محمد باهي حرمة: المناضل والمثقف والإنسان

-محمد لغريب-

هو واحد ممن اقتحموا العقبة في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي، من أجل أن يولد مغرب جديد من رحم ذاك القديم، لكن الميلاد لم يكن عرسا وفرحا رغم المخاض العسير والألم والحلم الجميل، بل كان سجونا ومنافيا وشهداء. هو واحد من الجيل الذي تشكلت لديه قناعة أن التحرير والوحدة وبناء الأوطان لا يأتي بالأمنيات والرغبات، بل بالنضال والتضحيات، كان مغربيا عربيا وحدويا قوميا وأمميا، لذلك كان منتصرا لكل القضايا الإنسانية من كوبا المحاصرة إلى فلسطين المحتلة والجزائر الشهيدة وكل الأقطار العربية التي احتضنته واحتضنها، كان الأفق بالنسبة إليه أن تنعم البلدان العربية بمستقبل حر ومستقل يكرم فيه الإنسان العربي، لذلك مضى حاملا وجع هذه الأوطان وكان من أبرز المثقفين العضويين التي أنجبتهم ربوع الصحراء، فعاش من أجل هذا الحلم الذي رهن نفسه من أجله كمناضل وصحافي كبير.

في هذا البورتريه تقربكم ملفات تادلة من سيرة هذا المناضل والصحافي الذي عشق الوطن كما عشق الكتابة التي بالنسبة إليه إكسير الحياة، إنه المثقف الكبير محمد باهي حرمة.

  من بلاد شنقيط إلى المغرب  

كانت ولادة محمد باهي حرمة ” الأولى” حسب ما أورده الكاتب الكبير عبد الرحمان منيف في كتابه ” عروة الزمن الباهي” سنة 1930 في خيمة من خيام قبيلة “ادو علي” في منطقة يحدها غربا المحيط الأطلسي وجنوبا نهر السينغال، في بيئة صحراوية كان لها الأثر الكبير على تكوين شخصية “محمد فال أباه” الطفل والشاب، حيث نشأ في وسط عائلة مثقفة مهتمة بتدريس أبنائها مختلف المعارف، الكتابة والقراءة، النحو، الحساب، التاريخ، الشعر، الفقه، والقرآن الذي حفظه قبل أن يبلغ السابعة من عمره، وغيرها من العلوم التي كانت تدرس لأبناء تلك القبائل.

ولما اشتد عود محمد فال أباه أحمد باهي حرمة درس اللغة الفرنسية، وأتقنها بشكل جيد بعيدا عن المدارس النظامية الفرنسية، بدأت عيونه تتفتح على ما يجري على أرض موريتانيا والسينغال، من استغلال الاستعمار الفرنسي لخيرات المنطقة وشعوبها، متأثرا بالمناخ العام الذي اتسم ببداية الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي بالشمال الإفريقي. وبعمل خاله “حرمة ولد بابانا” السياسي والنضالي، مما جعل منه جزءً من هذا الكفاح، فتقع الصدامات والمضايقات، ويصبح مهددا بإلقاء القبض عليه، مما دفعه إلى مغادرة دكار سنة 1956 إلى جنوب المغرب، حيث انضم إلى جيش التحرير المغربي بكلميم، وهناك، ستبدأ حياة جديدة لمحمد باهي حرمة أو بتعبير صاحب “عروة الزمن الباهي ” الولادة الثانية.

تحكي العديد من المصادر، أنه بعد أن اشتد عليه الضغط وأصبح مبحوثا عنه، قرر خوض مغامرة خطيرة، تمثلت في تسلله خلسة إلى باخرة صيد إسبانية بمرسى نواديبو كانت متجهة إلى طرفاية، وبعد الإقلاع اكتشف طاقم الباخرة وجود شخص غريب على متنها فقرر رميه في البحر، غير أنه أقنعهم بالعدول عن ذلك مقابل القيام بخدمتهم طوال الرحلة، وتكلف بتنظيف المطبخ وغسل الأواني وصيانة المراحيض.

