تعليمٌ عن بُعد أم بعدٌ عن التعليم؟

 

        كلما تعلق الحديث بالمدرسة، كـلما اختلفت الآراء بين ثلاث اتجاهات أساسية، طاغية على النقاش : اتجاه مؤسسـي (المؤسسة)، يملك فـي جعبته سيلا من خطاباتِ الطمأنةِ والدعوة إلى الدّفع يالسيرورة الدراسية إلى الأمام، ومراكمة الدروس، وتجاوز الصعاب والمعيقات، مع إعطاء الأولوية ل “مسار “  الذي أصبح – بقدرة قادر-  أكثر أهمية، حتـى من النقاش حول أية سياسة تعليمية نحتاج؛ خطابُ طمأنةٍ هُوَ، خطابٌ يصور العملية التعليمية و التربوية وكأنها بلغت ذروة كمالها، إذ لا شائبةً تشوبها ولا خللا يقض مضجع فاعليها، من بداية السنة الدراسية، مع ما تكتسـي من شعارات: “من أجل مدرسة عادلة و دامجة، مدرسة المواطنة…” إلى نهايتها مع نهاية موسم الامتحانات الموحدة الجهوية و الوطنية، حيث يتم الإعلان على نجاح السنة الدراسية  والدليل على ذلك نسبة النجاح (؟) فـي الامتحانات التـي تُوضحُ البيانات (ومسار أيضا) أنها مرّت فـي ظروف طبيعية عادية.       

    واتجاه آخر مختلفُ الخطابِ باختلاف المواقع التـي يشغلها أصحابها، لكنه، بشكل عام، خطاب (إن صحت التسمية)، التباكي سمتهُ الأساسيةُ وتبادل الاتهام هدفه الرئيسـي: بين المجتمع والأستاذ والمؤسسة وغـيـرهم، كلّ يختار الشمّاعة التـي تليق، حسب ذوقه الخاص، بمقام هذا الفشل.

    واتجاه ثالث، شعاره يكفــي لإقناع المرء بضرورة تمحيص أكثر الخطابات طمأنة ومساءلة أكثـر الاتهامات حماسة. فتحت شعار: “دفاعا عن المدرسة العمومية” من يسير في هذا الاتجاه، من نقابات، اختارت نهج الوضوح المبدئــي وتحمل المسؤولية التاريخية، وتنسيقيات فئوية، وبعض المثقفين الغيورين على الوطن والمواطن، تحت هذا الشعار تُخاضُ معركة مستميتة، داخل وخارج المدرسة، لتحصين ما يمكن تحصينه من مكتسبات تاريخية في حقل التعليم.      

        لهذا، إنه لمن الضروري تثبيتُ دعائمِ نقد بناء، ورسم معالم ثقافة نقدية كفيلة بتوجيه الأفعال، سواء منها التربوية أو السياسية، فـي ظل واقع مدرسة تتأرجح بين الرهانات الاقتصادية والإيديولوجية- السياسية، مدرسة أُريدَ منها تنشئة المجتمع، لكن الواقع الاجتماعي، والمستوى الاقتصادي والثقافـي في بلادنا يقِرّون بفشلها فــي هذه المهمة.

        لا أحد يستطيع إنكار واقع التعليم بالمغرب ومشاكله التـي لا حصر لها، والتـي نعتها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه القيم الموسوم ب “أضواء على مشكل التعليم بالمغرب” ب “المشكل المزمن” فالتعليم ببلادنا يعانـي الويلات، وهذا واقع لا غبار عليه، رغم كل محاولات تزيينه وتقديمه في أبهـى الصور؛ إذ ما يكاد يخرج من أزمة حتـى يدخل أخرى، وكأن (الإصلاحات) المتتالية فـي هذا القطاع لا تزيده إلا تأزما، منذ التقويم الهيكـلــي، إلـى مخطط التعاقد، مرورا بالميثاق الوطنـي للتربية والتكوين وهلم جرا…

