كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة -عبر حلقات- الحلقة السابعة عشر- إعداد الأستاذ‎ عبد الرحيم قروي

الحلقة السابعة عشر

فعقوبة الإفساد في الأرض تختص بالأموال وليس الفروج، وهي عقوبة محددة في كل جزئية فيها ولها من الشروط ما لا ينطبق على هذه القضية بحال، والنتيجة ببساطة أن القانون الحالي يعاقب على جرائم يعسر على الشريعة أن تعاقب عليها، وبعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة، ليس لعجز فيها، معاذ الله، بل لقصور من يتناولنها من هواة وصف القوانين الوضعية بالمخالفة لروح الإسلام، والإصرار على التوقف أمام ظاهر النص لا جوهره، هؤلاء الذين ترتعد فرائصهم حين نطالبهم بالتأسي بعمر، وبالاجتهاد كما اجتهد، وبتعطيل ظاهر النص إن كان تطبيقه مستحيلاً أو كان من الممكن بالقوانين السائدة مواجهة الجريمة والعقاب عليها واستئصالها إن أمكن، وهو الهدف النهائي للإسلام، والجوهر الحقيقي لروحه بل إني أتحداهم في هدوء، وأعلن لهم أنني لن أكتب حرفاً بعد ذلك إن خسرت التحدي، والحكم بيني وبينهم للقراء . 

أقول لهم : أمامكم في سجلات القضاء قضايا للزنا وملفات للآداب تعود إلى نصف قرن، ادرسوها جميعاً وابحثوها جميعاً، واعطوني مثالاً واحد لقضية واحدة يمكن أن يطبق فيها حد الزنا، وبالطبع فلا عبرة هنا بالاعتراف، لأن الاعتراف مقترن بالعقوبة المحدودة في القوانين السارية، ولو تقررت عقوبة الرجم لما اعترف رجل أو امرأة بالزنا وهذه بديهية لا يختلف حولها أحد، والعبرة كل العبرة، بتوافر الشروط والحد … 

أعطوني قضية واحدة شهد فيها أربعة .. 

ورأى فيها الأربعة الميل في المكحلة، أو الرشاء في البئر… ولا ضير في مزيد من التحدي الهادئ … أجيبوني بعد الدرس والمراجعة والبحث عن سؤال أكثر بساطة وهو : ألا تعاقب القوانين الوضيعة على ما لا تطوله الشريعة في هذا المجال في ظل شروطها القاسية بل والمستحيلة ؟. 

أجيبوني من أين أتيتم بمقولة أن المجتمع يبيح الزنا ويدعو إليه ويحث عليه ويعفو عنه ؟ بينما المجتمع يطول بقوانينه المتجددة ما لا يطوله اجتهادهم القاصر، إن كان ثمة اجتهاداً أصلاً، ويحفظ للمجتمع حقوقه وهو عين ما يسعى الإسلام إليه، ويصل بعقوبة هتك العرض، وهي ليست الزنا بالضرورة، إلى الحكم بالإعدام ؟. 

وماذا يضيركم إذا أثبت المشرع واقعة الزنا في القوانين الحالية( بالمكاتيب ) أو ( بوجود غريب في المكان المخصص لنوم الحريم في البيوت المسلمة )، أليس هذا أقرب إلى إمكانية إثبات الواقعة من شهود الميل ( المرود ) والرشاء ( الحبل ( بفتح الحاء وسكون الباء ) ؟ 
وماذا يفزعكم في إعطاء القوانين الحالية للزوج حق إقامة الدعوى أو عدم إقامتها، أليس في هذا حفظ لسمعة البيوت وأسرار الأسر وستر للعورات، ودرء للحدود بالستر ؟، وهب أن زوجاً علم ثم عفا، قبولاً منه لنوبة الزوجة، أو حفاظاً منه على سمعة أولاده وبناته في مدارسهم أو مجتمعاتهم، أليس هذا أقرب إلى روح الإسلام من فضح الزوجة وتدمير سمعة الأولاد وإنهاء مستقبل البنات وسمعتهن إلى الأبد ؟ 

