في مقهى كوفيد، بشارع كورونا: لقاء لويس باستور بأبي الطيب المتنبي.

 

من تداعيات زمن كورونا، ظهور دعوات للتوجه مغربيا نحو البحث العلمي، وجعله من الأولويات عبر تخصيص الموارد و الشروط الكفيلة بأن يحقق هذا البحث إنجازات تضمن للبلد اكتفاء ذاتيا، و أساسا – بحكم خصوصية اللحظة التاريخية- في مجال الطب والصناعات الموازية له.

إنها دعوة في وزن مرافعة لا يمكن إلا الانخراط فيها، و العمل على أن تتحقق شروط هذا المطلب الحيوي ، خاصة وقد أكدت الأيام أن المعيقات مادية، وأن القدرة الابتكارية الوطنية متوفرة داخل البلد كما خارجه.

لكن، – و ما أخطر الناسخ لكن-، هذا الطموح المشروع، سرعان ما أفسدت نشوة الإجماع عليه، خرجات راديكالية ، ظاهرها الرحمة، و باطنها العذاب، حيث تعالت بعض الأصوات ، تردد شعارات من قبيل:

– لا حاجة للمغرب بالرياضة ولا الثقافة ولا الفنون، و….و….

– المغرب لا يحتاج إلا للمهن التي هي حقا الآن في واجهة مواجهة الجائحة.

في تقديري المتواضع ، إن شعارات بهذا المضمون، تريد -بقصد أو بدونه- أن تخلق شرخا في منظومة المجتمع، إذ أنها توهم – خاصة صغار العقول- أن معضلة البلاد في العلوم الإنسانية والفنون، و ألوان التعبير والأداء المهاراتي الجسماني، و…، و…

وإذا كان الأمر هكذا ، فقد وجب أن نتبادل التعازي بيننا في رحيل الفقيد *التوازن الإجباري بين العلوم الحقة وغيرها من الإنتاجات الإنسانية *.

وهنا لابد من التساؤل – الإنكاري طبعا- لعلنا نبلغ بيت القصيد، فنقول :
– هل كانت حضارة الإغريق أن تقوم بتلك العظمة وتخلد مأثوراتها، بوجود * أبي قراط * و تلامذتة ، دون أن يكون في المقابل أفلاطون و سقراط ، و….؟

الحضارة العربية الإسلامية ، هل كان لها أن تسود زمنا مديدا، دون * ابن سينا* و ابن النفيس و الإدريسي و* البيروني*، و… و… ، و بناة الأرواح ك *المتنبي و *زرياب *و *ابن رشد *، و…، و…؟

  • النهضة الأوروبية منذ القرن الخامس عشر، – التي بمنطلقاتها يدار العالم اليوم- ، ألم تجمع في مزيج سحري بديع بين گاليلي ، و * راسين*، و وشكسبير و ” مونتسكيو و ماركس ، و *اينشتاين*، و… و…؟
  • حضارات آسيا القديمة ، التي أنتجت اليوم ، مدنية أخرى ، من خلال نماذج الصين واليابان وكوريا … و…، ألم تقم في ماضيها السحيق إلا على زواج وثيق بين منتوجات المادة، و إبداعات التفلسف و الآداب و الفنون و…؟
  • هل يمكن القول إن الآخرين ، تقدموا لأنهم شيدوا المستشفيات والمختبرات و أنتجوا اللقاحات والأدوية، و رضوا بذلك دون غيره ؟

الجواب هو أن أعرق الحضارات وأقواها ، هي التي وفرت للناس كل شروط العيش المادي، لكن ، – وها هي لكن تعود ثانية- ، في تناغم مع إشباع معرفي إبداعي ، عقائدي …، وهذا الإشباع هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويصنع المواطن المؤهل لابتكار ماهو مادي، وبالتالي استثماره و تطويره وحمايته من عوامل الإصابة بالضعف و ربما الزوال .

إن المعضلة ليست في الثقافة والفنون والإعلام والرياضة و.. و…، و إنما في بعض تمظهرات هاته المجالات، حيث اختلط الحابل بالنابل، و سادت الرداءة واستأثرت بالواجهات، و توارت الجودة والجمالية إلى الخلف، فحدث أن تسيدت التفاهة، وانزوت الحكمة، واستأسدت ثقافة البوز السخيفة، فترجل فرسان بديع الكلام والمقامات والأنغام والمشاهد البليغة، والمصنفات الدقيقة ، و…

ويزداد الوضع تعقيدا، حين نعلم أن البعض من الذين يدعون إلى القطع مع العلوم الإنسانية و الفنون و…، هم من ساهموا ب * اللايكات* Like في تشييد الصروح الرملية وبروز نجوم الوهم التي ظنوا عبثا، أنها المالكة لأدوات بناء الإنسان فكرا وإحساسا وتفاعلا مع الوجود.

والآن في هاته اللحظة الفارقة، يكتشف هؤلاء * اللايكيون* أن تلك الصروح قد شيدت على شفا جرف هار، و لم يكن أمامهم -للأسف العميق- إلا الدعوة إلى إحراق الأصول ، بدل سحب النسخ الزائفة ، مع العلم أن الزمن كفيل بتطهير نفسه بمطهراته و معقماته الخاصة.

والأمل الآن أن تفتح هزات كورونا البصائر قبل الأبصار، على أن رحلة الوجود لا يمكن أن تكون ذات معنى ، إلا بعقل سليم في جسم سليم، رحلة تقتضي أن يسير في دروبها علي الصقلي… و العربي بنمبارك و… و أرمسترونغ و… و * فيكتور هيگو* و… و الطيب الصديقي و… و عبدالله العروي… و محمود درويش … و كوبرنيك و گاگارين و مايكل جاكسون …و طوماس هودجكن و جيمس بركنسون و توماس أديسون

أعتذر، لقد تأخرت على السيدين *أبي الطيب المتنبي*، و *لويس باستور*، إنهما ينتظران فنجاني القهوة التي تعودا رشفها يوميا في هاته المقهى.

* كاتب مسرحي

ملفات تادلة 24




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...