“رد على مغالطات الفايد ومريديه”

تحية طيبة للعارف العالم الفايد.

أما بعد.

أعلم أنك ترفض مسبقا محاورة كل مجهول الهوية وتشترط فيها الدقة والثبات. فكيف ستقبل إذن هذا الحوار المتواضع من شخص متيم بأحد الأبيات الشعرية للرائع محمود درويش يقول فيها: ” الهوية بنت الولادة لكنها في النهاية إبداع صاحبها لا وراثة ماض. أنا المتعدد… ” والمعجب حد الثمالة بجوهر فلسفة البراكسيس التي تجعل من الإنسان ليس هو ما هو إنما هو ما ليس هو.

تفاعلا مع خرجاتك الإعلامية الأخيرة، لم نجد من بدا أن نغض الطرف على بعض انزلاقاتك وأخطائك العلمية والمنهجية، وما كنا لنناقشك لولا خطورة ما تسوق من أفكار على صحة المواطنات والمواطنين، ربما تتضافر دوافع عدة لترمي بك إلى ما أنت عليه اليوم، فأرجو أن يتسع صدرك وتقبل منا هذه الملاحظات.

ولئن لم نكن من أهل الاختصاص، بما تحمله هذه اللفظة من معنى، حتى نناقشك في أمور علمية دقيقة غير أن خرجاتك الإعلامية غير المحسوبة التي نصبت فيها نفسك أميرا على العلم وعلى حقائقه إلى درجة يصح عليك بالحرف ما قاله نيتشه في كتابه (إنسان مفرط في إنسانيته): ” لا ينبغي أن نتكلم إلا حينما لا نستطيع الصمت”.. فعملا بهذه الحكمة العظيمة لا يسعنا إلا أن نتكلم، وأن نتكلم بموضوعية وعلمية لا أن نطلق الكلام على عواهنه كما يزخر بذلك خطابك.

وإذ نُكِنُّ لك فائق التقدير بصفتك باحثا في علوم التغذية والزراعة، وقد نستفيد من بعض أبحاثك حول فوائد النبات والخضر والفواكه لعلاج هذا الداء أو ذاك.. وهذا لا ينكره إلا جاحد ولا يبغضه إلا حاقد. بيد أنك يا صاحبي لم تعمل بالحكمة النيتشوية السابقة وتلتزم الصمت حينما يتعلق الأمر بمواضيع حقول معرفية لا تقل تعقيدا وصعوبة عن تخصصك المعرفي، وتقي نفسك أولا وتقينا ثانيا شر هذه الضجة الإعلامية في وقت يجب فيه أن نسدد حيث يجب أم أن في خرجاتك شيء من حتى ؟؟؟؟؟

فمن أخلاقيات البحث العلمي الإيمان بالنسبية؛ فمن أين استقيت هذه العنجهية والوثوقية وقد سولت لك شواهدك الجامعية وأبحاثك الأكاديمية؟؟، هذا إنْ سلمنا طبعا بمصداقيتها العلمية وجِدَّتها النظرية لتهاجم أنت ومريدوك كل من يخالفكم الرأي، وبالكاد أن تقذفوا الناس بأبشع النعوت وأقبح الصفات، وبدل هذا الانحطاط كان بوسعكم أن تحاججوا مخالفيكم الفكرة بالفكرة ؟

تجرنا هذه الأسئلة، طوعا، إلى رصد وتحليل فوائد خطاب الفايد إن كانت فيه من فوائد!! :