أم أن الإسلام لا يكون إسلاماً في عرفكم إلا إذا جلد وفضح ورجم ودمر، وتنكرونه إذا عفا وتسامح وستر، ثم لماذا لا تتفقون على كلمة سواء كان قبل أن تواجهونا بالعموميات، والشعارات، الاتهامات، فالأسئلة عديدة وليس هذا مجالها، لأننا لسنا بصدد بحث فقهي، ومثالها التساؤل حول علاقة السنة بالقرآن، وإمكانية نسخ السنة لنص قرآني ثابت في أحد الحدود، وهذا كله يفتح باباً واسعاً للاجتهاد، وللنقاش، وهو على كل الأحوال لا يفتح نافذة واحدة للتشكيك في الإيمان أو الحكم بالكفر أو الاتهام في العقيدة، وما كان أغناني عن هذا الحديث. 

لولا أنني مؤمن بأن الإسلام على مفترق طرق، وأنه لابد سائر إلى حيث يريد الله الرحمة لعباده، والانتصار لإسلامه والاستمرار لعقيدته، وأن الإسلام لن يضار بالمتعصبين إلا إلى حين، ولن يختلف بالجامدين إلا إلى حين، ولن يشارك في الحياة أبداً بالمرتعدين عن قصور في الفهم أو عجز في الاجتهاد أو جمود في التفكير، وأننا في حاجة إلى أن نقبل على الحياة بالإسلام، لا أن نهوى عليها بالإسلام، وأننا في حاجة إلى أن نحافظ على الإسلام العقيدة، لا أن نكتفي بحفظ الإسلام النصوص، وأننا في حاجة إلى أن نخترق الحياة بالإسلام، لا أن نخترق الحياة بالإسلام، والإسلام بحمد الله أقرب إلى الحياة من يبتعدون عنها بالقول، وينهلون منها بالفعل، ويحلمون بها طوع بنانهم بالحكم، ويفزعونها ويفزعون إليها بخلط أوراق الدين بالسياسة، والسياسة بالدين، والعنف بالموعظة، والموعظة بالطمع، والطمع بالمزايدة، والمزايدة بشراء الذمم، وأبواب شراء الذمم في حياتنا شتى، فقد عرفنا في السنوات الأخيرة مناصب المستشارين للبنوك ( الإسلامية )، والشركات ( الإسلامية )، ورحلات الشتاء والصيف للدول ( الإسلامية )، للتعرف على مسار التجربة ( الإسلامية )، وللحصول على بعض الأموال الزكاة لتوزيعها على ( المسلمين ) في مصر، أو إنفاقها على أمور الدعوة ( الإسلامية ). 

ونحن في هذا لا نتحدث من فراغ، أو عن هين من المال أو يسير، ودليلنا نأخذه من ألسنتهم، فقد صرح حافظ سلامة للصحف بأنه جمع لبناء مسجد النور مليون ونصف مليون جنيه من تبرعات ( المسلمين ) في الخليج في رحلة له إلى هناك لمدة أسبوع، واستنكر أحد كبار رجال الدعوة ما نشره الأهرام الاقتصادي عن أنه حصل على عشرين ألف دولار سنوياً كمكافأة استشارية وطالب بتصحيح ما نشر لأن المبلغ ثلاثون، وإذا أمطرت سماء ( الدعوة ) ألوفاً بالعشرات في الداخل، وبالمئات في الخارج، فلا جناح عليهم إن هاجمونا، ولا تـثريب عليهم إن كفرونا، ولا بأس عليهم إن قاتلونا، ولا غرابة إن خرج علينا بعض الساسة بالنقد تملقاً ومزايدة، ولو شئنا الاستطراد في هذا الباب لأفضنا، لكنا نشعر أننا أرهقنا القارئ وربما أصبناه بالملالة، فقد أطلنا في قراءتنا الجديدة للأوراق القديمة، ووجدنا أنها وثيقة الصلة بما نراه في أيامنا المعاصرة. 