        إن  أزمة المدرسة انعكست على كلِّ المجتمع،  من نخبته السياسية حتـى متعلمـــي المدارس، فبات مألوفا سماع أخبار من قبيل تلميذ عنَّف أستاذا أو أستاذٌ اتهم بالضرب والجرح، أو تعليقات المتعلمين الذين يدافعون عن الغش بشتـى الوسائل التـي قد تصل حد الشتم والتهديد، وبرأس مرفوع أمام كاميرات الصحفيين، وكأنه حق انتزع منهم ظلما، وما إلى ذلك من  الأفعال التـي تجعلنا نعترف، رغما عنا، بأن الأمر يتعلق بانحلال خلقــي يصبح عاما أكثر فأكثر، مُزيلا النقاب عن واقع المدرسة والعجز التربوي الذي أصبح ضاربا في أعماق المجتمع.  

 

    أزمة وإن أردنا تحليل أسبابها وتِبيان نتائجها، فلن يسمح لنا المقام، لذلك سنقدم رؤيتنا ورَأيَنَا بخصوص مستجد طفا على سطح الساحة الإعلامية وشغل بال المجتمعِ، من تلاميذ وطلبة، وأوليائهم، والأسرة التربوية، ألا وهو التعليم عن بعد، محاولين نقده من زاوية الممارسة، و من مدى تطابق الخطاب (خطاب الطمأنة) مع واقع أحوال هذا النوع من التعليم، محاولين ربطه بموضوع المدرسة العمومية عامة. 

 

بين خطاب الطمأنة والبعد عن التعليم.

 

        لقد تجاوز عدد الطلبة والتلاميذ على المستوى العالمـي، حسب تقارير  OCDEمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 200 مليون، وعدد الأطر في قطاع التربية والتعليم  بجميع أسلاكه أكثر من 44 مليون، الـشـيء الذي جعل لُعاب البورجوازية العالمية يسيل على هذا القطاع الضامن ليد عاملة و زبناء مستقبليين  مضمونين سيتم إجبارهم بقوة القانون، وسلطة الإشهار، على الاندماج والتكيف مع المدرسة الجديدة بما تحمل من برامج و بيداغوجيات. فهل سَتسْلم المدرسة العمومية المغربية من قبضة الرأسمال الملتهم لنظيراتها في العالم؟ 

        تتوالى شعارات الدفاع عن المدرسة العمومية، وتتزايد نداءات العارفين بوضعها الحقيقي، رافعين مطالبهم إلـى القائمين على الشأن التربوي بإصلاحات جذرية فعلية تعيد المدرسة لمكانتها الطبيعية؛ فضاء لبناء الإنسان، فـي استقلال عن الهواجس السياسوية، وبعيدا عن أهداف السوق المتوحش، بناء يمكِّنه من المساهمة في تطوير المجتمع، مسلحا بالعلم، وبكـل ما أنتجته البشرية من فكر وقيم، وليس مصنعا لتأهيل جيش من اليد العاملة والمستهلكين المشبعين بقيم التنافس والجشع، والمُراد به تحريك عجلة الاقتصاد، حقل الصراع الذي عُوِضَت فيه الجيوش المسلحة بالعمال  والمهندسين والأطر، كما جاء على لسان ج.ب. شوفينمون (J.P. Chevènement. Les lycées de demain). 

        وتتوالى القرارات والمشاريع (الإصلاحية) نظريا، ومعها خطابات الطمأنة، والحال أن نتائجها تبين بالملموس أن خساراتنا أكثر من  أرباحِ مَنْ جَعلوا من التعليم سلعة، ومن المدرسة مقاولة خاصة، إسوة بقطاع الصحة، إذ تلك كانت مشيئة البنك الدولي وباقي المنظمات المالية المانحة (OCDE. OMC…) ، وذلك واضح منذ أول تقرير أنجزته هذه المؤسسة، ومن أولى التوصيات التـي رفعتها للمغرب،  سنة 1995، إلى آخرها. 