كانت تجربة محمد باهي حرمة في جيش التحرير المغربي، كافية لأن تولد لديه قناعات ظلت راسخة حتى رحلته الأخيرة سنة 1996، وخاصة الأحداث التي تلت عملية ايكوفيون (المكنسة) بالجنوب، والتي استهدفت القضاء على مقاتلي جيش التحرير بالجنوب، وفي هذه الفترة سيلج مهنة الصحافة، حيث اشتغل محررا بجريدة العلم رفقة كل من عبد الجبار السحيمي ومحمد عابد الجابري.

كانت رؤية باهي لعملية التحرير وتوحيد الشمال بالجنوب، متكاملة في بعدها التنظيمي والسياسي والايديولوجي، ولتحقيق هذا الطموح الذي راود عددا من المناضلين والسياسيين خلال هذه المرحلة، كان يرى ضرورة أن يتم إصدار جريدة تلتقي فيها مختلف الرؤى حول قضايا التوحيد والتحرير وبتعبيره ” يجب أن يكون للبندقية قلم” وهكذا رأت جريدة “التحرير” النور بفضله للتعبير عن هذه الحقيقة سنة 1959 كلسان حال لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتي تولى إدارتها الفقيه البصري ورئاسة تحريرها عبد الرحمان اليوسفي.

وصف صديقه عبد الرحمان منيف، الامتحانات القاسية التي مر منها الراحل محمد باهي حرمة خلال هذه الفترة على ” أنها إحدى التجارب الكبيرة التي خلقت منه مناضلا وسياسيا، ثم صحفيا من نمط خاص، ليصبح في النهاية إنسانا مميزا أقرب إلى البوصلة التي يوجهها الضمير “.

 الباهي الصحافي والمناضل

بعد الإعلان عن استقلال الجزائر في يوليو 1962، سيشد باهي الرحال صوب بلد المليون شهيد، مبعوثا لجريدة التحرير بمدينة تلمسان، حيث كانت مقالاته حول ما يجري بالجزائر من أحداث تصل إلى الإعلام الدولي، كما كانت له يد في تأسيس جريدة ” المجاهد” الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني، وجاور فيها عددا من الصحافيين من أمثال محمد حربي وحسين زهوان ويوسف فتح الله… ففي هذه الفترة المتسمة بالمد التحرري الذي سرى في أرجاء البلدان العربية، بدأ يتردد اسم باهي في المشرق، من خلال ثورة الجزائر، فكان جسرا واصلا بين الشرق والغرب.

وهكذا، ساهم باهي في إرساء لبنات صحيفة “الشعب” بسوريا، وحظي برئاسة وكالة الأنباء العراقية، فكانت مقالاته تتجاوز حدود الأقطار العربية، وتتفاعل مع الأحداث التي يشهدها أكثر من بلد عربي، بالمتابعة والتحليل الرزين للوقائع وبأسلوب الصحفي الملتزم المهموم بالقضايا القومية العربية. كما كان أول صحافي عربي يصل الأراضي الليبية في ثالث يوم من قيام ثورة الفاتح في سنة 1969، التي أوصلت العقيد معمر القذافي إلى الحكم بليبيا.

اشتغل محمد باهي في العديد من الصحف العربية الذائعة الصيت، إما محررا أو مراسلا أو متعاونا، وعلى رأسها جريدتي “السفير” اللبنانية ومجلة ” اليوم السابع”، وغيرها من الصحف والمجلات التي احتضنت مقالات باهي، ومقالات باقي المفكرين العرب من أمثال محمد حربي ومحمد عابد الجابري، وفيصل جلول…

ساهم وجوده بالجزائر بالقرب من قادة التحرير الوطني، وعلى رأسهم أحمد بن بلة والهواري بومدين وغيرهم، في الاطلاع على الأوضاع السياسية بهذا البلد إلى درجة أنه كان بمثابة مرجع مهم، لا يمكن لأي صحفي أو باحث ألا يقف عنده أو يسترشد بمقالاته، وهي ميزة ظل يتميز بها منذ حلوله بالجزائر في أول أيام الاستقلال، فكان وصف الفقيه محمد البصري له بليغا حينما اعتبر موته بمثابة ” فقدان أرشيف الهوية وحركة التحرير العربية”.

