الشهيدة فاضمة وحرفو من قصر ’’السونتات‘‘ إلى جحيم المعتقلات

 – محمد لغريب –

” على الأقل، بإمكان الرجال الذين قضوا فترة في السجن وتعرضوا للتعذيب تسمية ووصف العنف الذي تعرضوا له. أما نحن فقد سجنا وعذبنا بأساليب لا يمكن تسميتها”.

هي واحدة ممن طالتهم يد الجلاد خلال السبعينيات من القرن الماضي، اختطفت دون وداع أهلها وقبيلتها، حملت معها أسرار عذاباتها، وقصص الهول الذي عاشته في أماكن الاعتقال السرية دون أن تترك وصية أو بوحا. في سيرتها اختزال لمرحلة سوداء ومظلمة، لكنها سيرة ستظل تروى بكل أوجاعها للأجيال القادمة لتبين أنه ليس للقسوة وللظلم حدود، عاشت عذابات السجون والمعتقلات السرية وحلت ضيفة على الكوربيس ودرب مولاي الشريف ثم أكدز، وفي هذه الرحلة/ الجحيم تتلخص فصول مرحلة من القمع ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء.

في هذا البورتريه تطلعكم ملفات تادلة على بعض الجوانب المحيطة بسيرة امرأة اختطفت في مارس 1973، وذاقت أشد أنواع التعذيب وظلت مجهولة المصير إلى غاية تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة، إنها الشهيدة فاضمة وحرفو عروس قصر السونتات بإملشيل التي قضت بالمعتقل الرهيب أكدز سنة 1976.

 

فاضمة عروس قصر السونتات

ولدت الشهيدة فاضمة وحرفو عام 1934، تنحدر من عشيرة أيت عتو وعمرو، التابعة لقبيلة أيت يعزة الحديديوية. تنتمي فاضمة إلى قصر السونتات، الكائن على الضفة اليسرى لواد أسيف ملول، بجماعة بوزمو القروية، دائرة إملشيل الإدارية، إقليم ميدلت (حاليا)، جنوب شرق المغرب، فهي زوجة الراحل “زايد أوبا”، وابنة المقاوم “موحى وحرفو” الذي أعدم في 27 غشت 1974، بعد أن أصدرت المحكمة العسكرية بالقنيطرة حكمها عليه بالإعدام على خلفية أحداث مارس 1973.

كانت فاضمة وحرفو واحدة من جميلات قصر السونتات، حسب ما رواه عنها أهلها ومعارفها، وهذه الروايات والقصص ستتأكد بعد العثور على صورتها الوحيدة في شهر شتنبر من سنة 2019، وهي الصورة التي أحيت الذاكرة والجروح والألم معا، ألم مرحلة طبعها القمع الأسود، حيث لازالت جروحها لم تندمل، بادية كالوشم في ظاهر اليد.

صورة الشهيد موحى وحرفو الذي أعدم في غشت 1974

 

مارس 1973، حينما تحول الربيع إلى خريف

كانت قرية السونتات تنعم بجمال طبيعتها وهدوئها وشموخ قصباتها التي تمتد جذورها إلى عمق التاريخ، وبمياه وادي أسيف ملول الذي يبعث في شريانها الحياة، رغم قساوة المكان ومناخه وعزلته، لكن هذا الهدوء والجمال سيكسره هدير المروحيات وسيارات الدرك والجيش وعذابات وآهات الأهالي الذين عانوا من بطش القوات التي حلت ضيفة على البلدة في ربيع 1973.

كانت أحداث مارس 1973، بمولاي بوعزة وخنيفرة ومناطق الجنوب الشرقي وبالأطلس المتوسط، بمثابة بداية حرب شاملة شنها نظام الحسن الثاني على الجناح الثوري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعلى بعض المناطق المتمردة، فتحركت الآلة القمعية من جيش ودرك ومخابرات وشرطة وعملاء، جارفة معها كل ما تصادفه في طريقها، معلنة عن فتح جحيم لكل الذين ارتبطوا بهؤلاء المناضلين من قريب أو بعيد، سواء الذين قادوا أو دعموا أو شاركوا في هذه الأحداث.

