والعدد ماثل للصدور، تستعد الطبقة العاملة لتخليد محطة أخرى من عيدها الأممي فاتح ماي، محطة تأتي هذه المرة في ظروف استثنائية، تتميز على وجه الخصوص بفرض الحجر الصحي ببلادنا، على غرار العديد من بلدان المعمور، ولعل فاتح ماي تاريخيا شكل مناسبة للوقوف على أوضاع الطبقة العاملة ومكتسباتها، ومناسبة كذلك لتجديد التأكيد على مطالبها، وقد اختارت أو بالأحرى وجدت الإطارات النقابية ببلادنا نفسها مضطرة لتجسيد الذكرى هذه السنة من خلال برنامج افتراضي/رقمي، تطبيقا لمبدإ “التباعد الجسدي” ، وليس “الإجتماعي” كما جرى تداوله على نطاق واسع في الآونة الأخيرة، إذ أصبح التقارب والتضامن والتكافل الإجتماعي ضرورة لا محيد عنها. نظرا لأن جائحة كورونا التي نرزح تحت وطأتها في أيامنا هاته كشفت أن واقع الطبقة العاملة كجزء من الجماهير الشعبية عموما، واقع مزر وسيزداد سوءً إن بقي الحال على ما هو عليه.
الحديث عن أوضاع الطبقة العاملة ببلادنا اليوم في ظل الجائحة يقودنا إلى استحضار المخاطر التي تتهددها يوما عن يوم، في ظل استمرار العديد من المصانع في الاشتغال برغم مخاطر تفشي عدوى فيروس كورونا المستجد، هذا الفيروس الذي قال عنه مدير منظمة الصحة العالمية تيدرس أدهانوم غبريسوس : “فيروس كورونا هو عدو الناس الأول… هذا شيطان ينبغي أن يقاتله الجميع”، واستجابة لنداء “الحرب” هذا ، تعالت أصوات العديد من الإطارات والشخصيات ببلادنا لبذل كل الجهود الممكنة لمحاصرة هذا “الشيطان الخفي” ومقاتلته، ولعل أبرز المقترحات في هذا الباب الإنكباب على الأماكن التي توفر بيئة سهلة لتفشيه، وأبرزها في الآونة الأخيرة، البؤر التي ظهرت في المنشآت الصناعية والتجارية والسجون.
لقد شهد معمل للنسيج بعين السبع بالدار البيضاء تفشي الفيروس في أوساط العاملات، إلى أن بلغ عدد الإصابات المؤكدة، حسب آخر الارقام التي صرحت بها وزارة الصحة 130حالة إصابة مؤكدة (إلى حدود يوم 21 أبريل)، كما انفجرت بؤرتان في طنجة بلغ عدد المصابين فيها على التوالي 55 و 42 (إلى حدود يوم 20 أبريل) ، تنضاف إلى ذلك بؤرة بمدينة العرائش بلغ عدد المصابين فيها إلى حدود 20 أبريل الجاري 48 حالة إصابة مؤكدة، و6 حالات في بؤرة بوجدة.
الأصوات التي نادت باللجوء إلى الصرامة مع هذه المعامل، حتى لو اقتضى الأمر إغلاقها، حفاظا على أرواح العاملات والعمال وأسرهم ومحيطهم، رد عليها رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، من منصة مجلس المستشارين أثناء الرد على الأسئلة الشفوية، يوم الأربعاء 21 أبريل، بالقول :”منشيطنوش القطاع الصناعي…!!، يجب أن يستمر وأن نساعده على الحفاظ على الإجراءات الوقائية، لحماية المستخدمين”، هذا الجواب هو استمرار لنفس النهج الذي رسمته الحكومة في تعاطيها مع القطاع الصناعي منذ إعلان حالة الطوارئ، منذ أن استثنى البلاغ التوضيحي للبلاغ الذي حدد خمسين شخصا، كحد أقصى للتجمعات في الأماكن العمومية، الأنشطة الإنتاجية.
خمسون شخصا هو الرقم الذي حدده بلاغ 14 مارس الماضي، وهو بالمناسبة نفس الرقم الذي حددته الحكومة الفرنسية، بضعة أيام قبل ذلك. غير أن وزارة الصناعة والتجارة والاقتصاد الأخضر والرقمي سرعان ما أعلنت أن “منع التجمعات العامة التي يزيد عدد أفرادها عن 50 شخصا لا يهم أنشطة الفاعلين الاقتصاديين الخواص ومستخدميهم”. ما يعني أن الحكومة أصرت على الحفاظ على هذا النهج برغم ثبوت خطورته، بل وأعلنت شركة رونو، بشكل فردي، إعادة فتح معاملها واكتفى رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بنقل الخبر على حسابه على مواقع التواصل الإجتماعي، وهو ما يكشف بالملموس أن من يقررون في شؤون البلاد اختاروا الحفاظ على مصالح أرباب المصانع أولا، لتبقى صحة المنتجين الفعليين، بل الصحة العامة المرتبطة بها في درجة ثانية.