ولعلنا نمسك عن الاستطراد على وعد بكتابات قادمة، نتحدث فيها عن الرشيد وما أدراك ما الرشيد، وعن المأمون وما أدراك ما المأمون، وعن المعتصم وما أدراك ما المعتصم، أما الواثق، وهو آخر خلفاء العصر العباسي الأول، فلا أحسب أنني أستطيع مع سيرته صبراً، ولا أحسب أن القارئ سوف ينسى بسهولة ما سأذكره عنه، فقد فتح باباً جديداً من أبواب الخلافة ( الإسلامية )، وسلك مسلكاً فريداً من مسالك الخلفاء أو أمراء المؤمنين، وخلد سيرته نثراً وشعراً، وحكم قرابة الست سنوات منتقلاً من غلام إلى غلام، ونعيدها حتى لا يشك القارئ في صحة ما ذكرناه أو يتصوره خطأ مطبعياً نقول : 

من غلام إلى غلام، فقد كان عاشقاً صباً للغلمان، ملكوا وجدانه، وأذابوا مشاعره تولهاً وصبابة، وكان منهم غلام ( مصري للأسف )، اسمه ( مُـهَج )، لعب بعواطف الواثق كما شاء، وتملك مشاعره وتلاعب بوجدانه كما يريد، إن رضى عنه استقامت أحوال الدولة واستقر شأن الحكم، وإن تدلل عليه أو صده فالويل كل الويل للمسلمين، والثبور وعظائم الأمور لمن يشاء حظه العاثر أن يلقي الواثق أو يقف أمامه أو يحتكم إليه. 

ولعل من يرددون دون وعي أو ملل، أن حضارة الغرب قد أباحت الشذوذ الجنسي، يتيهون الآن بأن دورنا لم يقتصر أبداً على النقل من الغرب، لأنه لو صح ما يدعون، وهو غير صحيح، لانعقدت لنا الريادة، وكان لنا قصب السبق دون شك، وهل لدى الغرب حاكم مثل الواثق، وهل في تاريخهم كله خادم مثل مهج، يخلب لب الخليفة، فيصرفه عن شئون الدنيا، ناهيك عن شئون الدين، فينصرف إليه، وتجود قريحته بالشعر عليه، فيردد على إيقاع أيدينا وهي تضرب كفاً بكف : 

مهج يملك المهج                  بسجي اللحظ والدعج 

حسن القد مخطف                    ذو دلال وذو غنج 

ليس للعين إن بدا                     عنه بالحظ منعرج 

( تاريخ الخلفاء للسيوطي.  ص342

ويعرف مهج قدر نفسه عند الخليفة الواثق، فيبتدره يوماً في الصباح ، وهو جالس بين حاشيته، ويمضي إليه متـثـنياً، منكسر النظرة، مترنح الخطوة، مترجرج الأعطاف، ويناوله ورداً ونرجساً، وتصور أنت أيها القارئ حال الواثق أمام كل هذا الهول، واعذره إن استخف به الطرب فنسى الحاشية والمجلس، وأنشد وعيناه ترنوان إلى مهج : 