فتحت السجون والمعتقلات السرية، وارتكبت أبشع أنواع التعذيب في حق كل من سقط في أيادي قوات الجيش والدرك والقوات المساعدة، وشنت الاختطافات والاعتقالات على نطاق واسع وبشكل عشوائي، وشملت هذه الاختطافات عائلات وأسر ودواوير بأكملها، بشيوخها ونسائها وأطفالها دون رحمة، فكان العديد من الأبرياء ضحية لهذه الموجة الشرسة من القمع السياسي الذي عم المغرب بعد هذه الأحداث.

لقد كشفت شهادات الناجين من هذا الجحيم، والتي أدلوا بها خلال جلسات الاستماع العمومية التي نظمتها هيئة الانصاف والمصالحة، أو تلك التي جاءت في تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية حول هذه الأحداث، هول التعذيب والفظائع التي تعرض لها المختطفون أثناء احتجازهم في الأماكن المظلمة والأقبية السرية.

كانت فاضمة وحرفو، واحدة ممن شملتهم موجة الاختطاف رفقة أمها وأخيها، في مارس 1973 على يد قوات الدرك والجيش والقوات المساعدة، حيث تعرضت لمختلف أصناف التعذيب والتجويع بعد استضافتها للراحل “سعيد أوخويا” بمنزلها، والذي كان على رأس قائمة المبحوث عنهم من طرف عناصر الدرك الملكي، وتم تعذيبها بمركز بوزمو رفقة عدد من المختطفين، ليتم نقلها إلى كلميمة قبل نقلها إلى مدينة الدار البيضاء.

لقد حاول البعض التخفيف من هول جريمة اختطاف فاضمة وحرفو من خلال الترويج لعدة إشاعات حولها بغية النيل من سمعتها كامرأة، ومن كرامة عائلتها وكبرياء قبيلتها المتمردة، وهي الإشاعات التي نفتها العائلة جملة وتفصيلا.

لكن الثابت أن فاضمة وحرفو تعرضت لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي على يد الجلادين منذ اللحظات الأولى من اعتقالها، مرورا بالكوربيس إلى درب مولاي الشريف، ثم بمعتقل أكدز السيئ الذكر بالجنوب، حيث استشهدت هناك في 20 دجنبر1976، ودفنت بمقبرة البلدة، حسب ما تضمنه التقرير الختامي لهيئة الانصاف والمصالحة (الفصل الأول، الصفحة 74)، وحسب إحصائيات الهيئة فقد بلغ عدد الذين قضوا نحبهم بمعتقل أكدز 32 شخصا، أغلبهم توفي ما بين 1976 و1977 قبل نقل باقي المختطفين إلى سجن قلعة مكونة (عاصمة الورود).

مقتطف من التقرير الختامي لهيئة الانصاف والمصالحة (الفصل الأول، الصفحة 74)

يحكي محمد الرحوي أحد المختطفين من مجموعة بنو هاشم، وهو من ضيوف المعتقل الرهيب أكدز في كتابه ” مدافن: وقائع الاختفاء القسري” أن سر الموت السريع بأكدز خلال 1976، بالإضافة إلى سوء التغذية وقلتها، الأواني الصدئة التي كان يقدم فيها الأكل، والضرب والتعذيب والتعنيف الجسدي بمختلف الأدوات وفي أي وقت ولحظة، وأخطر هذه الأسباب يتمثل في استشراء داء السل في صفوف المحتجزين، نتيجة الرطوبة وقلة التهوية والشمس بالمكان، والبرودة التي قد تصل خلال الشتاء إلى أقل من ثلاث درجات تحت الصفر”.

” لقد كانت الظروف أفظع بمركز أكدز بسبب الصرامة في التعامل مع المختطفين، والتعذيب وقسوة الطبيعة وسوء التغذية وغيرها من ضروب المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية”. ومما لا شك فيه أن فاضمة وحرفو، قد عانت هي الأخرى من فظائع هذا المعتقل الرهيب منذ تنقيليها من درب مولاي الشريف إلى أكدز.

وحسب شهادات الذين نجوا من هول معتقل أكدز، فإن السجن كان يضم أزيد من 400 شخصا، منهم شيوخ ونساء وأطفال وشباب من مختلف مناطق المغرب: الصحراء وفكيك وتنغير وإملشيل وغيرها.