من سَيُصلح  منظومتـي الصحة والمدرسة العموميتين، إذا رفعت الدولة يدها عنهما  (كما صرح بذلك الداودي وبن كيران…)؟ وكيف سيكون هذا الإصلاح؟ وما هي آثاره الملموسة لا تلك التـي لا توجد إلا فـــي الخطاب (الطمأنة) ؟ 

 طبعا، هناك نتائج ملموسة، أثار واضحة وضوح الشمس، تَغَوُل أرباب القطاع الخاص مثلا، حيث الأساتذة يشتغلون كما فـي المصانع الخاصة، برواتب قد لا تتعدى الحد الأدنى من الأجور، وفي وضعية اجتماعية شديدة الهشاشة، هشاشةٌ أصبحت خيارا استراتيجيا بعد التبنــي الرسمــي للتعليم بالتعاقد ( فـي خطاب الطمأنة: أطر الأكاديمية). تَغولَت المدرسة الخاصة، وهـي مراتب، تختلف باختلاف رساميلها المادية، و تعدد الفئات التـي تستقطب منها زبائنها، إذ ساهمت  التحفيزات الضريبية الرسمية مثلا (أنظر المادة 165 من الميثاق الوطنـي للربية والتكوين ) في تخصيب تربة القطاع الخاص، وتشجيعه على النمو والتطور على حساب القطاع العام. 

 

 تغول يظهر جليا في الإحصائيات التالية لسنة 2016: 

  • عدد مؤسسات التعيلم العالي (جامعات ومعاهد عليا ) التابعة للقطاع الخاص: 229 ، في حين نجد في القطاع العام: 192؛
  • مؤسسات التكوين المهنـي: القطاع الخاص 581، القطاع العام 239؛
  •  مؤسسات التعليم الابتدائي: خاص 2779، عام 7667؛
  •  مؤسسات التعليم الثانوي الإعدادي: خاص  1214، عام 1927؛
  • مؤسسات الثانوي التأهيلـي: خاص 654، عام 1162 ( أمام زحف التعليم الخاص التعليم العام في مهب الريح، أنوال بريس، 6 يناير 2017)

 

        تَغوّلت المدرسة الخصوصية إذن، وتَجبّر أربابُها، حدّ الوقاحة والطمع المتوحش، مما دفعهم إلى مدِّ الأيادي طالبين نصيبهم من الصندوق المخصص لتدبير جائحة كورونا، في حين أن المجتمع كله يحصــي ضحاياه من المصابين  وبينما العالم كله مصاب بشلل شبه تام.   

        هذه وبدون لغة خشب وإشارات، وبعيدا عن خطاب الطمأنة، نتائج السياسات النيولبرالية الرامية إلى تحرير هذا القطاع وجعله تربة خصبة للاستثمارات الخاصة، فـي سوق فيه الربح مضمون. كيف لا و الكل بحاجة إلى تدريس أبنائهم لضمان مستقبلهم ولتمكينهم من تسلق السُّلمِ الاجتماعي. هذه نتائج بارديغم:  ادفع تتعلم. ادفع أكثر تتعلم أفضل (؟؟) الذي تم تبنيه في قطاع التربية والتعليم، والذي استوجب بالضرورة رفع أيدي الدولة عن هذا القطاع بالتخلي تدريجيا عن مبدأ المركزية (الأكاديميات الجهوية)، وخلق نوع من السيولة والمرونة في صفوف الشغيلة التعليمية (سد الخصاص، مشروع 10000 إطار، فصل التوظيف عن التكوين، التعليم بالعقدة)، وتحويل التعليم من حق دستوري لكل الأفراد، تكفله الدولة وتُموِّلُهُ من المال العام، إلى سلعة خاضعة لمنطق السوق، ولقانون العرض والطلب. 

 

التعليم عن بعد في زمن كورونا

        من بين أُولَى التدابير الوقائية التــي اتخذتها الدول لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد، كانت هـي إغلاق المدارس والجامعات والمعاهد العليا، بحكم أن هذه الفضاءات تحوي أعدادا كبيرة من الأطفال والشباب، قد يؤدي تفشـي الوباء في صفوفهم إلــى نقل العدوى إلى كل أطياف المجتمع، وبالتالي عدم القدرة على وضع حد لانتشاره الذي كان يمكن أن يكون أسرع وأخطر. 