أولا: مغالطتا: البروكرستية الفايدية و الأنثروبومورفية

تشير مغالطة البروكرستية إلى سرير بروكرست المعروف في الميثولوجيا اليونانية بقاطع الطريق الذي يأخذ ضحاياه ويدعوها إلى النوم على سريره فإذا كانت الضحية أطول من السرير فإن بروكرست يبثر جزءً من جسدها حتى تتطابق مع طول السرير أما إذا كانت أقصرَ منه فإنه يقوم بتمديد رجليها حتى تتلاءم معه. فالشاهد في الأسطورة المسرودة هو خطورة إخضاع الأفكار والأشياء للقوالب الجاهزة والجامدة وتنميط الفكر حتى يصير جامدا ومتكيفا مع الشكل، وتسخير المرء للإيمان بمعتقدات قبلية. وهذا ما يتضح في سعي الفايد ومريديه وهم في أغلبهم من أنصار الإسلام السياسي، ويستمدون معظم تفسيراتهم لجائحة كورونا من منبع ديني ميتافيزيقي؛ دون أن يستثمروا منجزات الفكر الإنساني ومكتسبات علومه الدقيقة. فلا يجدون أدنى حرج في أن يعتبروا الجائحة غضبا إلهيا، و أنها جند من جنود الله، أي أن الله قد أنزل الفيروس على الصينيين لما ارتكبوه من مجازر وحشية في حق مسلمي الروهينغا ببورما، فضيق تفكير العارف ومريديه لم يتريثوا أسابيع قليلة ولا تدبروا تطور الفيروس، ففي أيام قليلة قبل عمَّ الوباء البلدان والعباد وجاء على الأخضر واليابس وانفضحت سخافات التحليل والتفسير وانكشفت عورة المنطق الأعوج الذي يلبس للطبيعة أفعال ومقاصد بشرية (سفسطة الأنثروبومورفية: أنسنة غير الإنسان) فاعتقدوا، بأن كينونة الجائحة محكومة بمعيار الخير والشر في زمن ومكان معينين… إن الطبيعة لا تفكر و لا تغضب

وإذ كان من الصواب أن تدفعهم هذه المفارقات إلى إعادة النظر في المتناقضات التي تعري تأويلاتهم الفاسدة، وإذ كان من الأجدى أن يسايروا انشغال الأمم الأخرى في لجوئهم للعلم عَلَّهم يوقفوا زحف كورونا، نلفيهم يستأنفون جهالتهم؛ فهَرْولوا للبحث في مختبراتهم التي صنعوها على مقاسات تفسيراتهم، إلى وصفات لا تقل سخافة عما قلنا سابقا (القرفة، بول البعير ….) وهذا المواد لا نجد لها أثرا سوى في جغرافية دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وكأن موطن الفيروس في قارة وشفاؤه في جغرافية تؤمن بديانة من الديانات. والأَمرُّ في أقاويلهم رفض إنجازات العلم ومكتسباته، فلا حياء، ويا سبحان الله، أن يرفضوا رفضا قاطعا التطورات العلمية لجهاز الكشف بالصدى (السكانير ).

لا يخفى علينا أن أهم القناعات التي أصبحت مترسخة في أذهان العديد من المغاربة هو اعتبار الطب أحد السبل الرئيسية لمواجهة المخاطر الطبيعية فهو ذلك الامتداد المادي لما هو عضوي في الإنسان، حيث يستطيع من خلاله سد ثغرات الطبيعة والتجاوز النسبي لنقص وضعف الكائن البشري؛ قناعات أعادت الاعتبار للعلم وللمؤمنين به بدل الفقهاء والمشعوذين، وأعادت الاعتبار للأطباء والعلماء بدل المخرفين والمخربقين. إن هذه الحقائق التي استوعبها الرأي العام في وقت وجيز، أضعفت وقوضت، بلا شك، المرجعية الفكرية والإيديولوجية التي تتكئ عليها هذه الكائنات البليدة فأدركوا تمام الإدراك تراجع وظيفتهم الايديولوجية..

ولغباء تفكيرهم كان من المفروض أن يعيدوا النظر في بعض مسلماتهم الفكرية درءا للانفضاح والتجاوز، بيد أنهم آثروا الغوغاء على النقد أو على الأقل الصمت، فخروجهم جماعات في مدن مختلفة في اليوم الثاني من الحجر الصحي للتهليل والتكبير ظنا منهم أن البلاء سيرفع خير دليل على الجهل المتفشي في المريدين وأمرائهم. فكان خروجهم زلة أكثر من خطأ، فقد أرادوا أن ينبهوا المغاربة والنخبة إلى أنهم لا يزال بإمكانهم أن يقدموا حلولا لكل المعضلات تأتي على مقاس السرير.. وبالمقابل يُشَيْطِنُون (الشيطنة) دعاة العلم والمعرفة بمسميات متنوعة (الحداثة، العولمة، العلمانية، الماركسية، الغرب..)، ويحثون أنصارهم بعدم الانجرار وراء خطابات على غير مقاساتهم، ويشككون في العلم وتقنياته فهي بدعة وكل بدعة ظلالة وكل ضلالة في النار…فيا له من جهاز مناعة إيديولوجي قوي.