المعــتقل السـري أكـدز

فاضمة وحرفو وأخريات

كشفت الشهادات التي وثقتها الباحثة الأنثروبولوجية نادية ݣسوس في بحث تحت عنوان ” النساء والعنف السياسي بالمغرب ” أن نساء الجنوب الشرقي، وتحديدا فكيك وتنغير وإملشيل، تعرضن لمختلف أنواع التعذيب أثناء الاختطاف بالمعتقلات السرية، وشمل التعذيب نساء عازبات ومتزوجات وطفلات، وتراوح التعذيب ما بين الضرب والتجويع والترهيب والاغتصاب. وكان الإمعان في التعذيب إحدى الوسائل التي يلجأ إليها رجال الدرك والقوات المساعدة، لإجبار النساء على الاعتراف بمكان وجود أزواجهن أو أقاربهن.

ومن الشهادات المؤلمة التي أوردتها نادية كسوس في كتابها السالف الذكر، شهادة لسيدة تعرضت للاعتقال والتعذيب بعد أحداث مارس 1973 وهي شهادة تلخص حجم المعاناة التي لحقت بالنساء المختطفات بهذه المنطقة، وجاء فيها على الأقل، بإمكان الرجال الذين قضوا فترة في السجن وتعرضوا للتعذيب تسمية ووصف العنف الذي تعرضوا له. أما نحن فقد سجنا وعذبنا بأساليب لا يمكن تسميتها.

وهذه شهادة امرأة أخرى من إملشيل اعتقل جميع أفراد عائلتها سنة 1973 “… أمي واثنتين من إخوتي كن في سجن بوزمو. في هذا السجن، تحول حليب والدتي إلى دم. تركن عاريات، دون طعام ودون أي شيء، لا شيء إلا البرد والثلج، إلى حد أن أمي أرضعت أختي دما بدل الحليب. كانوا يعلقونني من قدمي ويهددون والدتي بأنهم سيتركونني هكذا معلقة حتى تخبرهم بمكان والدي …”

وفي شهادة أخرى لسيدة من إملشيل اختطفت على خلفية نفس الأحداث رفقة أبنائها، أوردتها كسوس حول مختطفات إملشيل ” … أخذوا أولادي على متن طائرة وهددوا برميهم من الطائرة إذا لم أفصح لهم عن مكان وجود أبيهم. كانوا يضربونني أمام أعين أولادي لدرجة أن ابنتي لا تزال مريضة إلى اليوم من جراء ذلك المنظر. كانوا يهددوني بأن ابنتي لن تتزوج أبدا وأنهم سوف يذيقونها أسوأ أصناف التعذيب…”

وفي شهادة أخرى لامرأة من نفس المنطقة اعتقلت سنة 1973 ” … خلال الفترة التي قضيتها في السجن كان من عادتهم ضربي وتجريدي من ملابسي. ونادرا ما كان يسمح لنا بارتداء بعض الملابس الخفيفة. وفي معظم الأوقات كانوا يمنعوننا من ارتداء أي ملابس ويجبروننا على البقاء عاريات…”

وهذه شهادة امرأة تكشف عن هول ما جرى لنساء إملشيل لامرأة اعتقلت في مارس 1973، تقول ” … أختي كانت طيبة وجميلة، لذا أخذوها لأنهم اشتهوا جمالها … أخذوها لأنها ابنة (أبي) ولأنها كانت جميلة …”

هذه ليست سوى شهادات مؤلمة تلخص حجم المعاناة التي لحقت بنساء بريئات، ليست لهن يد في ما جرى، ولكن القسوة والحقد استهدفا الانتقام من أقاربهن الذين كانوا على صلة بهذه الأحداث، كما استهدفا ترويع الدواوير والقصور المحيطة، سواء التي تمردت أو التي لم تتمرد، وتقديمهن كعبرة لمن سولت له نفسه حمل السلاح في وجه السلطة المركزية، لذلك تقاسمن نفس عذابات الرجال، وكانت فاضمة وحرفو واحدة منهم.

فاضمة أحرفو

حينما يتجدد المأتم

في 9 شتنبر من سنة 2019، ستستيقظ الذاكرة من جديد بكل الآلام والفظائع مع ظهور صورة نادرة للشهيدة فاضمة وحرفو، صورة أحيت معها جراح الماضي القديمة التي لم تلتئم بعد، والتي بدأت فصولها في ربيع 1973، وكان ضحاياها مئات العائلات بمنطقة الجنوب الشرقي.

