– ملفات تادلة –
على غرار كل الأزمات التي سبقتها، جلبت أزمة كورونا، التي يعيش العالم تحت وطأتها، معها مفاهيم وعبارات مرتبطة بها، مثل: “تتبع المخالطين”، و”معدات الحماية الشخصية PPE”، و”جهاز المناعة الضعيف”، و”فيروس كورونا” نفسه، والعبارة الأبرز “التباعد الاجتماعي”، التي اعتبرتها منظمة الصحة العالمية منذ البدء، من أهم الإجراءات الاحترازية الكفيلة بالحد من انتشار العدوى.
انتشر المفهوم بشكل كبير ونظرا لما يشوبه من الغموض وما يثيره من نقاش وسوء فهم محتمل، وبل وإمكانية تطبيع مع تكريس قطيعة اجتماعية، ارتأت المنظمة أن هناك حاجة الى تغييره قبل فوات الأوان واستبداله بمفهوم “التباعد الجسدي”، باعتباره هو المطلوب لتحقيق الهدف المرجو، وعملت المنظمة على الترويج لهذا المفهوم على كل المستويات، منذ الإعلان عنه في 20 مارس الماضي، حيث قالت ماريا فان كيرخوف، المستشارة في المنظمة، في مؤتمر صحافي أن المنظمة تفضل “التباعد الجسدي” لأن التعبير يؤكد أن على الأشخاص الحفاظ على مسافة آمنة بين بعضهم بعضا وليس إنهاء التواصل الاجتماعي.
منظمة الصحة العالمية تريد من الأشخاص البقاء على تواصل مع أحبائهم عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي “لأن صحتك العقلية خلال هذه الفترة مهمة بقدر صحتك الجسدية”. وهي نفس الفكرة التي دافع عنها جميل زكي البروفسور في علم النفس في جامعة ستانفورد مؤكدا على أهمية الابتعاد عن المصطلحات الخاطئة، وقال يوم الخميس 19 مارس في جلسة أسئلة وأجوبة في الجامعة إذ قال: «علينا أن نحدد هدفنا الآن، فنحن ندعو للتباعد الجسدي للتأكيد على أهمية تفاعلنا اجتماعيًا على الرغم من البعد المادي. وهذا إجراء ضروري لإبطاء انتشار كوفيد-19 حتى إن كان ضد الحاجات الأساسية للبشر…”.
إلى هنا والأمور عادية ومفهومة، غير أن المثير للاهتمام أن أبرز الناطقَيْن باسم الحكومة في بلادنا (رئيس الحكومة، و وزيرا للتربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي الناطق الرسمي باسم الحكومة)، ظلا إلى حدود آخر خروج إعلامي لكل منهما متشبثين باستعمال مصطلح “التباعد الاجتماعي”، رغم أن هذا المصطلح مضلل، ببساطة لأننا اليوم أكثر من أي وقت مضى، في حاجة ماسة إلى الترابط الاجتماعي والتضامن الاجتماعي والتقارب الاجتماعي، والتواصل مع الاخرين في هذه الأوقات الصعبة، دون إغفال احترام المسافة الجسدية لضمان تفادي انتقال العدوى.
قد يقول قائل أنها مجرد كلمات، ليس وراءها بالضرورة خلفيات متحكمة، لن ندخل في قراءة للنوايا، لكن لا نظن أن أحدا يخفى عليه تأثير الكلمات والعبارات المستعملة في التطبيع مع سلوكات وممارسات مهما كانت مرفوضة، وفي حالتنا هذه أظهرت الممارسات على أرض الواقع بأن هنالك من يفهم مصطلح “التباعد الاجتماعي” على أنه الابتعاد عن كافة العلاقات الاجتماعية سواء على مستوى الأسرة أو المحيط العائلي أو المجتمعي، وهو بدون شك فهم غير صحيح أفرزه استخدام مصطلح التباعد الاجتماعي. فالجمهور كما أكد توني ثورن، مؤلف قاموس اللغة العامية المعاصرة وأخصائي اللغة في كينجز كوليج لندن: ” ليس مستهلكا سلبيا للغة لقد امتلكها”.