ثانيا: مغالطة التعميم المتسرع

إن المتأمل ولو قليلا في خطاب البارع والمتقي الفايد سيتكشف له منذ الوهلة الأولى أنه سريع التعميم والإطلاقية، حيث يضع نفسه في موقف لا يحسد عليه، ولعل هذا ما يذكرنا بمأساة الديك الرومي الذي جاء به صاحبه إلى ضيعته فبدأ يطعمه على الساعة التاسعة صباحا وكعادة الاستقرائي المستقيم والنجيب تريث الديك في استنتاج قانون عام حتى يسجل ما يكفيه من المعطيات في شروط وظروف مختلفة ومتنوعة (أيام الصيف والشتاء والمناسبات والأعياد…)، وفي اليوم الذي عزم فيه الديك أن يستخلص بناءاً على مجموع معطياته قانونا عاما مفاده “أن سيدي يطعمني دائما على الساعة التاسعة صباحا ” صادف ذلك اليوم عيد ميلاد صاحب الديك وقرر احتفالا بهذا اليوم قطع رأس الديك… ولعل هذا ما يدفعنا إلى التساؤل فيما إذا كان الفايد العالم في حقل علوم التغذية والزراعة قد كلف نفسه يوما ما عناء التعرف على بعض أبجديات الدرس الابستيمولوجي المعاصر وأن يسائل نفسه عن طرق وكيفيات اشتغال العلم ومعايير مصداقية نظرياته، إن هذه الأسئلة النابعة من عمق القضايا العلمية لا نشم لها رائحة في خطابه، وربما هذا ما أسقطه حيث لا يدري في معضلة الاستقراء وأعجزه عن صعوبة إن لم نقول استحالة التبرير المنطقي لتلك النقلة من عدة حالات جزئية للإبل التي لا تقتات على النجاسة إلى قانون عام مؤداه أن كل الإبل لا تقتات من النجاسة . ويمكننا التعبير عنها بصيغة المنطق الحملي المعاصر وفق ما يأتي: بالنسبة لأي شيء إذا كان هذا الشيء إبلا فإن هذا الشيء لا يقتات بالضرورة من النجاسة: كل (س) ك (س) شرط نفي ل (س) , لكنه نسي أو تناسى أن توفر حالة واحدة لإبل لا ينطبق عليه قانونه السابق يكذب نظريته والحال أن مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بصور لبعض الإبل تلتهم ما تيسر من مأكولات وفضلات المزابل .. فوظيفة التجربة يا سيدي العالم هي التكذيب وليس التصديق في هذا الصدد يقول كارل بوبر “إن آلاف الحالات الجزئية لا تبرر صدق قضية عامة وحالة جزئية واحدة تكذب قضية عامة ”

ثالثا: مغالطتا تجاهل المطلوب ( الحيد عن المسألة) والحجة الشخصية (الشخصنة)

يسقط المحاجج الفايد في مغالطة تجاهل المطلوب عندما لا يملك القدرة على الوصول إلى النتيجة المطلوبة أثناء التدليل عليها، فيلجأ بدل ذلك إلى تعويضها بنتيجة أخرى من صنع مخيلته نظرا لقدرة مثل هذه الأفكار على خلق الحماس في صفوف المستمعين إليه وتوجيه أنظارهم بعيدا عن التناظر السليم والادعاء الأصلي.. إذ لاحظ الجميع في خضم هذا السجال الدائر بين أنصار السيد الفايد وخصومه أن أنصاره بدل أن يحاججوا الادعاء القائل بأن هذا الطبيب قد ارتكب أخطاء علمية ومنهجية في تفسيراته لجائحة كورونا وغيرها يشرعون في الهجوم على معارضيهم بحجج بعيدة عن موضوع السجال فتجدهم بارعين في إطلاق نعوت وتسميات جاهزة لكل من سولت له نفسه انتقاد أفكار هذا الرجل وكأننا أمام كوجيطو مبتذل:

أنت تنتقد أفكار الفايد إذن أنت إما:

• علماني متطرف؛

• أو يساري ملحد؛

• أو ليبرالي كافر؛

• أو مثلي جنسيا.

