لم يتوقف رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، عن التعبير عن تفاؤله بشأن مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19، وانتقد ما اعتبره خطابا سياسيا سوداويا، وهو يبسط الاجراءات التي قررتها الحكومة بشأن تمديد حالة الطوارئ الصحية والتخفيف من تدابير الحجر الصحي على منطقتين.
وقال العثماني في معرض رده على تعقيبات الفرق بمجلس النواب، يوم 10 يونيو الجاري، ’’أنا متفائل من خلال ما رأيت من تضامن المغاربة وانخراطهم، كل في مجاله، أن مغرب ما بعد كوفيد-19 سيكون أفضل مما قبله‘‘ وأضاف ردا على من انتقد الإجراءات الحكومية ’’اسمح لي أن أقول لك بأنك تنظر بسوداوية لعمل الحكومة، وتنظر إلى واقع لا ينظر إليه المغاربة الذين يعيشون الكثير من الأمور المهمة في تدبير هذا الوباء‘‘.
رئيس الحكومة تكتم، خلال نفس الجلسة، على مضامين وتوجهات قانون المالية المعدل، وقال تعقيبا على تساؤلات المتدخلين ’’التفاصيل التي يطلبها الأخوات والإخوان – يقصد رؤساء الفرق النيابية – ستأتي في مشروع قانون المالية المعدل، وهذا المشروع يحتاج ورقة مؤطرة‘‘ واستدرك ’’الورقة المؤطرة موجودة ولا يمكننا الإعلان عنها قبل أن تعرض على المؤسسات التي هي المجلس الوزاري، آنذاك يمكننا الإعلان عنها، لأنها يمكن أن تعدل (..) وأنا أحترم نفسي وأحترم المؤسسات‘‘.
وبينما خفت أو توقف الحديث عن النموذج التنموي الجديد، بدأ الحديث عن قانون المالية المعدل والذي سيشكل حجر الأساس لما سيكون عليه المغرب في المدى القصير وربما المتوسط، وقد لا نبالغ إن ادعينا أنه سيحدد مصير البلاد على المدى الأبعد، حيث أن الاختيارات المقبلة والقرارات التي ستقوم عليه والإجراءات التي سيتم اتخاذها ستحدد وجهة مغرب ما بعد كورونا والذي لن يكون – حسب مضامين تصريحات الحكومة والفاعلين الاقتصاديين – مغرب سنة أو سنتين، بل يمكن الجزم أنه سيشكل مغرب سنوات طويلة قادمة.
سبق تصريحات رئيس الحكومة، رد عبد الوفي لفتيت، وزير الداخلية، أثناء جلسة للأسئلة الشفهية بمجلس المستشارين، حيث قال في رده على عدم توصل عدد كبير من الأسر الفقيرة بالدعم الحكومي المخصص لجائحة كوفيد-19 ’’ الدعم لم يُخصّص للناس الفقراء، لكي نكونَ صرحاء مع بعضنا، بل خُصّص لتعويض الأشخاص الذين فقدوا مداخيلهم جراء الجائحة‘‘، لفتيت الذي كان يرد بكثير من البوليميك على أسئلة المستشارين، لم ينتبه إلى أنه كشف عن توجه خطير للدولة سينجم عنه تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء، بل إلقاء الفقراء في الهوة ورفع الأغنياء إلى قمة جبل الفوارق.
وحيث أن الداخلية تفكر بمنطق الضبط الأمني وفرض الأمور، فقد يكون وزيرها، من حيث لا يدري، لخص الورقة/الرؤية التي تؤطر قانون المالية المعدل، لتخرج لنا الحكومة التي يقودها العقل المقاولاتي ويتحكم بها ’’العقل الأمني‘‘ قرارات ’’من وحي الجائحة‘‘ تخلي مسؤوليتها من انتظارات ومطالب الفقراء، وتهتم فقط بمن تضرر من الحجر الصحي بدعوى إنعاش الاقتصاد الذي يعاني بعد الإغلاق.
هذه المخاوف يعززها تصور اتحاد ’’الباطرونا‘‘ الذي قدم مخططا يتضمن 25 خطة قطاعية تقترح 508 إجراء، من أجل إنعاش الاقتصاد، تقوم جميعها على تدخل الدولة، عبر ’’الشراكة بين القطاعين العام والخاص‘‘ وتخفيض الضرائب، ودمج القطاع غير المهيكل، وإعادة النظر في سياسة المشتريات الحكومية عبر توجيهها نحو المحتوى المحلي، و إعادة إنشاء صناديق مشتركة بين القطاعين العام والخاص من أجل تراكم رأس المال .
ولعل أكبر من عبر عن هذه التوجهات هو وزير الفلاحة عزيز أخنوش، الرجل القوي داخل الحكومة إن لم نقل الأقوى ، حين قدم تصوره للخروج من الأزمة مؤكدا أنه ’’لن يكون أمام الدولة من خيار سوى الرفع من مستوى المديونية وتحمل المخاطر، ومواكبة الفاعلين حتى يتمكنوا من تخطي المرحلة‘‘.
أخنوش الذي نشر تصوره في مقال على منصة إعلامية إلكترونية تحدث بـ ’’سخاء‘‘ عن دور الدولة في هذه المرحلة، حيث قال’’ فنحن في مرحلة جديدة يميزها السخاء، والطريقة الوحيدة لضمان إقلاع النشاط الاقتصادي العام تبقى مواكبة ودعم المقاولات‘‘ هذا السخاء اعتبره إشارة قوية لصناع القرار السياسي و’’ لذلك، يجب أن يتوقف ذلك الخطاب، الذي يولي الأسبقية لمداخيل الدولة ويضع على كف المعادلة الاختيار بين إنقاذ الدولة أو انقاذ المقاولات. فالترويج لسياسة تقشفية يعتبر خطأً جسيما‘‘.