تفشي الفيروس في المعامل وتشكل البؤر في الأوساط العمالية يوضح أن أرباب المعامل لم يبذلوا الجهد الكافي لتوفير مقومات السلامة والصحة للمستخدمين، وأن الدولة من خلال أجهزة المراقبة التي تتوفر عليها لم تتحمل مسؤوليتها كفاية للحفاظ على أرواح العاملات والعمال وعائلاتهم ومحيطهم العام، وهو ما يذكرنا بمأساة 2008، عندما توفيت حرقا 55 عاملة في معمل روزامور بالمنطقة الصناعية ليساسفة بالدار البيضاء، وأصيب 17 من العمال بجروح متفاوتة الخطورة .هذه الكارثة كانت قد كشفت مرة أخرى عن الأوضاع المزرية التي تعاني منها الأوساط العمالية في العديد من المصانع ببلادنا، وهو واقع اعترف به وزير التشغيل آنذاك جمال أغماني، وكان حريا بالدولة أن تستخلص منها الدروس المطلوبة، وتترجم الإعتراف بالنواقص إلى مراقبة فعلية وإجراءات صارمة لتوفير متطلبات وتجهيزات السلامة اللازمة للحفاظ على صحة الإجراء، لو تم تحمل المسؤولية منذ تلك المحطة هل كنا سنشهد اليوم ظهور البؤر الوبائية بهذه الحدة التي نشهدها اليوم؟
نفس الأمر ينطبق على السجون، إذ لم يعد يخفى على أحد أن الأوضاع فيها كارثية، وأنها تشكل بيئة خصبة لتفشي فيروس من هذا النوع، وهو ما جعل العديد من الإطارات الحقوقية تدعو إلى التخفيف من اكتظاظها وإطلاق سراح العديد من الفئات، خصوصا كبار السن، ومن اقتربت عقوبتهم من الإنتهاء، والمعتقلين السياسيين والمدونين والصحافيين، ،وكذا السجناء الاحتياطيين الذين لا يشكلون خطورة ونفذوا خطط العقوبات البديلة.
غير أن المسؤولين وضعوا أذنا من طين وأخرى من عجين، وذهبت تحذيرات “مطلقي الإنذارات” أدراج الرياح، ووضعوا لائحة للعفو، قيل عنها الكثير في حينه ولم تستجب للحد الأدنى من المطالب المرفوعة، والنتيجة تفقأ الأعين… بؤرة كبيرة بسجن ورزازات، حيث أعلنت مندوبية إدارة السجون عن إصابة 241 نزيلا و62 موظفا واختطف الموت موظفا بسبب الفيروس القاتل، بينما بلغ مجموع الإصابات حسب المندوبية 314 إصابة مؤكدة خلف القضبان.
وضعية سجن ورززات حولت حياة سكان هذه المدينة الوديعة إلى كابوس رهيب، آخر الأرقام تحدثت عن 428 حالة إصابة مؤكدة، مع تسجيل غياب مستشفى مجهز بأبسط المقومات الضرورية، حيث أن أقرب مستشفى يتواجد بالراشيدية على بعد 300 كلم، وهو ما يزيد الأمر سوءً، سجون أخرى شهدت ظهور حالات إصابة بين الموظفين والسجناء تجعل الاستجابة لنداءات الإطارات الحقوقية ضرورة لا محيد عنها.
المواطنون في ورزازات التزموا بالحجر مثلما لم يلتزم أحد، ومع ذلك فاق عدد الحالات أكثر من 400 إصابة بالفيروس ! وتحولت المدينة الهادئة الى بؤرة خطيرة لانتشار كوفيد 19، وهو أمر إن نظرنا إليه بتمعن يكشف لنا أن الحجر الصحي، على أهميته وضرورته، ليس حلًا كافيا، ولن يؤتي النتيجة المرجوة منه ما لم تتحمل الدولة مسؤوليتها وترفع الجهوزية والاستعداد العملي، من خلال تكثيف الكشف الآني والحماية والعلاج وتوفير التجهيزات الكافية، وتبني استراتيجية فعالة للتقليل من انتقال العدوى وتأهيل المراكز الصحية بالمزيد من الأطر وتزويدها بالمعدات الضرورية اللازمة، وتبني مطالب الساكنة بإنشاء مستشفى ميداني. فهل من مستجيب؟
والعاملات في مصنع الدار البيضاء تحدثن عن إجبارهن على العمل وتهديدهن بالطرد وحرمانهن من حقوقهن وفي غياب وسائل النقل خصص رب العمل حافلات تقوم بإحضارهن من منازلهن وتحدثن عن غياب شروط التباعد الجسدي في الحافلات كما لم تخضع الحافلات للمراقبة ولا يعلم أحد إن كانت تخضع للتعقيم أم لا، بينما كشفت الجائحة واقعا مريرا لمؤسسات إنتاجية كبرى لا تصرح بعمالها وعاملاتها لدى صندوق الضمان الاجتماعي.
الوضع كارثي ويفرض تحديد المسؤوليات وتحملها فعلا إن نحن أردنا الوصول إلى بر الأمان، وبدل التعنت والانتصار الدائم لسلطة الدولة وسلطة المال، يجب الاهتمام بالمجتمع لأنه احببنا أم كرهنا يظل – ولنا فيما نعيشه اليوم خير عبرة- الملاذ الآمن لإنقاذ الوطن واقتصاد الوطن، فلم ولن تنفعنا في مواجهة الجائحة سوى الطاقات الخلاقة لشعبنا التي هبت لحماية الوطن. إن الأوان لم يفت بعد ولازال بالإمكان إنقاذ الوضع إن توفرت الإرادة السياسية لدى المسؤولين، ووضعت الدولة مصلحة المجتمع باعتباره عمادا لها في الدرجة الأولى، قبل الرأسمال الأجنبي منه والمحلي.
.