يكمن جوهر مشكلة هؤلاء في، فكرة المطابقة، فلكي تكون صالحا ينبغي أن تكون مطابقا لتصوراتهم وأذواقهم وأحلامهم، وخروجك عن تفكير القطيع بدعة ومُروق، فهم ينطلقون من اعتقاد مرضي يسفه ويحرم كل إسهامات الفكر البشري من فلسفة وعلوم وأدب وفن وجدت لسبب واحد هو الشك في عقيدتهم وإبعادهم عنها. فإذا كنت مولعا بمسرودات حنا مينة، نجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، وإذا تروقك قصائد المتنبي، درويش.. غير ذلك من الفنون والآداب، وإذا طربت أذناك لأنغام فيروز و مارسيل خليفة وآخرون… فأنت في اعتقادهم تفعل ذلك تنفيذا لمؤامرة ماسونية ضد معتقداتهم (لا تستغربوا إن أخبرتكم أن أحد هؤلاء صادف تلميذة تحمل رواية لحنا مينة فأخدها منها قسرا ولما سئل عن فعلته الشنعة أجابهم بعنجهية وثقة في النفس بأنني لم أسرقها وإنما احتجزتها وكأننا لازلنا نعيش لحظة القرون الوسطى إذ يكفي أن يخبر شخص ما رجال الكنيسة بأنك تملك كتابا لغاليلي غاليليو بمنزلك حتى يكون مصيرك القتل أو الاعتقال)

قال أحد العظماء “لو كانت البديهيات العلمية تصطدم مع مصالح الناس لعملوا على دحضها”، فمن المفارقات المضحكة المبكية تجد الفايد ومن معه ينتقدون الغرب ( بمبكر صوت رفيع صنع بالضفة الأخرى وبلباس عصري غربي أنيق ) ، انتقادا شديدا، فلو وجدوا له قوة لتخلصوا منه دفعة واحدة. فهُمْ لا يميزون بين الغرب ككيان رأسمالي توسعي ارتكب مجازر تاريخية في حق المستعمرات وكرَّس التبعية ودأب على استنزاف خيراتها فينتقدون سياساته الغاشمة ويناضلون لأجل إسقاطها. وبين الغرب باعتباره كيانا ذا ثقافة وفلسفة وأدب وتقنية وعلوم نستوردها في الأعم لندرسها لتلامذتنا في مناهجنا التعيلمية. فالصواب أن نتحاور مع إنجازات العلوم والفلسفة والفكر الغربي لا أن نقضي عليه بدر الرماد على العيون أو بستر أنفسنا عما حققوه، وعلينا أن نستفيد منهم كما استفادوا منا ذات عصور؛ حينما ترجم كتب ابن رشد في المنطق والفلسفة وكتب ابن سينا في الطب وكتب ابن الهيثم في البصريات….. فالغرب وإن كان ينعم بخيراته وابتكاراته.. فإنه لا يرفض البتَّةَ محاورة الآخر في منجزاته . . .

فأن تخالف أفكار السيد الفايد العلمية وتنتقد أخطاءه المنهجية لا يفترض بالضرورة أن تكون ملحدا أو علمانيا أو يساريا أو ليبراليا أو غربيا.. كل ما يقتضيه المقام أن تنصب نفسك معترضا ومسائلا لفكرة المدعي