حياك بالنرجس والورد          معتدل القامة والقد

فألهبت عيناه نار الهوى              وزاد في اللوعة والوجد

أملت بالملك له قربه                فصار ملكي سبب البعد

ورنحته سكرات الهوى               فمال بالوصل إلى الصد

إن سئل البذل ثنى عطفه               وأسبل الدمع على الخد

غر بما تجنيه ألحاظه               لا يعرف الإنجاز للوعد

مولى تشكي الظلم من عبده          فأنصفوا المولى من العبد 

ويا سبحان الله؛ ما أشعر الواثق وما أرق ألفاظه وما أدق وصفه للحظة العشق العظيم، حين يسيل دمع مهج علي خده، فلا يدري الواثق أهو دمع الهوى أم دمع الصد، وماله لا يفعل ذلك، وهو صاحب القد المعتدل، المترنح في خطوة بسكرات الهوى، ذلك الذي يعرف وصله من صده، الظالم لعبده ( خليفة المسلمين ) ذلك الذي يستنجد بالرعية أن تنصفه من مولاه ( مهج )، المغرور بسهام ألحاظه، المنكر للوعد دائماً، أما الوعد فيسير إدراكه على خيال القارئ، وعسير إدراكه على الأتقياء المصدقين للمتنادين بعودة الخلافة، الخالطين بين حلم رائع في خيالهم، بثـته عقيدة عظيمة، وبين حقيقة مفزعة تكشفها لهم صفحات التاريخ، وألحاظ مهج، وخلاعة الواثق، وفقه معاصريه من الجبناء وجبن معاصريه من الفقهاء . 
هذا عن مهج حين يرضى، فماذا عنه إن غضب .. يا ألطاف الله، حدث ذلك يوماً، حين فقد الواثق عقله فأغضب مهج، وفي اليوم التالي طار لب الواثق، وتعطلت مصالح الدولة، وخشي كبار الدولة أن يدخلوا على الواثق في حالته تلك، ولم يكن لأحد أن يتوقع خيراً إن لاقاه أو حاكاه، وأدرك الجميع أن السر لدى مهج، فدسوا عليه بعض الخدم ليسألوه فأجابهم ( والله إنه – يقصد الواثق – ليروم أن أكلمه من أمس ، فما أفعل ). 

يا للكارثة، ويا لصعوبة ما أعانيه بحثاً عن ألفاظ تليق بجلال الموقف ورهبته، وعذاب الواثق وغضبته، وقد نقل إليه حديث مهج فأنشد من جديد قائلاً : 

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا     ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا 

لولا الهوى لتجارينا على قدر    وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى   

ولحسن حظ مهج، وسوء حظ الطالبين بعودة الخلافة لم يفق الواثق أبداً، بيد أن البعض قد يتصور أن عمر خلافة الواثق قد ضاع على مهج وأمثاله، لكن ذلك لم يكن صحيحاً، فقد كان للواثق وجه آخر، يحلو له أن يخرج به على الرعية، ويبدو فيه حامياً لذمار العقيدة، ومناضلاً من أجل صحيح الدين، فقد انتصر للمعتزلة كما فعل والده المعتصم، الذي عذب ابن حنبل لقوله بأن القرآن ليس بمخلوق، ويروي عن الواثق أنه أحضر أحمد بن نصر الخزاعي أحد كبار رجال الحديث في التاريخ الإسلامي، من بغداد إلى سامرا، مقيداً في الأغلال، وسأله عن القرآن فقال : ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة فقال : كذا جاءت الرواية ( فثار الواثق ودعا بالسيف، وقال : إذا قمت فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد رباً لا نعبده، ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد ، فمشى إليه، فضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها وصلبت جثته في ( سر من رأى )، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل، فأنزله ودفنه ولما صلب كتبت ورقة علقت في أذنه، فيها : هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره ). 

وتأملوا معي التناقض بين حديث مهج وحديث الخزاعي، وفاضلوا بين مصير مهج ومصير الخزاعي، وقارنوا بين الواثق وبين كثيرين ممن نعرفهم ونسمع منهم، ونرى لهم كما رأينا للواثق وجهين لا صلة بينهما ولا رابطة، فهم يقضون ليلهم بين الكأس والندماء، وما أن يسفر الصبح حتى ينطلقوا إلى صفحات الصحف ومنتديات السياسة، ينادون بالتطبيق الفوري للشريعة، فإذا سألتهم ابتسموا، وأنكروا عليك جهلك بالسياسة وفعال الساسة، وكتموا في أنفسهم رأيهم فيك، وهو أنك غر حديث التجربة، لن تتعلم بعد كيف تتعامل مع الشارع المصري، فتقول شيئاً وتعني شيئاً ثانياً وتفعل شيئاً ثالثاً .. 