    أُغلِقت الفضاءات التربوية وطُلبَ من المتعلمين والطلبة المكوث فـي بيوتهم، وللحفاظ على السيرورة  البيداغوجية، كان لابد من إيجاد حلول تمكن التلاميذ والطلبة من متابعة دروسهم وهم فـي المنزل (على حد قول من قدم هذا النمط من التعليم في هذه الظرفية). غاية نبيلة، إذا كان الهدف الوحيد والأوحد منها هو مصلحة هذه الفئة المرادُ تكوينها وتربيتها وإعدادها لخوض غمار للمستقبل. 

    فـي المغرب، توقفت الدراسة، فبادر جل الأساتذة إلى تقديم الدروس، كل حسب قدراته، وبوسائلهم الخاصة، وفـي شتــى المنابر: مسطحات، صفحات الفايسبوك، مجموعات واتساب…  فخرج العديد من القائمين على قطاع التربية والتعليم، يقدِّمون التعليم عن بعد على أنه أنجع حل، وأفضل وسيلة للحيلولة دون هدر الزمن المدرسي، وعدم إرباك إيقاع التعلم، فتوالت الوصلات الإشهارية بسرعة البرق، وكأنها محضرة سلفا فـي انتظار الكارثة لتنزيلها، لتخرج الوزارة ببلاغ أثار الكثير من الجدل، من حيث شكله ومضمونه، وتلته بلاغات أخرى تطالب الأساتذة بتكوين أقسام افتراضية، عبر تقنيةٍ قليلون هم من سمعوا عنها من قبل. 

 

        والحال أن هذا النوع من التعليم، ليس جديدا ولا هو بالقرار الارتجالي، كما نعته البعض، بل هو أساس من أسس المدرسة النيولبرالية المُراد تأسيسها منذ سنوات، وتحديدا سنة 2002، مع انعقاد أول ملتقى وطنـي لهذا النوع من التعليم، والذي شاركت فيه 380 مؤسسة وشركة مغربية، أكدت جميعها أن هذا النوع من التعليم رهانها الأساسـي، ليس حبا فـي التعليم، بطبيعة الحال،  من حيث أهميته بالنسبة للمجتمع، بل لأنه سوق خصبة هامش الربح فيها مضمون، إذ تعدى 54 مليار دولار سنة 2000 (بلغت أرباح الجامعات التابعة ل Motorola ; Reebok ; Phonix 50 مليار دولار سنة 2010). 

        التعليم عن بعد ليس تدبيرا استثنائيا فرضه واقع الأحوال في ظل جائحة كورونا؛ إنه أساس من أسس المدرسة النيولبرالية المراد بناؤها على حساب المدرسة العمومية، وبالتالي فإن النقاش حول التعليم عن بعد يجب أولا أن يبدأ من مشاكل التعليم العمومي في شموليتها، بعيدا عن خطاب سميناه أعلاه خطاب الطمأنة الذي لا تتغير فيه سوى المصطلحات و ناطقيها. بناءُ مدرسةٍ، لا تلبيةً لرغبةٍ اجتماعية ملحة، ولا إنصاتا لإرادة العارفين بالقطاع، الغيورين على المدرسة والوطن، وإنما تلبية لإملاءاتٍ خارجية من طرف من له ربح في خوصصة قطاع التعليم سواء أكان مستثمرا أجنبيا، أم محليا. 

        وفـــي هـذا الصدد، لابد من الإشارة إلــى أن الـبنـــك العــالمـــي، هـــيــــأ الـــعديد مــن الـــدراسات الموجهة للمستثمرين، لـــتسهيل تدبـــيــــر المؤسسات الـــتــعـــليـــمـــية فــــي دول الجنوب، دراسات تصل إلـى كـل الجوانب، من أنظمة التشغيل فـي القطاع، إلى المقررات مرورا بالتعليم عن بعد وما إلى ذلك من كل مناحي حقل التعليم.  يتكلف المُمَوّنون وشركاؤهم، كشركة Sun Microsystème فـي تهيئة هذه الدراسات، شركات تمتد قبضتها لتؤثر على مصائر شعوب بأكملهاـ يقول السيد Jhon Gage، أحد الأطر العليا بهذه الشركة، متحدثنا عن هذه الأخيرة: ” يتم عند  Sunتشغيل موظفينا عبر الحاسوب، يعملون على الحاسوب، ويُسَرّحون عبره.”