وفي سنة 1975 عرض عليه الرئيس الجزائري هواري بومدين قيادة جبهة البوليساريو بإيعاز من وزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، غير أن محمد باهي حرمة رفض الفكرة وظل موقفه من قضية الصحراء ثابتا وواضحا، كما من فكرة توحيد المغرب العربي، وكذا من عدد من القضايا التي تهم مستقبل المنطقة، فكان رده من أرض المنفى بباريس- التي عشقها كثيرا- في ركنه الشهير رسالة باريس التي ظل يكتبها لجريدتي المحرر والاتحاد الاشتراكي، بالقول ” لا تجعلوا لينين موظفا عند فرانكو ” ثم في رسالة أخرى ” اذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا لقاعدون…”

كان التزامه بالموقف والدفاع عنه، من الصفات التي جعلت منه صحافيا كبيرا ومناضلا محبوبا لدى القراء والسياسيين والمفكرين، بعيدا عن الأضواء والركض وراء المناصب والامتيازات التي يتهافت عليها بعض أشباه المثقفين، حيث رفض أن يشتغل بعدد من الجرائد الخليجية بمبالغ مالية مغرية، فظل بسيطا ورعا مؤمنا بأن دور الصحفي هو الالتزام بالقضايا المصيرية للشعوب.

شكلت مقالاته الأسبوعية، “رسالة باريس” التي كانت تنشرها جريدة الاتحاد الاشتراكي طيلة عقد من الزمن (1986-1996)، والتي جمعت في عمل ضخم تحت إشراف صديقه امبارك بودرقة، وقدمتها ” حلقة أصدقاء باهي” بمناسبة الذكرى العشرين على رحيله، (شكلت) جنسا قائم الذات في الكتابة، لأنها تجمع بين التحليل الدقيق لمختلف الأحداث التاريخية والقضايا السياسية والشخصيات الفاعلة فيها، بأسلوب ممتع يأسر القراء، ويفرض عليهم سلطة لمتابعة مقالاته وحواراته كل أسبوع، مستثمرا في ذلك مصادره الخاصة وثقافته الواسعة، ورصيده السياسي والنضالي على امتداد أربعة عقود.

كان لرسالة باريس وقع كبير على قلوب القراء الذين كانوا ينتظرونها بشغف كبير، نظرا للمعطيات والمعلومات الوفيرة التي حرص محمد باهي حرمة على توفيرها لقراء جريدة الاتحاد الاشتراكي دون انقطاع. فكانت نسخ الجريدة تنفذ من الأكشاك عن آخرها بفضل كتابات باهي الممتعة والعميقة أيضا، والتي غالبا ما تنتهي بنقاشات واسعة بين المثقفين والمهتمين والجمهور الذي ظل مخلصا لمقالاته المتميزة، والتي تملأ الفجوات، وتترجم نبض الشارع العربي والمغربي بصدق ووضوح.

وأبلغ ما قيل في حق محمد باهي حرمة، جاء على لسان الروائي الكبير عبد الرحمان منيف في كتابه عروة الزمن الباهي:

“سينقل الكثير عما عرفه وخبره في المشرق، إلى قرائه في المغرب، وستكون كتاباته الصحفية معينا ومصدرا للعديد من القراء في المغرب، وسوف تترك تأثيرا بارزا حتى على الحركات والشخصيات السياسية المغربية، لأن الباهي، من خلال هذه المعرفة، أصبح مصدرا ملما وموثوقا، وبالتالي يعتد بالكلمة التي يكتبها وبالرأي الذي يبديه، خلافا للكثير من الكتابات الصحفية التي تنقل فقط وجهات النظر الرسمية، أو تقتصر على المعلومات العجلى المبسترة، والتي كان ضررها أكثر من فائدتها، نظرا لما تولده من تشويش قد يصيب حتى صانعي القرار “.