وإذا كان الواثق قد تألق في صولاته بين الغلمان، وإذا كان يستحق بجدارة أن يوصف في جولاته بأنه فارس الميدان، فإنه – إنصافاً له لم يكن فارس الميدان الوحيد ، فقد ذكرنا طرفاً عن التلوط في عهد الوليد بن يزيد، ولم نذكر شيئاً عن عهد الأمين( ابن الرشيد ) الذي ( ابتاع الخصيان وغالى بهم وصيرهم لخلوته ورفض النساء والجواري ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي –  ص301 )، وكما تعلق قلب الواثق بمهج تعلق قلب الأمين بكوثر، وقال بعض الشعراء عن عصره : 

أضاع الخلافة غش الوزير         وفسق الأمير وجهل المشير 

لواط الخليفة أعجوبة               وأعجب منه خلاق الوزير 

فهذا يدوس وهذا يداس             كذاك لعمري خلاف الأمور 

ولما هاجم المأمون الأمين، ( خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب، فأصابته رجمة في وجهه، فجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال : 

ضربوا قرة عيني         ومن أجلي ضربوه 

أخذ الله لقلبي               من إناس حرقوه 

ولم يقدر على زيادة فأحضر عبد الله التيمي الشاعر فقال له : قل عليهما، فقال : 

ما لمن أهوى شبيه فبه الدنيا تتيه 

وصله حلو ، ولكن هجره مر كريه 

من رأى الناس له الفضل عليهم حسدوه 

مثل ما قد حسد القائم بالملك أخوه 

فأوقر له ثلاثة بغال دراهم . وهكذا انشغل الأمين عن الحرب، وعن سقوط حكمه، بجرح حبيبه وخليله كوثر، ذي  الوصل الحلو، والصد المر، والهجر الكريه، وماله لا يفعل ذلك وهو قائل في وصف كوثر : 

ما يريد الناس من صب بما يهوى كثيب

كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي 

أعجز الناس الذي يلحي محبا في حبيب 

يا حبيبي !! يا أمير المؤمنين، ما أرقك وما أطيب وصلك، لولا أنها خلة تشين في أي عرف، ناهيك عن أي دين، ولولا أن عشق الغلمان، يقود إلى بنت الحان، وإلى الطرب بالألحان، وإلى القول بما نمسك عنه، ونفزع منه، غير أن رحمة الله قد وسعت الأمين في دنياه من باب آخر فلم تذكر لنا صفحات التاريخ أن فقيها أفتى بحل قتله، أو حرمة ما أتاه، أو إفك ما فعله، غاية ما في الأمر أنهم قالوا عنه شعراً بعد وفاته، ربما بعد تيقنهم من سيرة المأمون المختلفة، وإتيانه للأمور من قبل، واهتمامه بشئون الحكم وعمارة البلدان، وليس بالخمر والغناء والغلمان، فقالوا في الأمين غداة وفاته : 

لم نبكيك ؟ لماذا ؟ للطرب يا أبا موسى وترويج اللعب 

ولترك الخمس في أوقاتها حرصا منك على ماء العنب 

وشنيف أنا لا أبكي له وعلى كوثر لا أخشى العطب 

لم تكن تصلح للملك ولم تعطك الطاعة بالملك العرب 

وهكذا، أدرك الشعراء فقط بعد موت الأمين، أنه لم يكن يصلح، وتنادوا بأنه لم يبايع بالطاعة من العرب، على خلاف الحقيقة، وتذكروا أنه كان يترك الصلوات الخمس، وكان متفرغاً للطرب ولماء العنب، وليس هذا بغريب علينا، فحتى في عصرنا هذا لا يتذكر البعض مثالب الحكام إلا بعد وفاتهم، واستقرار الحكم لمن يليهم، ولعل القارئ يشاركني في أن حكامنا أرحم، فليس بين مستشاريهم كوثر أو شنيف، أو مهج أو وصيف، وليس في أقوالهم وصل للغلمان، أو وصف لبنت الحان، وليس في علاقتهم بوزرائهم والمشيرين عليهم ما شاب علاقة الخلفاء العباسيين بوزرائهم ومستشاريهم، ومعذرة لهذا القاموس الكريه، فإناء الخلافة ينضح على أوراقنا بما فيه، بل إن شئنا الدقة إناء العصر، ويكفينا أن نذكر أن الأمين كان متبعاً ولم يكن مبتدعاً.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...