التشبث بمفهوم “التباعد الاجتماعي” برغم كل ما أشرنا إليه، يستبطن بوعي أو بدونه خطابا ايديولوجيا موجها لفئة معينة، هذه الفئة التي يمكنها أن تمارسه دون أضرار كبيرة، يمكنها أن تنسحب من الفضاء الاجتماعي وتخلق مسافة اجتماعية، دون أن يتأثر وضعها، في حين أن الطبقات الدنيا في أمس الحاجة إلى التماسك الاجتماعي والتضامن الاجتماعي والقول بأن الجائحة لا تفرق بين غني ولا فقير، مردود عليها فمن الصعب قبول فكرة أن الكل متساو أمام الوباء، الشخص/الطبقات المرفّهة التي تعيش في مساكن مريحة وشاسعة من جهة والأشخاص/الطبقات التي تسكن في مساكن ضيقة في وضع من الاكتظاظ. ولعل ما قاله Elodie Mielczareck الاخصائي اللغوي، المتخصص في اللغة المنطوقة وغير المنطوقة، يعبر بوضوح عن هذه الفكرة، إذ قال: “… إن الحديث عن “التباعد الاجتماعي” ليس بالأمر الهين كما قد يبدو… وما يجعل المرء يشعر بعدم الارتياح في هذا التعبير ليس فقط أنه ينكر أن جزءًا من الإنسانية الذي لا يزال حاضرًا وحيويًا في حياته اليومية (الجسدي ليس هو الاجتماعي) ، بل هو أنه يذكره بمهارة أنه إذا كان “في الأسفل”، فلا يمكنه أن يطيق هذه الأزمة”.
وبالعودة إلى الواقع الفعلي في أيامنا هذه، في بلادنا، عاينا جميعا خروج مظاهرات في العديد من المناطق، احتجاجا على عدم توصلها أو تأخر توصلها بالدعم الذي خصصته الدولة للمتضررين من فقدان الشغل، من جراء تطبيق الإجراءات الاحترازية المرتبطة بحالة الطوارئ الصحية (تجدون في هذا العدد تقريرا مركبا عن بعض هذه الاحتجاجات)، ولعل كل المتتبعين للوضع سيدركون أن خروجا بهذا الشكل في ظل أوضاع تفشي الوباء، لن يكون إلا خروجا اضطراريا، فرضه واقع الهشاشة التي ازدادت حدتها جراء فقدان مصدر الدخل لدى أغلب الأسر، خصوصا في الأوساط القروية.
ولإدراك حجم المشكلة، من المفيد القيام بإطلالة على الأرقام والنسب التي أوردتها المؤسسات الرسمية نفسها، رغم كل التحفظات الممكنة عليها، إلا أنها تشكل المصدر الوحيد الممكن في الوضع الراهن، في غياب مراكز إحصاء مستقلة.
فقد أعلنت لجنة اليقظة الاقتصادية في آخر بلاغ لها، يوم 27 ماي الجاري، أنه تم تسجيل مليوني شكاية من طرف الأسر العاملة في القطاع غير المهيكل، التي لم تستفد من الدعم المقدم من صندوق جائحة كورونا، في مرحلتيه الأولى (شهر مارس) والثانية (شهر أبريل)، فتم قبول 800 ألف طلب وتم رفض 400 ألف طلب ومازال 800 ألف طلب قيد الدراسة، حسب ذات البلاغ، دون أن نغفل أن حجم الدعم الذي نحن بصدد الحديث عنه يتراوح ما بين 800 درهم و1000 درهم، وهو مبلغ هزيل إذا استحضرنا واقع غلاء الأسعار وانقطاع موارد بديلة أو تكميلية لتلبية حاجيات الساكنة.
في ذات السياق، أوضحت المندوبية السامية للتخطيط في بحث أجرته حول “تأثير فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للأسر”، كانت قد أنجزته في الفترة ما بين 14 و23 أبريل الماضي، أن الأسباب الرئيسية لكسر الحجر الصحي هي أسباب اقتصادية ومهنية بنسبة 80 في المائة من الأشخاص البالغة أعمارهم ما بين 25 سنة و59 سنة.
