مغرب ’’ما بعد كورونا‘‘ المستبد (افتتاحية العدد 438 من ملفات تادلة الورقية)

  – هيئة التحرير –

يوشك أسبوعان، منذ إعلان حالة الطوارئ الصحية في البلاد، على الانقضاء، في ظل ارتفاع ملحوظ في وتيرة عدد الحالات المؤكدة التي يتم تسجيلها يوميا والتي تجاوزت مائة حالة بتاريخ 29 مارس 2020، وارتفاع في عدد الوفيات، وهو رقم سيخلف هلعا لدى المواطنين الذين تنادوا من أجل التنفيذ الصارم للابتعاد الاجتماعي، وهو هلع مبرر بالنظر لغياب الوضوح وعدم تمكينهم من المعلومات الكافية، فالمؤتمرات الصحافية اليومية لوزارة الصحة أقرب إلى تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما النشرات الإخبارية لا تضيف شيئا جوهريا يطمئن الناس.

وإن كان من المبكر الخروج بدروس وخلاصات بشأن ما تمر به البلاد في مواجهة الجائحة التي تعم العالم، بسبب شح المعلومات من جهة، والحاجة إلى دراسات علمية رصينة من جهة أخرى، فإنه من الممكن تسجيل ملاحظات مهمة لا يمكن إغفالها، وترتبط أساسا بالوسائل والأدوات التي تستخدم من أجل العبور الآمن ما أمكن من هذه الظرفية الصعبة.

من الملاحظ أن الدولة في تطبيقها لحالة الطوارئ الصحية اعتمدت على البنية القديمة من أجل إجبار الناس في عدد مهم من المدن، خصوصا، على الالتزام بحظر التجول، شاهدنا في الفترة الأخيرة كيف أصبح ’’القياد‘‘ و’’الشيوخ‘‘ و’’المقدمين‘‘ يتصدرون المشهد من أجل فرض الالتزام، بينما ظهور الجيش وحتى الشرطة كان أشبه بعرض اعلامي.

وبينما كشف الوضع الطارئ كم الهشاشة الاقتصادية، بشكل خاص، ونقص الوعي لدى الناس (بشكل عام) بدا أن السلطة لم يكن أمامها سوى الاعتماد على هذه البنية، وهي المتاحة والفعالة، من أجل جعل الناس يعودون إلى منازلهم، لم يكن أمام الدولة سوى لعب ورقة ’’الخوف‘‘ (من المرض أو من رجال ونساء السلطة) وهو ما يطرح أسئلة كثيرة عن عقود ’’التحديث‘‘ و’’الحداثة‘‘ التي مرت، وغني عن القول أن دروس التاريخ علمتنا أن نتائج الخوف والقهر تبقى دائمآ غير مضمونة وغير متحكم فيها والدليل هو ما نعيشه اليوم.

ومع انقضاء شهر مارس، يكون قد انقضى اسبوعان من توقيف الدراسة، وأكدت الوزارة في بلاغ التوقيف أن الأمر لا يتعلق بعطلة بل سيتم تعويض الدروس الحضورية بدروس عن بعد، وعلى الأرجح أن ما كان متحكما في عقل الوزارة، إضافة إلى خطر الجائحة، هو تدبير الزمن المدرسي، وبدا أنها تقدم الأمر بشكل بديهي عبر الحديث عن المسطحات والمنصات الرقمية والقنوات الفضائية.

ويجب التنويه، هنا، بالمجهودات الجبارة للأساتذة الذين يبذلون مجهودا مضاعفا من أجل إعداد الدروس بإمكانياتهم وأدواتهم الخاصة، ليكافأوا بتجميد الترقيات وإلغاء التوظيف، لكن واقع الأمر يقول أن التلاميذ والطلبة لم يدرسوا شيئا، وفضلا عن كون المادة التعليمية لم يشرع في إنتاجها إلا بعد أسبوع فإن أغلب التلاميذ لازالوا ضائعين ولم يتمكنوا حتى من العثور على المنصات المذكورة إضافة إلى رقم مسار والقن السري، هذا دون الحديث عن تلاميذ العالم القروي والتلاميذ المنحدرين من أوساط فقيرة الذين يعد الأنترنيت بالنسبة لهم مجرد ترف ليس إلا.

مرة أخرى يواجه قرار التعليم عن بعد مشكل بنية عتيقة بعيدة عن التحديث. على مدى عقود ظلت الدولة تنظر إلى التعليم كعبء مالي فقط تحتاج إلى تخفيفه كلما سنحت الفرصة، وتلقى كل مخططاتها في هذا المجال انتقادات لا حصر لها، والملاحظ أن التعليم في المغرب كان دوما ضحية التوازنات المالية، بينما يبدو أننا أخلفنا الموعد مع البحث العلمي الذي هو طوق نجاة البشرية الآن، في الوقت الذي هجرتنا مئات الأدمغة بحثا مصير ارحم، وكممت أفواه حتى لا تصدح بالحق.

يمكننا الجزم بأن التعليم تم إفراغه، إن لم نقل تدميره، وأن الأداة الوحيدة التي ظلت فاعلة إلى حد ما هي العنصر البشري، هذا الأخير الذي سيتعرض مع قرار التعاقد لضربة تعمق هشاشة تعليمنا. لقد تخلت الدولة تماما عن الاستثمار في التعليم، وتركت بنياته تتآكل وكل برامج التحديث (الرقمنة) لم تكن سوى صفقات محظوظين أومجرد استهلاك إعلامي.

