خلف العفو الملكي الأخير عن أزيد من 5600 سجين ردود أفعال كثيرة أغلبها من الحقوقيين والنشطاء، الذين استنكروا واستفسروا عن سبب عدم تمتيع معتقلي حراك الريف بالعفو الأخير حماية لهم في زمن جائحة لا ترحم، ومن أجل جبر خاطر الريف المكسور، وفتح صفحة جديدة مع هذه المنطقة التي ما تكاد تندمل جراحها حتى تنكأ على طول التاريخ الممتد للمغرب.
’’كيدرتي ليها؟‘‘ سؤال استنكاري مشحون بالاحساس بالقهر طرحته سيدة في بث مباشر عبر موقع فايسبوك، بدموع تنهمر، وهي تشهر يدا مبتورة بعد أن فوجئت بالشخص الذي بتر يدها يطرق بابها بعد أن غادر السجن بعفو ملكي.
السؤال نفسه أصبح وسما (هاشتاغ)، على مواقع التواصل الاجتماعي، جلب فيديو فتاة من إقليم الجديدة هي بدورها تتحدث عن صدمتها بعد العفو عن شخص قتل أمها وذبح جدتها ثم مغادرته لأسوار السجن بعد خمس سنوات بعد أن كان محكوما بـ 15 سنة، ظهرت الفتاة تغالب دموعها وتتساءل بدورها كيف حدث ما حدث؟
ولم يكن الحقوقيون والسياسيون وأصحاب الرأي وحدهم من طرح أو تبنى السؤال الاستنكاري أعلاه، بل انضم مواطنون لا يبدون اهتماما بالسياسة ومتاعبها وملاعبها، خصوصا بعد بلاغ وزارة العدل الذي افترض كاتبوه أنه يقدم توضيحات مقنعة تبرر أن يفاجأ ضحايا بأشخاص قلبوا حيواتهم رأسا على عقب وهم يتجولون بحرية وأمان قبل أن يقضوا مدد عقوباتهم وقبل أن يتوصل الضحايا بما حكمت لهم المحكمة من تعويضات مادية عن الضرر.
المثير للاهتمام في هذه الدفعة أكثر من غيرها هو أن السؤال الاستنكاري موجه مباشرة للملك، السيدة التي بترت يدها توجهت إليه بالقول ’’كيدرتي ليها ا محمد السادس؟‘‘ قبل أن تضيف ’’محمد السادس ظلمني‘‘ وهذه جملة قاسية وجرأة وراءها إحساس عميق بـ’’الحكرة‘‘.
وليس من عادة المواطنين الذين لا يغمسون خبزهم في شاي أو حليب السياسة – ولا عسلها – أن ينتقدوا الملك – على الأقل علانية – لكن أحداثا تمر تنطق صمتهم وتدفعهم للخروج عن تحفظهم أو حيطتهم، مثل ما حصل في العفو عن دانيال كالفان مغتصب 11 طفلا بمدينة القنيطرة.
لقد وضع العفو عن كالفان، صيف سنة 2013، الملك وجها لوجه أمام جماهير غاضبة ورافضة لقراره، ومرت أيام عصيبة على القصر استقبل فيها الملك عائلات الأطفال الضحايا، وفتح تحقيق في قمع أول مظاهرة احتجاجية على العفو، لم تصدر نتائجه إلى اليوم، وأعفي مدير مديرية السجون، وصدرت 3 بلاغات حاول من خلالها الديوان الملكي تهدئة الجماهير الغاضبة والمحافظة على رصيده لدى من طفح غيظهم ورغم ذلك لم يخرجوا للشوارع.
ويفترض أن حادثة العفو عن مغتصب أطفال القنيطرة فتحت أعين القائمين على الأمر إلى حساسية الموضوع وضرورة تجنب زلة كتلك مرة أخرى، لكن ما حدث مؤخرا لم يعد إلى الأذهان الجرح القديم فقط، بل كشف أيضا ألا شيء تغير وأكثر من ذلك أثبت أن المشكل في الأصل هو مشكل مأسسة ممارسة العفو والشفافية فيها.
يؤطر العفو الملكي بظهير شريف رقم 1- 57 – 387، ويحدد الظهير من يحق له طلبه والنتائج القانونية المترتبة عليه، كما أوكل إلى لجنة حدد تركيبتها برئاسة وزير العدل دراسة ملتمسات العفو وإبداء رأيها ورفعها إلى الديوان الملكي للبت فيها. فأين المشكل؟
يواجه العفو الملكي – وهو حق متعارف عليه لكل رؤساء الدول – مشكلين أساسيين، أولهما أن تفاصيل هذه العملية ومساطرها غامضة غير محددة المعالم، لا يعرف أسرارها سوى أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد لوائح المقترح استفادتهم من العفو، وثانيهما عدم وضوح المعايير والأهداف التي يتم اعتمادها من أجل البت في الأمر.
