلف مئات الشهداء والمعتقلين، فكان شاهدا على المجازر التي ارتكبت في حق الجماهير الشعبية بمدينة الدار البيضاء.
ثلاث سنوات بعد أحداث الدار البيضاء، ستندلع انتفاضة جديدة في 19 يناير 1984، وأطلق شرارتها الطلبة والتلاميذ، قبل أن تنضم إليهم الجماهير الشعبية المكتوية بنار غلاء الأسعار والبطالة وتدهور الأوضاع المعيشة نتيجة شروع المغرب في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية، وعمت هذه الانتفاضة بالخصوص مدن الناظور ومراكش والحسيمة والقصر الكبير وبعض المدن الصغرى، وخلف تدخل قوات الجيش والدرك الملكي لإخمادها عشرات الشهداء والمعتقلين.
في غمرة هذه الأحداث أصبحت الأجهزة الأمنية تطارد الشهيد عبد الحق شباضة ومجموعة من رفاقه، خاصة بعد صدور مذكرة بحث وطنية في حقه على خلفية انتفاضة يناير 1984، وسيتعرض للطرد من كلية الآداب بناء على قرار من مجلسها.
لكن هذا الطرد لم يثن عبد الحق عن مواصلة مهامه إلى جانب رفاقه ورفيقاته في قيادة المعارك الطلابية التي كانت تتفجر بين الفينة والأخرى، وتتفاعل مع ما كان يعرفه المغرب من أحداث سياسية واجتماعية، عملا بشعار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ” لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة “.
لقد كان استهداف الطلبة القاعديين بشكل مباشر خلال وبعد هذه الانتفاضة، وبالخصوص المسؤولين القياديين والمناضلين الميدانيين الذين تعرضوا للاعتقال والمتابعات، حيث أسفرت في النهاية عن صدور أحكام قاسية في حقهم (مجموعة مراكش 1984).
عاد عبد الحق شباضة إلى مدينة الدار البيضاء سنة 1987، ليجد واقعا قاسيا في انتظاره، فاشتغل في موانئ الدار البيضاء لمساعدة والدته ” أمي رقية ” على تحمل تكاليف الحياة وظروفها الصعبة، وهو يشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وكان يتقن صناعة أقفاص الطيور وبيعها، وعن ذلك يقول صديقه المعطي منجب ” كان يقضي يوما أو يومين في الأسبوع وهو يصنع تلك الأقفاص ثم يخرج ليبيعها. كان يمازحني فيقول: ” إني أقضي نهاري في مراوغة الشرطة حتى لا تضعني في القفص الاسمنتي وأنا أصنع للطيور البريئة أقفاصا من حديد، ولكن كما يقول “الرفيق” أبوذر الغفاري: عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه “.
كان عبد الحق شباضة كما وصفه صديقه المعطي منجب “رجلا مقتدرا وذا شعور قوي بالمسؤولية رغم أنه توفي وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين. فقد كان وهو يتابع دراسته ويناضل في النقابة الطلابية، يساعد بشكل كبير والدته في إعالة إخوته الصغار، إذ كان يتيم الوالد.
وحسب شهادة منجب فقد كان عبد الحق ” مثقفا متخصصا في الأدب العربي، ولكنه لا يكتفي بقراءة نصوص الإبداع والرواية والنقد، بل كان قارئا نهما لكتب التاريخ والفلسفة والسياسة ذات المنحى اليساري “.
عرف عن عبد الحق شباضة رفضه لكل مظاهر الظلم منذ صغره، مما سيساهم في تشكيل شخصيته القوية التي ستجعل منه مناضلا يأبى الخنوع، وينخرط في كل المعارك التي خاضتها الجماهير الشعبية خلال السبعينات. فكان لا يعرف الخوف ولا الاستسلام، ويرعب أعداءه بشخصيته المتميزة.
بعد أزيد من أربع سنوات من التخفي، وتجنب السقوط في يد البوليس والافلات من الملاحقات اليومية، وتفادي عبد الحق الاعتقال بتمرسه وتواجده اليومي وسط الجماهير ومهاراته في التحرك والمناورة، سيعتقل في 18 أكتوبر 1988 بأحد موانئ الدار البيضاء، وهو يحاول الهجرة على متن باخرة متجهة إلى فرنسا.