 باهي الفلسطيني

تسربت القضية الفلسطينية إلى جينات محمد باهي حرمة، شأنه شأن رفاقه ومثقفي عصره منذ زمن مبكر، فكان وجع القضية الفلسطينية مسيطرا على كل كتابته وتحركاته النضالية وجولاته الفكرية، سواء بباريس أو الجزائر التي كانت محجا – بعد القاهرة ودمشق وبيروت- للصحافيين والسياسيين والمناضلين واللاجئين العرب، وخاصة المغاربة الذين سرت في دمائهم أفكار التحرر والاشتراكية والقومية التقدمية العربية، حيث نما طموح قيام ثورة فلسطينية على غرار الثورة الجزائرية. وهو ما كان في يناير 1965 حيث انطلقت ثورة التحرير المسلحة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، فكان باهي في تلك المرحلة من أبرز صحافيي جريدة “المجاهد” الجزائرية التي أعلنت تأييدها لهذه الثورة منذ انطلاق أولى شراراتها.

كان وقع زلزال هزيمة يونيو 1967 كبيرا على محمد باهي حرمة، كما على باقي المثقفين العرب، وانعكس ذلك على كتاباته ومقالاته ونقاشاته وعلى حياته اليومية، فكانت مقالاته أكثر عمقا في تفسير أسباب الهزيمة وتداعياتها، لكن مع انطلاق معركة الكرامة في مارس 1968 بالأردن سينتقل باهي إلى الشرق متجولا بين قواعد الفدائيين في الأردن وسوريا ولبنان والعراق وغيرها من المعسكرات، منشغلا بالأسئلة الكبيرة للقضية الفلسطينية وللتحرر والانعتاق من نير الصهيونية والامبريالية، مساهما بما اكتسبه من خبرات ميدانية أثناء انخراطه في جيش التحرير المغربي.

ساهم محمد باهي أيضا في غشت 1968 بباريس إلى جانب عدد من السياسيين والمثقفين العرب، في تشكيل “لجنة العمل العربي من أجل فلسطين”، حيث تركز عمل اللجنة بشكل أساسي داخل الأوساط الطلابية، وكان بيت باهي قاعدة خلفية لمختلف اللقاءات والحوارات حول قضايا وبرنامج الثورة الفلسطينية، وصدرت أول مطبوعة باللغة العربية مجلة ” آفاق عربية” في تلك الفترة، وكان باهي أحد محرريها إلى جانب العديد من الكتاب العرب، وتمحورت مواضيعها بالأساس حول القضية الفلسطينية.

عاش باهي، كذلك تداعيات الانكسارات والخيبات المتتالية التي شهدتها الأمة العربية، وتحديدا القضية الفلسطينية قضيتها الأم. وعاش أحداث “أيلول الأسود” سنة 1970 يوما بيوم، وساعة بساعة، بعد أن غادر باريس نحو سوريا، وموت جمال عبد الناصر الذي صادف وجوده بدمشق وأثر فيه بشكل كبير.

وفي هذا الصدد قال عنه محمد أبو عيزر عضو المجلس الفلسطيني ” أستطيع أن أسترسل في الحديث عن الباهي الفلسطيني ساعات، ساعات، كما وأستطيع أن أتحدث عن الباهي العربي، الباهي الإنسان، الباهي المثقف، المشرد، القلق.. والباهي الشهيد، ولكن..”