فهل التعليم عن بعد يهدف إلى ما ذكرناه سلفا أي تربية النشأ، أم أن الأمر يتعلق بأهداف أخرى بعيدة كل البعد عن مصلحة التلميذ؟ 

تعليمٌ عن بُعد أم بعدٌ عن التعليم؟

 

        كما أسلفنا الذكر، 54 مليار دولار، هي أرباح  “شركات” التعليم عبر الانترنيت سنة 2000، رقم ضخم طبعا، لكن إرادة مُلّاك هذا النوع من المقاولات، هــي الرفع من هذه الأرباح عبر توسيع ونشر هذا النوع من التعليم على أوسع نطاق. الهاجس إذن هاجس اقتصادي (براغماتـي) بامتياز، فلا مصلحة تعلو فوق الربح في ظل اقتصاد السوق. 

    هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من تمحيص انعكاسات التعليم عن بعد بيداغوجيا واجتماعيا. 

لقد وضّح العديد من علماء التربية (أنظر كتاب Où va l’éducation ?، لبياجيه) وضحوا أن هذا النوع من التعليم يُضفـي الطابع الميكانيكـي على العملية التعليمية التعلُمية، وبالتالـي تستحيل في ظله إمكانية التفاعل الوجدانـي والتواصل المباشر بين المدرس والمتعلم، وفي هذا تغييب لأدوارهما الهامة (التواصل والتفاعل) فـي تكوين شخصية الطفل والمراهق. فالعملية التربوية لا يمكن اختزالها فقط في نقل للمعارف بطريقة ميكانيكية، وكأن الهدف الوحيد من هذه العملية ليس هو تربية الإنسان (مع كل ما يحمله مفهوم التربية من تعقيدات)، وإنما أتْمَتَة هذا الأخير (automatisation de l’être humain). 

 

        إضافة إلى ذلك يكرس هذا التعليم الهواجس الفردانية المتوحشة، ضدا فـي قيمتـي العمل الجماعي والتضامن، اللتين تنبنـي عليهما جل الفلسفات ذات النزعة الإنسانية، وكل الأديان السماوية وغير السماوية. يجعل هذا النوع من التعليم المتعلمين منعزلين بعضهم عن بعض، كل واحد أمام شاشته، وكأنه فـي جزيرة معزولة عن باقي الجزر، يستقبل سيلا من المعارف المتعددة، وعيناه لا تفارقا شاشة حاسوبه أو هاتفة الذكي (إن وُجد).  نعتبر تطوير الكفايات المنهجية كأحد الأهداف البعيدة المدى، والتـي تستدعي سنوات لتطويرها، فكيف إذن يمكن لمتعلم في طور تعلم هذه الكفايات أن يتعامل مع هذا التغــيــير المفاجــئ المباغت ؟   

 

        بالإضافة إلى ما سبق ذكره حول مساوئ (التعليم) عن بعد، لا بد من التركيز على التفاوتات الطبقية التـي يزيد من حدتها ويحافظ على استمراريتها. كم عدد المتعلمين الذين يملكون الوسائل التكنولوجية؟ هل يستطيع المياومون توفير هذه الوسائل لأبنائهم عٍلما أنهم يشتغلون ليلا نهارا فقط من أجل توفير قوتهم اليومــي؟ أليس هذا النوع من التعليم موجها نحو قلة قادرة على توفير هذه الوسائل لأبنائها وربطها بشبكة الانترنيت؟  كلها أسئلة يجيب عنها الواقع بلا نفاق اجتماعي وبدون تزيين للكلام.