“أنا لن أنسى ولدي وكل الناس الذين ضاعوا لا يمكن نسيانهم” أمي رقية والدة عبد الحق شباضة
تقول والدته “أمي رقية” في شهادة حول ظروف اعتقاله “جاء البوليس إلى المنزل. وعندما خرج البوليس دخل ابني مع رفاقه وتناولوا الغذاء، أخبرت ابني عبد الحق بأن البوليس زارنا في المنزل. لبس حذاءه هو ورفاقه وخرجوا “…” أسبوعا بعد ذلك، أتوا به إلى المنزل مكبل اليدين. سألني البوليس عن قرابتي به قلت إنه ابني عبد الحق. قال لي البوليس لقد وجدناه يستعد للهجرة السرية نحو فرنسا”.
سيتعرض عبد الحق شباضة إلى شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي القاسية، بمخافر الشرطة أثناء التحقيق معه، حسب ما حكى لرفاقه في الزنزانة التي تقاسمها معهم، حيث سيستمر مسلسل التعذيب حتى بعد الحكم عليه بسنة سجنا نافذا، وإيداعه سجن لعلو بمدينة الرباط.
تحكي والدته “أمي رقية” عن ظروف محاكمته ” ضحك ابني عبد الحق وقال: هذه مجرد مسرحية أنا محكوم منذ مدة”.
عاش عبد الحق شباضة ظروفا قاسية داخل سجن ولعلو بالرباط، وتعرض لتعذيب ممنهج من طرف مدير السجن وحراسه، مما جعله يدخل في إضراب لا محدود عن الطعام في 17 يونيو 1989 ردا على ما يتعرض له هو ورفاقه المعتقلون من تعذيب وتنكيل وسوء معاملة داخل هذا السجن، يومها كانت السجون المغربية تشهد إضرابات بطولية عن الطعام لعدد من المناضلين الذين اعتقلوا على خلفية انتفاضة يناير 1984، وخاصة مجموعة مراكش التي كان قد استشهد منها بوبكر الدريدي في 25 غشت 1984 بعد أضراب عن الطعام دام 55 يوما، ومصطفى بلهواري الذي استشهد هو الآخر في 28 عشت 1984 بعد 56 يوما من الإضراب عن الطعام.
خاض عبد الحق شباضة الإضراب عن الطعام داخل سجن لعلو في شروط قاسية جدا حسب ما حكى رفاقه، وعانى من المضايقات والتنكيل والتعذيب الذي مارسه مدير السجن في حقه.
وهذه شهادة من صديقه المعطي منجب يقول فيها ” انتقم منه مدير السجن شر انتقام فقام بتقييد يديه ورجليه وأمر بربطه بعمود حديدي في عنبرة مظلمة… لجأ مدير السجن إلى وسيلة إجرامية في محاولة منه تكسير الحركة الاحتجاجية اذ منع عن عبد الحق شرب الماء لمدة طويلة لا أتذكر كم دامت”.
وأضاف منجب ” ويظن اليوم رفاقه في الإضراب عن الطعام أن هذا الحرمان من الماء هو الذي سيؤدي الى تعقيدات صحية متلاحقة ستؤدي الى استشهاده في الأخير، وهو في اليوم الرابع والستين من الاضراب عن الطعام، بينما نجا من الموت السبعة المضربين الآخرين “.
استشهد عبد الحق شباضة في 19 غشت 1989 بالمستشفى بالرباط، وخلف رحيله حزنا عميقا في نفسية رفاقه ووالدته التي ظلت تستشهد بكفاحية ونضالية عبد الحق في كل المحطات التي كانت تلتقي فيها برفاقه الذين كانوا يخلدون ذكرى استشهاده كل سنة.
تحكي ” أمي رقية” -كما يناديها رفاق الشهيد – أنها زارته في المستشفى خلال إضرابه عن الطعام فخاطبها ” أمي إذا وجدتني توفيت في هذا المستشفى كسريه” وأضافت في شهادة أخرى تحكي فيها عن معاناتها بعد فقدان فلذة كبدها ” بصراحة إن ما عشناه نحن العائلات لا يتصور، أنا لن أنسى ولدي وكل الناس الذين ضاعوا لا يمكن نسيانهم. إن الجرح عميق. أخذوا مني جواز السفر، ومنعوا ابني من العمل وولدي الآخر منعوه من الدراسة”.
رحل عبد الحق وترك أما (أمي رقية) مناضلة جسورة لا تقل مبدئية عن ابنها، فهي لا تترك أي مناسبة، إلا ونددت فيها بما تعرض له عبد الحق ورفاقه من ظلم ومعاناة بالسجون.