موسوعة في قلب باريس

شكل منفاه بباريس فرصة له للاطلاع على كتب الأدب والتاريخ والفلسفة والجغرافيا والمسرح لإغناء معارفه، حتى صار مرجعا مهما لا محيد عنه بالنسبة لبعض الكتاب والمثقفين الفرنسيين أنفسهم، وفي هذا الصدد قال عنه رئيس تحرير جريدة “السفير” البيروتية  طلال سلمان: ” …وهو المثقف المرتبط بالأرض استطاع أن يسكب بول فاليري في طرفة بن العبد، وأن يقرأ موليير في الجاحظ، وأن يفهم رسالة الغفران للمعري في دانتي، وأن يحاور المستشرقين ويصادقهم، ويصحح لهم بعض أخطائهم بوصفهم “تلامذة” في مدرسته، وليسوا صناعا لتاريخه أو وجدانه “

كان محمد باهي حرمة، صحفيا ومثقفا كبيرا، وصديقا وفيا للكتب يقبل عليها بنهم، باحثا عن نوادرها وعن المصادر التي تغني ثقافته وتفيد قارئ مقالاته، باحثا في مكتبات باريس عما يروي به عطشه الدائم للمعرفة والبحث. ونورد هنا شهادة للكاتبة المغربية زكية داوود، والتي نشرت في عدد خاص “باهي.. الصحافي والمناضل” بسلسلة شراع، والتي قالت فيها: ” كعاشق للكتب، كان باهي دوما كذلك، وقد كان أزيد من 8000 مؤلف تتراكم فوق الطاولات والكراسي، وعلى طول الجدران، وفي حزم غير مستقرة، فكان يعيش، كما في خيمة، في الفضاء الضيق الذي كانت تتركه الكتب له. فوقها، توجد جرائد مشرعة، نصف مائلة، مرمية بإهمال، وأحيانا يكون هناك، في توازن هش، صحن منسي في بهاء فوق الكل”.

لقد ظل محمد باهي حرمة، المتشبع ببساطة أهل الصحراء، زاهدا في كل شيء إلا في المعرفة والبحث، وهي ميزة اكتسبها منذ أن اشتد عوده بالصحراء، حيث كان ملما بكل تفاصيل حياة أهل الصحراء وطرق عيشهم وببيئتها وتاريخها، فحمل معه هذا الفضول المعرفي إلى عاصمة الأنوار التي كتب عنها أكثر من الفرنسيين، حسب شهادات أصدقائه الذين عاشوا معه محنة المنفى هناك.

وهذه شهادة زميله الصحفي والكاتب الكبير فيصل جلول ” في الصحيفة حيث كنا نعمل معا، قرر ذات يوم أن ينقل معرفته بباريس إلى قرائنا، غاب لأسابيع دون أن نعرف ماذا يفعل؟ وأين، ثم عاد ومعه سلسلة مقالات بعنوان ” اكتشاف باريس ” كتبها بمنهج حفظ القصائد العمومية القديمة. وكانت ” باريس” محمد الباهي تختلف عن باريسنا وباريس الذين نعرفهم، وكان لا بد أن نقطع عليه هذا الاسترسال، لأنه صرف عشرات المقالات في وصف المدينة تحت الأرض. وقلنا إنه قد لا يصل إلى سطح باريس قبل نهاية القرن “.

وفي ذلك يقول عبد الرحمان منيف ” لديه من المراجع عن باريس أكثر مما لدى المتخصصين، فقد كان يشعر بالحرج، الأقرب إلى الإهانة، ألا يعرف كل شيء عن هذه المدينة التي أحبها إلى درجة الإدمان، ولم يكتف بمعرفة التاريخ والمعالم القائمة فوق الأرض، نزل إلى الأعماق، إلى الدهاليز السفلية إلى المجاري، كي يتعرف على جذر المدينة “.