رابعا: مغالطة الخبير

يرتكب مُدّعِي الفوائد الفايد سفسطة الخبير حينما ينصب نفسه مدافعا عن فكرة تخرج عن نطاق تخصصه. إن إحدى التحولات التي عرفها العصر الحديث على مستوى طبيعة المعرفة البشرية هو الانتقال من المفكر الموسوعي إلى المفكر المتخصص؛ حيث لم يَعُد ممكنا اليوم الحديث عمن كانوا يسمون بالأمس البعيد بالموسوعيين: كأرسطو الذي كتب في المنطق و الميتافيزيقا و السياسة والأخلاق والنفس والنبات والحيوان… إذ أضحى التخصص في عصر السرعة والشساعة و في زمن العلمي والتقني والدقة الدقيقة جدا غير ممكن، فلننصت بتمعن لكلام هذا المجرب والعارف بمكنونات التخصص ” أن تكون طبيبا لا يكفي لتتكلم في تفاصيل مرض الملاريا مثلا بل يجب أن تكون أخصائيا في الأمراض التعفنية.. بل أخصائيا في علوم الأمراض التعفنية الاستوائية.. بل أخصائيا في ” البلازموديوم ” وهو الطفيلي الذي يسبب المرض بل ربما أخصائيا في تشريح البعوضة التي تنقل المرض” … إن هذه الدقة لم يستشعرها هذا العالم بكل العلوم الفايد وهذا ما لم يستصغه فنَصَّب نفسه أميرا لكافة العلوم وللموسوعية. فيجيب حيثما سألته؛ فهو على دراية جامعة مانعة بكل ما يخص صحة الجسد بل ما يخص الإنسان في جل أبعاده المركبة والمعقدة. فلو عاد صاحبنا إلى تواضع العلماء العرب لكان له أفضل؛ فقديما لم يكن لأحد من علمائنا أن يجيز لنفسه الحديث فيما لا يجيده ولا يُحْكمه ؛ فحتى المشتهرون منهم بكثرة التصنيف في العلوم وقد استمدوا من ذلك مناهجهم وتصوراتهم، فإنهم يفصحون دون أدنى تحرج بما يجهلونه، ونأخذ مثالا من أولئك الإمام السيوطي( ق10 ) وهو الذي أجاد في التصنيف في معظم علوم القرآن(جمعا وتصنيفا) لا يتحرج البتة من الاعتراف بما يجهله منها أو لا يتقنه، يقول في هذا: ” وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني؛ وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاولُ جَبلا أحملَهُ”.

بخلاف مولانا الفايد فقد نظر في العلمانية وقضاياها، واجتهد أيما اجتهاد في تفسير سرقة الأحذية من أبواب المساجد، وتدبر ثنائية الشرق / الغرب فجاءه الوحي ليلا وأفتاه علينا نهارا؛ أن أمتنا تأخرت لأنها اعتمدت على الطب الغربي وتناست أن أعشابنا وخضرنا داء لكل دواء فلا حاجة للمريض بزيارة الطبيب أو إجراء الفحص. فالسكانير صناعة غربية وفتنة خطيرة علينا رفضها كما ترفض حبوب منع الحمل لأنها قتل النفس بغير حق. بالإضافة إلى حديثه عن وباء كورونا وتقسيمه الثلاثي الغريب للحالات الأكثر تعرضا للإصابة به عَلاوة على تنبئه باندثار فيروس كورونا بحلول شهر رمضان، في وقت الذي لازال العالم بأسره حتى الساعة عاجزا عن تقديم تفسير دقيق أو إيجاد لقاح نهائي له وأن أقصى ما ينصح به لحدود الآن هو النظافة وملازمة البيوت واحترام الحجر الصحي. زِدْ على هذا دعوته مرضى السكري والسرطان والقلب إلى صيام رمضان دون خوف على سلامتهم وصحتهم في غياب تام لأي دراسة علمية تؤكد هذا الزعم.

خامسا: مغالطة السبب الزائف (أخد ما ليس بعلة علة)

تمثل الحقيقة الرهان الأساسي لكل معرفة بشرية فالإنسان يميل بطبعه إلى إدراك أسباب الظواهر والعلل المتحكمة في حدوثها إلا أن هذا المسعى قد يأخذ طابعا خرافيا لا يفسر الطبيعة بالطبيعة وإنما يفسرها بما وراء الطبيعة ( قوى متعالية ) كأن يفسر الفراعنة القدماء حدوث فيضانات نهر النيل بخطيئة شخص ما ويعتقدون أن توقف هذه الفيضانات رهين بتقديم أجمل فتياتهم قربانا لها مثل هذه الطريقة الخرافية في التفكير نجد لها امتدادا في بعض خرجات السيد الفايد إذ يصرح بعظمة لسانه أن انتشار ظاهرة سرقة الأحذية من المساجد ناتجة عن مؤامرة غربية لتشويه سمعة الإسلام ..