إن وضوح المساطر وشفافية المعايير هي حق للمجتمع الذي سيستقبل الأشخاص الذين قرر أن يضعهم خلف القضبان لخطرهم أو لعدم قدرته على ضبط وتقويم سلوكاتهم، هذا ما يفترض أن يحدث في دولة تحترم نفسها، عليها أن توضح للمجتمع الهدف النبيل من إطلاق سراح أشخاص قرر سجنهم مددا معينة من أجل تحسين سلوكهم وإعادة تأهيلهم، وهو المجتمع الذي من المفترض أن يستقبلهم ويحتضنهم ويفتح لهم أبواب الاندماج والمشاركة.
وكانت حركة أنفاس الديمقراطية وجمعية آفاق للديمقراطية (كابديما) ، قد اقترحتا. مشروع قانون للعفو الملكي يحدد المعايير المتعلقة بالعفو، من بين أهم ما جاء فيه توسيع الجهات التي يحق لها طلب العفو لتشمل الجمعيات ذات المصلحة العامة وتحديد شروط طلب والحصول على العفو.
واقترح المشروع الحزم في جرائم لا يمنح فيها العفو ولا يمكن طلبه إثرها كالانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي والجرائم المرتكبة ضد قاصر دون سن 18 عاما، والتي تنطوي على استخدام العنف أو التهديد، أو الاعتداء الجنسي، أو التي تنطوي على إهماله أو اختطافه، أو تميل إلى منع تحديد هويته أو تهدد سلامته المعنوية أو البدنية.
كما اقترح المشروع ألا يشمل العفو الملكي الاحكام مع وقف التنفيذ والاحكام المتعلقة بجرائم مرتكبة في حالة عود قانوني و الاحكام المتعلقة بالاعتداءات بالعنف مرتكبة في حالة عود قانوني . من أجل حاجيات هذا القانون، تعتبر كذلك منطوية على اعتداء بالعنف الجرائم الخارقة لقانون الأسلحة والذخائر والمتفجرات.
لا أحد ينكر أن الحالات التي طفح الكيل بضحاياها، وجعلتهم يطلقون دموعهم شاهدة على الغبن والقهر، لا تقارن بالكم الهائل من الذين صمت ضحاياهم أو سامحوا أو غفروا، لكن هذا ليس مبررا أن يستمر الأمر على هذا النحو، حيث أن الملك بصفته رئيس الدولة يفترض أن يبقى الممثل الأسمى لمطامح الشعب والمدافع عن مصالحه.
ولا ينكر أحد، كذلك، أن كل مكونات المشهد السياسي رغم تباعد وتباين وحتى تناقض مواقعها ومواقفها وصلت إلى قناعة وإجماع أن استمرار اعتقال نشطاء حراك الريف هو ضرب من القهر الذي لا طائل منه، بل يتجه ليكون عائقا حقيقيا في القادم من الأيام في إضفاء أية شرعية على أية خطوة قادمة تدعي السير إلى الأمام.
لقد عاشت قلوب مئات الأمهات في الريف الانكسار على مدى ثلاث سنوات، وتعلقت أفئدتهم بحبال واهنة لكنها ظلت في كل مناسبة تستنبت الأمل، وإن كانت من مصلحة للشعب في أي عفو فهي إطلاق سراح هؤلاء الشباب بشكل عاجل، لأن الشعب هو من سيدفع كلفة التأخير مثلما دفعها عن سنوات أعلن فيها الرصاص حكمه وغلبته، وإن كان من هدف يحقق للمجتمع فهي استعادة أبنائه الذين يفتح ذراعيه منذ اعتقالهم أملا في احتضانهم وتضميد جرحهم.
في نهاية القرن التاسع عشر، وقف فيكتور هوغو على منصة الشيوخ يطرح قانونا للعفو عن الكومونيين (من كومونة باريس) ومما جاء في خطابه ’’أيها السادة، يعتبر النسيان في لغة السياسية غفرانا. وأنا أطالب بالعفو العام، أطالب به كاملا مكمولا، بدون شروط، بإلغاء القيود سيكون العفو عفوا ، النسيان وحده يجعل المسامحة ممكنة، والعفو لا يعطى بجرعات. وللذي يسأل ما هو قدر العفو المطلوب؟، نقول له كأنك تسأل: كم عدد الجرعات الضرورية للتعافي؟ نجيب: لا بد من الجرعات كاملة، يجب أن تندمل كل الجراح، يجب إطفاء الكراهية كلها‘‘.