ويعم التخوف من عدم قدرة النظام الصحي على الصمود إن تطور الأمر قليلا، يتابع العالم كيف يتهاوى النظام الصحي في إيطاليا وإسبانيا، كما نتابع الضغط الذي تعيشه فرنسا وأمريكا التي تصدرت فجأة قائمة الدول بعدد المصابين وفي وقت وجيز.

يدرك القائمون على الأمر التهديد الذي تواجهه البنية الصحية في المغرب، وهو قطاع كان ينظر إليه بدوره كثقل على كاهل الميزانية العامة، ولعل أبسط مثال يمكن أن نضربه، هو وضع عمال وعاملات النظافة الذين يعتبرهم علماء الفيروسات خط الدفاع الأول، هذا الخندق الذي يقبع فيه أشخاص عرضة لاستغلال الشركات الخاصة، فضلا عن أن أعدادا كبيرة منهم تشتكي من هضم حقوقها ومن عدم توصلها برواتبها منذ أشهر.

التقشف الذي طبقته الدولة على قطاع الصحة يبدو واضحا في العدد الهزيل لأسرة الإنعاش ويتجلى في قلة وسائل الحماية للأطباء والممرضين، وفي غياب الأجهزة المطلوبة لتقديم الخدمة في الظروف العادية، دون الحديث عن المشاكل الهيكلية للقطاع والتي حولته إلى ما يشبه مجرد ’’مزار‘‘ بالنسبة للفقراء الذين لا يقدرون على كلفة العلاج في القطاع الخاص.

إن أول العراقيل التي واجهت فرض حالة الطوارئ الصحية هو الوضع المعيشي للناس، حالة وضعت مئات الآلاف من معيلي الأسر في مواجهة الخوف من تأمين الطعام لأسرهم، وهو وضع كشف حجم التغطية الاجتماعية التي كانت على الدوام محور حديث المسؤولين، فحين قررت الدولة الاعتماد على بطاقة الضمان الاجتماعي من أجل تعويض فاقدي الشغل واجهت واقعا مختلفا، ومن المؤكد أن قرارها باعتماد لوائح المسجلين في نظام ’’راميد‘‘ بدوره سيواجه غضبا ومشاكل وسيكون عليها تعديل معاييرها مرة أخرى من أجل تعميم التعويضات، وعلى الأرجح سيكون ’’المقدمون‘‘ و’’الشيوخ‘‘ هم الفاعل الأساسي في من سيتلقى تعويضا أم لا.

يسجل للدولة القيام بخطوات استباقية، وهي خطوات يجب تثمينها والحرص على تنفيذها، ويمكن القول أنها خطوات وإن تأخر بعضها قليلا كان من الممكن إلى حد بعيد أن تجعل البلاد بمأمن من منطقة الخطر، لكن البنيات التي عليها تفعيلها، خصوصا التي سلف ذكرها، تعاني وضعا يؤرق الجميع.

ويساهم انتشار الشائعات والأخبار المزيفة في تعقيد العمل على تدبير هذه المرحلة، وإن كانت السلطات تعمل بجد لمحاربة هذا الأمر، فإنه يستهلك طاقة ومجهودات يمكن أن توجه لمهام أخرى، ومن جانب آخر فإن انتشار الأخبار الكاذبة وفبركتها مؤشر على غياب المعلومة الصحيحة والدقيقة، وهو يطرح أكثر من كونه حقا، ضرورة ملحة في هذه المواجهة، ولن يكون من الممكن التقدم بغير الوضوح وتمكين الناس من المعطيات وإعطاء الكلمة للمختصين ليوضحوا للناس.

لن نختلف على القول أن ما يواجهه المغرب في هذا الظرف الصعب هو القرارات التي اتخذت على مدى عقود، وكل ما يمكنه فعله الآن هو تدبير المرحلة بحسن استخدام الإمكانات المتاحة وتعزيز الشفافية على كل المستويات، وأولها تدبير الصندوق المخصص للحد من آثار الأزمة على الفقراء بشكل خاص، وإن كانت المرحلة ستضع كل الخطوات على المحك، فإن العنوان الأبرز بعد تجاوز هذا الوضع هو أنه آن الأوان لتضع الدولة يدها على الصحة والتعليم وتجعلهما قاطرة لنموذجها التنموي، من جانب حقوق الناس في الخدمة العمومية، ومن جهة جاهزية الوطن لكل ما من شأنه..

في ظل هذه الظرفية ارتفعت أصوات تنبه إلى تصاعد السلطوية، في المغرب أيضا يخشى أن مغرب ما بعد ’’كورونا المستجد‘‘، سيصبح مغرب ’’ما بعد كورونا‘‘ المستبد، فقد راهنت الدولة طويلا على خوف الناس لتعزز سلطويتها، والخوف ليس رادع الفقراء وحدهم، فقد كشف التهافت على المساهمة في الصندوق المحدث لمواجهة الجائحة، خوف الأغنياء بدورهم، فمن جهة جاء قرار إحداث الصندوق من الملك شخصيا، والملك في زمن الجوائح الغابرة هو السلطان، ولا مجال للامتناع عن مباركة قراره، لكنه خوف أيضا من الهلاك، فلا خلاص اليوم إلا الخلاص الجماعي بعد أن كشر الوباء عن أنيابه في البلاد التي يمكن الهروب إليها، وأصبحت خيارات النجاة أفضل داخل الوطن. وبينما بدا للبعض من هذه الفئة أن الفرصة مواتية للاستفادة من ريع هذا الصندوق، نطرح سؤالا عريضا، إلى أي مدى يؤمنون بالوطن بعيدا عن المصلحة الضيقة؟

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...