وأبرز ذات البحث أن ثلث الأسرة المشمولة بالبحث لا تتوفر على أي مصدر للدخل بسبب توقف أنشطتها أثناء الحجر الصحي وتعتبر هذه النسبة مرتفعة في صفوف الأسر القروية (35 في المائة) في مقابل 33 في الأسر الحضرية… وتصل إلى حدود 44 في المئة بالنسبة للأسر الفقيرة و42 في المائة بالنسبة للأسر التي تعيش في مساكن عشوائية، و54 في المائة في صفوف الحرفيين والعمال المؤهلين و47 في المائة بين التجار و46 في المائة بين العمال واليد العاملة الفلاحية.
وأبرز ذات البحث أن الدخل بالكاد يغطي النفقات الأساسية بالنسبة لــ38 في المائة من الأسر، في حين تضطر 22 في المائة من الأسر إلى استخدام مدخراتها وتلجأ 14 في المائة إلى الاستدانة من أجل تمويل نفقاتها خلال هذه الفترة وتعتمد 8 في المائة من الأسر على المساعدات التي تقدمها الدولة لتغطية النفقات اليومية.
وبالنسبة للمساعدات العمومية للأسر جراء فقدان الشغل اعتبر البحث أن أسرة واحدة من كل خمس أسر تلقت مساعدات الدولة للتعويض من جراء فقدان الشغل (بنسبة 19 في المائة): 13 في المائة في إطار نظام المساعدة الطبية راميد و6 في المائة في إطار برنامج مساعدة الأجراء بالقطاع المنظم.
وأقرت ذات المؤسسة الرسمية في بحثها المشار إليه بصعوبة الحصول على المساعدات العمومية، أذ أكدت أن 60 من الأسر التي فقد أحد أفرادها عمله واجهت صعوبة في الحصول على المساعدات العمومية، وأكدت 59 في المائة منها أنها مسجلة لكنها لم تستفد بعد، 54،5 في المائة في الوسط الحضري و68 في المائة في الوسط القروي.
وعن الانعكاسات النفسية للجائحة على الأسر المبحوثة أكدت المندوبية في خلاصة بحثها أن فقدان الشغل وعدم القدرة على تموين الاسرة والخوف على المستقبل الدراسي للأبناء تشكل أهم مسببات القلق للأسر في ظل ظروف الجائحة، مؤكدة أن الدعم المادي هو الطريقة الأنجع لإنجاح الحجر الصحي.
وفي دراسة مقتضبة حديثة لنفس المؤسسة الرسمية، بعنوان “مقاربة ديمغرافية لمخاطر التعرض لكوفيد-19” أبرزت أن خطر العدوى أعلى في الجهات التي يعيش فيها السكان في المساكن المكتظة، حيث يكون عدد الغرف غير كاف بالنظر لحجم الاسرة، باعتبار أن المسكن المكتظ هو الذي تقيم فيه أسرة تضم ثلاثة أشخاص أو أكثر في الغرفة الواحدة، فإن عدد الأسر التي تعيش في هذه الوضعية يقدر بما يزيد عن مليون أسرة (1،05 مليون)، أي بنسبة 12،5 في المائة … وخلصت الدراسة المقتضبة أن خطر انتشار الفيروس يكون أكبر مع ارتفاع عاملي الكثافة السكانية واكتظاظ المساكن وهو ما تشهده المدن العتيقة والسكن الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة إلى مدن الصفيح.
كل الملاحظات الواردة في دراسة المندوبية السامية للتخطيط، وكذا الملاحظات والتنبيهات التي سجلتها المنظمات الحقوقية، والاحتجاجات الجماهيرية، تفرض على الدولة إعادة النظر في طريقة تدبير الجائحة، خصوصا فيما يتعلق بالبعد الاجتماعي، حتى لا يتحول “التباعد الاجتماعي”، الذي تحرص على الدعوة إليه وتلقي عن طريقه المسؤولية على كاهل المواطن، إلى إقصاء اجتماعي فعلا.