        صحيح أن المدرسة في المجتمع البورجوازي، كما عرفها ميشيل فوكو، هــي مؤسسة “لإعادة إنتاج التفاوتات المجتمعية”، يعنـي أنها وسيلة للانتقاء الطبقي،  حيث مصير الطفل يحدد سلفا، لا انطلاقا من كفاياته وقدراته، وإنما من أملاك والديه، ورواتبهم، صحيح هذه الأمر، في الحالات الطبيعية كما في الأزمات، لكن، هنا في المغرب، يعمق هذا التعليم (وغيره) من حدة هذه التفاوتات الموجودة أصلا بطريقة مهولة، بل ويزيد، في هذه الظرفية الاستثنائية، من توثر المتعلمين والمتعلمات، فهم بين مطرقة وسندان، بين الخوف من فيروس مجهري قاتل، يتربص بالقاصي والداني، و سباق محتدم للحصول على نقطة  قد تحدد مستقبل الشاب أو الطفل، سباق يستحوذ على كوكبته مَن أَوجَدَ له وَلِيُ أمره لذلك سبيلا. 

كورونا: بعض الدروس

    وصل العالم إلى حافة الهاوية، ثارت الطبيعة ثورة هوجاء فأرسلت عدوا غير مرئي إسمه كورونا. فانشغل العالم أجمع، بمواجهة هذا العدو الخفي؛ تركت الجيوش غزواتها، ومن كان يطمح لغزو القمر أصبح شغله الشاغل ماء وصابون. عرّت كورونا واقع دول كنا نظنّها عظيمة، فتراءت لنا هشة لا حول لها ولا قوة أمام كائن مجهري. عرت الجائحة واقع الدول؛ خدمات صحية هشة، ومصحات خاصة عنوانها مرّ من الرّفاهية إلـى اللاجدوى. هذا حال العالم، حال الدول التــي لطالما اعتبرناها قدوة ونموذجا. أولم يحن الوقت لنبنـي نموذجا لأنفسنا؟          

إن الدرس الذي يجب أن تعلمنا إياه جائحة كورونا، هو – قبل كل شـيء- أن نكون صريحين مع أنفسنا، وأن نجرأ على الاعتراف بفشلنا في قطاع يعتبر العصب الحسـي للمجتمعات، صمام الأمان للشعوب، وقنطرة التقدم والازدهار. ما يجب أن نستخلص من جائحة كورونا، التـي سنجتازها كما اجتزنا غيرها، هو أن سياسة حجب الشمس بالغربال لا تجدي نفعا بل تزيد الطينة بلة علـى بلة. فلو كانت مدرستنا مدرسة قوية، لما سمعنا وكلنا تعجب وفزع أصوات المتشددين يكفرون الدولة والمجتمع، فقط لأن المساجد أُغلِقت حفاظا على سلامة المصلين أولا والمجتمع ثانيا، ولا رأينا الناس تتعامل مع الوباء باستهتار وتحدي، وكأنهم مسلحون بمختبرات ولوجيستيك الصين، ولما وجدنا صعوبة في إقناع الناس بالمكوث في بيوتهم حماية لأنفسهم وللمجتمع. إن أهم درس يجب استخلاصه من تجربة الوباء، هو ضرورة الإنصات للإرادة الشعبية وإعادة هيكلة المدرسة الخادمة للمجتمع، لتكون قادرة على مواكبة روح العصر، وذلك بتكوين البشر الحاملين لمشاريع وجودية ومجتمعية، مسلحين بالفكر النقدي البناء، والمتشبعين بالقيم الإنسانية الكونية.  

        فالمدرسة فضاء لبناء الإنسان، وبناء الإنسان بناءٌ للمجتمع، وهذا البناء لا يتم إلا إذا كان نابعا من إرادة سياسية شعبية حقيقية، وسياسيين متصالحين مع الواقع، يمحصون اختلالاته، ويخططون لمعالجتها، إذ لا مصالح خاصة لهم سوى مصلحة الوطن. في المدرسة يُبنـى الإنسان القادر على التصرف الخيِّر في مثل محنة كرورنا، إنسان أخلاقــي يعي معنـى قيمة إنسانيته. المدرسة لا يجب أن تكون، كما هي الآن، فضاء لتأهيل النشأ لصراع متوحش، مقنع، في حرب الكل ضد الكل، تحت شعار ” من سيربح أكثر؟”  حرب ” تتحول فيها الحياة إلى عملية ركض متواصلة، ينسحق فيها، تحت أقدام الحشود من يقف لالتقاط أنفاسه” (كارل ماركس). 

 

     

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...