خلاصة:

تأسيسا على ما تقدم أود أن أشير إلى أن هذه المغالطات والسفسطات والانزلاقات وأساليب التضليل والتدليس لا تقتصر على الفايد وحده في مجال الطب والعلم، بل نجدها حاضرة في كل الحقول المعرفية، فمن منا لا يتذكر تلك الشطحات التي كانت يزعجنا بها بنكيران من داخل قبة البرلمان، ومن منا أيضا لا يتذكر شطحات زملائه في ممارساتهم السياسية أو حتى في خرجاتهم الإعلامية. هذا الأمر الذي يفرض علينا ضرورة دراسة هذه المغالطات حتى نتزود بكفايات أثبت الراهن أمسّ حاجتنا إليها؛ كفايات التحليل والتمحيص والنقد الفكري. وهي الكفيلة بالتقدم ودحض الخرافات التي مات زمنها وانقضى.

فلا أجد ما يمكن أن أنهي به هذا الحوار المتواضع أفضل من هذا النص المقتطف من كتب أحد المتخصصين في المنطق غير الصوري والحجاج المعاصر لعادل مصطفى.

“دراسة المغالطات المنطقية ينبغي أن تكون جزءًا من التعليم الأساسي، وجزءًا من برامجنا الثقافية، وحتى الترفيهية، على جميع الوسائط؛ وينبغي أن نجندَ لها كل المرافق التربوية وكل المنابر الإعلامية. الفراغُ الفلسفي والمنطقي هو أفتَكُ ضروبِ الفراغ؛ لأن الدماغ البشري يبغض الفراغ، ويبحث عما يملؤه، وفي غياب المناخ التنويري الصحي فإن «الخرافة» هي أسرع ما يملأ هذا الفراغ، العقولُ الفارغةُ الكسولة الموقوفة النمو، ربيبة عقودِ الفساد والتجهيل المنظم، تستمرئُ الخرافة وتستزيدها؛ لأنها تقدِّم لها أجوبةً سهلةً على الأسئلة الصعبة، ولا تُجشِّمها جهدًا يُذكر لاستيعاب هذه الأجوبة، ها هو خبزنا اليومي: مصادراتٌ صفيقةٌ على المطلوب، تفكير دائري يفسر الماء بالماء، احتكام إلى سلطةٍ مزعومة سرقت صولجان السلطة في غفلةٍ من الزمن، احتكام إلى الأغلبية ولو كانت الأغلبية غُثاءً كغثاء السيل، هجوم شخصي رقيعٌ يؤذي الشخص ولا يَمَس حجتَه، تحويل المخالِفين إلى دُمى من القش، تَلَفُّعٌ بالرايات واحتماء بالقطيع وانضمام إلى الزفة، تلويح بالعصا (أفشل أداةٍ للإقناع وأفشل مفتاح للعقل والقلب) تَمَحُّل أمثلةٍ مؤيدة وغض الطرف عن تلال الأمثلة المفندة، تلفيق البيانات وملأ الثغرات ولَيُّ أعناق النصوص وإكراهها على البغاء!

لقد أصبحت تربية التفكير النقدي ضرورة بقاء لنا جميعًا؛ لأن الجهل الذي عشَّش في دارنا عقودًا وباض وأفرخَ وطاب له المُقام لن يتركنا بسهولة ولن يفارقنا طوعًا، وها هو التفكير البدائي الضيق يهز قاربنا بعنفٍ ويهدد وحدتَنا ويوشك أن يُودي بالجميع، الأمن الحقيقي في مثل هذه القلاقل الناجمة عن عللٍ «عقلية» غائرة إنما هو أمنٌ «عقلي» بالدرجة الأساس، أمنٌ فلسفي، أمنٌ منطقي!




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...