 الرحلة الأخير

بعد رحلة طويلة قضاها بالمنفى، قاربت أربعة عقود كلها حلم ومعاناة وغربة، سيقرر محمد باهي حرمة العودة إلى المغرب سنة 1996 حاملا مشروعا متكاملا لتطوير صحافة الحزب، من خلال وضع تجربته المهنية والفكرية كلها لهذه المهمة، غير أن مشروعه اصطدم بمقاومة كبيرة لم يكن يتوقعها من رفاقه، لأن إحداث الثورة في الجريدة تعني بالضرورة الثورة على التنظيم السياسي الذي يصدرها، مما أثر على نفسيته، التي تأثرت أيضا بفقدان إحدى ابنتيه في حادثة سير بعد أيام قليلة من وصوله إلى المغرب.

لقد فارق باهي الحياة في الرابع من يونيو سنة 1996 بإحدى المصحات بمدينة الدار البيضاء، إثر نوبة قلبية حادة ألمت به دون أن يحقق حلمه في التغيير الذي ظل مؤمنا به طوال حياته، وظلت أسباب وفاته مثار شك بين رفاقه، وإن كان البعض منهم قد حسم الأمر، في أن أسباب موته لها علاقة بأزمة مهنية حصلت له منذ التحاقه بجريدة الاتحاد الاشتراكي، ومنهم محمد عابد الجابري الذي طالب في رسالة موجهة إلى المكتب السياسي للحزب بتكوين لجنة لتقصي الحقائق في الأسباب والظروف الصحفية والحزبية التي تكون وراء النوبة القلبية التي أصابت باهي وعلى إثرها فارق الحياة.

هكذا مضى باهي في صمت نحو النهاية دون وداع، وفي صدره جروح وأسرار ظل يكتمها إلى أخر المشوار، لكن ظلم الرفاق كان عليه أشد مضاضة من وقع الحسام المهند.

شهادات عن الباهي

قال عنه رفيق دربه الراحل عبد الرحمان اليوسفي: “.. كان باهي من أركان رصيد حزبنا، ومن الصور المشرفة لهويتنا الوحدوية والديمقراطية والاشتراكية والمغاربية والقومية، كما كان باهي من الشهود على مصداقيتنا ومن الرموز التي نعتز ونفخر بها، دون أن تمسسها بعض الأمراض الاجتماعية التي تسربت للأحزاب السياسية. فلقد كان بحق مناضلا طاهرا وعصاميا، حرا ومستقيما، أبيا وكريما، عاش ومات فقيرا، متحديا كل الإغراءات، وكل مصاعب الحياة مهما كبرت. لم يثنه شيء عن الاستمرار بعزم وصلابة في المسيرة الوعرة التي اختارها منذ شبابه…”

وأضاف “.. فمن نواكشوط إلى بغداد، لا أعتقد أنه يوجد مواطن عربي حظي بنفس التقدير الاجتماعي، وبنفس المحبة الاجتماعية التي استطاع باهي أن يبلورها حول شخصيته، لأنه كان من حيث لا يدري، يسبي عقول وقلوب مخاطبيه بسبب أناقة خلقه، وتلقائية تواضعه، ولمعان ثقافته، وسحر حديثه وابتسامته.. “

وقال عنه الكاتب والصحافي العراقي شاكر نوري:

” هكذا عاش الباهي محمد ممزقا بين الأدب والسياسة والفلسفة وعلم الاجتماع.. كما عاش ممزقا بين المدن: باريس، الدار البيضاء، الجزائر، والصحراء ذلك العالم المجهول الذي لا حدود له، تماما كالمعرفة الواسعة التي كان يطمح إليها.. “

وقال عنه الصحفي خالد مشبال:

” وربما لم تنجب الصحافة العربية منذ نشأتها، كاتبا ملتزما بقضايا الحرية والوحدة والديمقراطية مثل محمد باهي.. وما عاناه من تشريد في أوطان الغربة، وتهديد بالإعدام والتصفية في فترات (حالات الاستثناء) المشؤومة..

وأضاف مشبال ” هذا الرجل النادر يجب أن يبقى منقوشا في ذاكرة الأجيال، كمادة أساسية ضمن مناهج التعليم العالي”.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...