يحكي الأستاذ لحسن أيت لفقيه عن رد فعل العائلة عند اكتشاف صورة فاضمة وحرفو بالقول “… لن أنقل لكم سوى خبر محزن تلقيته صباح يومه، أخبركم أن المأتم تجدد بمنزل صديقي زايد وحرفو بقصر سونتات، قرب إملشيل، إقليم ميدلت ماذا حدث؟ سألت الصديق زايد هاتفيا :

حدث أن عاد المأتم إلى منزلي، فكل الأبناء يبكون، ما خطبك بالضبط؟

أجاب:

  كلنا يبكي، نساؤنا وأبناؤنا، بسبب فاضمة. –

سألته:

 هل تتحدث عن فاضمة أخرى غير أختك؟

أجاب:

 لا

سألته:

 وما الذي حدث؟

أجاب:

   لقد عثرنا على صورتها !  مفاجأة جميلة للغاية، فوق ذلك، إن صح القول: الجمال يكمن في تعدده.

أظهرت الصورة التي عثر عليها مؤخرا، مدى الجمال الذي كانت تتمتع به فاضمة وحرفو، وربما حسب ما يحكى أن مأساتها كانت بسبب جمالها الذي زادته الرموز الموشومة على جسدها رمزية وقيمة، وهي الرموز التي أثارت فضول الأستاذ الباحث في الثقافة الشعبية الأمازيغية لحسن بلفقيه، ودفعته لفك طلاسمها.

فقد أشار بلفقيه إلى أن فاضمة وحرفو كانت تحمل “رمز الشمس في جسدها، واعتبر أن رمز الشمس يكاد يتراءى في الوشم مختزلا في ثلاث نقاط، ورغم أن الشمس قوة قاسية، فهي رمز الحياة. والشمس معبود أمازيغي قديم. ثم المعين (losange)، الذي هو رمز المرأة، وكلما أشار المرء إليها في الرموز القديمة تستحضر الخصوبة واستمرار الحياة والجمال. ثم رمز الحمل الذي يشكل رمز القوة والطبيعة، ورمز إله أمون الذي اتخذ له معبد في سيوة المصرية، وباب الحمل ذبحه طقس أساسي ليلة الدخلة، ثم رمز النجم «الشعرى اليمانية”(  (Sirus.

ورغم المجهودات التي بذلت للتعريف بالشهيدة، لا زال هناك غموض يلف بعض الجوانب من قضيتها، مما يستوجب على المهتمين بتاريخ المنطقة إعادة النبش في كل ما كتب، وما قيل عن فاضمة وحرفو التي توفيت وهي تحمل أسرار عذاباتها ومعاناتها معها، ولا شك أن هناك معطيات كثيرة حول فاضمة وحرفو لا زالت طي الكتمان، وتحتاج إلى البوح خدمة للحقيقة وللتاريخ حتى تكتمل الصورة.

توصيات معلقة

كان قدر فاضمة وحرفو أن تغتال مرة ثانية، فبعد صدور توصيات هيئة الانصاف والمصالحة والتي كانت تهدف إلى استجلاء الحقيقة عن ضحايا الاختفاء القسري، وعدم تكرار ما جرى وجبر الأضرار المادية والمعنوية للأفراد والجماعات التي تضررت من الممارسات القمعية خلال الحقب السوداء، وكذا حفظ الذاكرة… فإن السلطات لم تتفاعل مع النداءات التي تقدمت بها شبكات الجمعيات التنموية لواحات الجنوب الشرقي في سنة 2009 في إطار مشروع حفظ الذاكرة، ومصالحة نساء السونتات الذي يعرف اختصارا ب SMR FEMMES، حيث نادت بإطلاق اسم فاضمة وحرفو على مجموعة مدارس أيت علي ويكو بجماعة بوزمو بدائرة إملشيل.

ورغم أن نيابة وزارة التربية الوطنية بالرشيدية وجهت مراسلة إخبارية في الموضوع إلى المؤسسات التعليمية بتاريخ 08 يوليوز 2009 تحت رقم 1467، مرجعها القرار الوزاري رقم 189/09 بتاريخ 18 يونيو 2009، فإن السلطات المعنية لم تنفذ القرار، وبقي معلقا، وبالتالي لم تحترم ذاكرة فاضمة وحرفو، ومعها نساء السونتات اللواتي تعرضن لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

هكذا كان قدر فاضمة وحرفو أن تعيش معاناة السجون والاختطاف، ولأن الذاكرة تأبى النسيان، فستظل الشهيدة رمزا حيا لكل الذين عشقوا هذا الوطن.

ملفات تادلة 24 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...