ويرى أخنوش أن الوقت الراهن ليس مناسبا للتقشف، وأن مستوى الدين ليس مهما في مرحلة ما بقدر ما يهم منحاه على المديين المتوسط والبعيد ويقدم وصفته معتبرا ’’أن لجوء الدولة إلى الاقتراض من أجل التغلب على أزمة خارجية، لا مفر من تداعياتها، أمر جد طبيعي‘‘.
وصفة أخنوش لا تتوقف هنا، بل تطلب من المواطن دعم المقاولة بما أنه تلقى دعما من الدولة، فقد ’’كان جلالة الملك، منذ البداية، صاحب رؤية رشيدة اعتمدت حشد الدعم لصالح المواطنين، وعلى هؤلاء الان بدورهم دعم الشركات لاستئناف عملها بشكل طبيعي‘‘ وهكذا سيكون على المواطنين رد ’’جميل‘‘ الدولة عليهم للمقاولين، كما سيكون على الدولة ’’توفير دعم عمومي للفاعلين الاقتصاديين قصد الحفاظ على قدراتهم على إعادة الإقلاع وحمايتهم من خطر الاختناق المالي‘‘.
تعتمد وصفة ’’الباطرونا‘‘ والمال ’’السلطوي‘‘ على فكرة المقاولة أولا، وهي ببساطة فكرة مفادها أن التوازنات الماكرو-اقتصادية للدولة لن تستقيم قبل ملء حسابات المقاولين ليعم فيضها لاحقا على حسابات الدولة.
هذا التصور الذي يستبعد خيار دولة الرعاية الاجتماعية لا يلقي بالا للقطاع غير المهيكل، ومقترح الباطرونا لهيكلته ليست واقعية لأنها تتطلب سيرورة طويلة الأمد، ويكفي أن نلقي نظرة على الأرقام كي ندرك مدى خطورة هذا الطرح، فحسب دراسة أنجزتها الباطرونا بنفسها سنة 2018، يمثل الاقتصاد غير المهيكل أكثر من 20 في المائة من الناتج الداخلي الخام، دون احتساب القطاع الأولي والمقصود هنا الفلاحة، وهو اقتصاد يوفر 2,4 مليون منصب شغل.
من جانب آخر، لنقل ’’ميكرو- اقتصادي‘‘ ينتظر ملايين الفقراء، الذين اعتبرهم وزير الداخلية غير متضررين من الجائحة، أن يجيب قانون المالية المعدل على حاجتهم، فعيالهم بحاجة الآن للطعام، وفواتير الماء والكهرباء التي تراكمت منذ 3 أشهر لن تقبل تأخيرا، والدواء ليس ترفا. ويمكن الاستدلال بالأرقام لنتبين أمرهم، حيث أظهرت دراسة أجرتها المندوبية السامية للتخطيط على عينات من الأسر أن ثلــث الأسر تقريبــا (34 في المائة) تؤكــد أنهــا لا تتوفــر عــلى أي مصــدر للدخــل بســبب توقــف أنشـطتها أثنـاء الحجـر الصحـي وأن 44,3 في المائة من الأسر التي أصبحت بدون دخل بسبب الجائحة هي الأسر الفقيرة ، وأن 54,2 في المائة من أرباب الأسر الذين فقدوا مصدر دخلهم هم من الحرفيين والعمال المهنيين، وأن 41,9 في المائة من الأسر من قاطني البناء العشوائي ودور الصفيح.
ولعل المظاهرات التي خرجت في عدد من المناطق، في عز تشديد الحجر الصحي، تلخص بعضا من واقع حال المواطنين الذين ’’غامروا‘‘ بسلامتهم من أجل مساعدات تسد رمقهم وتسكّن القليل من حاجتهم، كما أنها تعطي ملمحا عن ما يمكن أن يحدث إن لم تقدم الحكومة إجابات عاجلة جدا لما يكابدونه، فالمواطن الذي لا يجد ما يضع على مائدته اليوم، لن يصبر في انتظار أن تعوّض الباطرونا خسارتها وتقيم اعوجاج التوازنات الماكرو – اقتصادية، ولن يكون الأمر بالنسبة إليه سوى ’’زيادة الشحمة في ظهر المعلوف‘‘.
في المغرب الذي حسم منذ عقود في توجهه الاستراتيجي، سيكون أمرا متوقعا أن تتدخل الدولة لإنقاذ الاقتصاد عبر تفضيل المقاولات التي كانت تستفيد في عز الرخاء على حساب التنمية والعدالة الاجتماعية، ويتضح هذا من سؤال ’’أين الثروة؟‘‘ الذي لم يعلن جوابه إلى الآن، وسيكون طبيعيا انسجاما مع ذات التوجه دعم المقاولة من أجل الحفاظ على مناصب الشغل وخلق مناصب أخرى من منطلق الحس الوطني ولو ذرا للرماد في العيون، لكن ما يعيب كل ما سلف هو أنه يتم دون تحديد آجال والتزامات واضحة تغلب مصلحة الفقراء وتهدف بالدرجة الأولى إلى انتشالهم من الهوة التي هم في قرارها، على الدولة أن تفهم أن ما يحرك الفقراء الآن هو الحاجة الشديدة والملحة، والضغط على صبرهم أكثر سيدفعهم إما للانتحار وإما للانفجار، كما على الباطرونا أن تفهم أن الوطن ليس غنيمة.