كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة -عبر حلقات- الحلقة السادسة عشر- إعداد الأستاذ عبد الرحيم قروي
الحلقة السادسة عشر
أما في الفقه والطهارة فهناك : أبو حنيفة ومالك، والشافعي، وابن حنبل، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، وعمرو بن عبيد، وأبو يوسف ( الحنفي ) وأسد الكوفي ( الحنفي )، والزهري، وإبراهيم بن أدهم الزاهد، ونافع القارئ، وورش القارئ، وأبو معاوية الضرير، وسفيان بن عيينة، ومعروف الكرخي الزاهد، وعلي الرضي بن موسى الكاظم، وأحمد بن نصر الخزاعي، وغيرهم، أما الفسق والمجون فأبوابهما كثيرة، وفنونهما شتى، وهناك في البداية ما يمكن أن نسميه بالمناخ العام، وهو الإطار الذي يسمح بالفسق، ولا يستنكف المجون أو ما هو أكثر، فقد امتلأت عاصمة الخلافة بالحانات، وانتشر شرب الخمور والغناء في مجالس الرعية، ووجد الجميع مخرجاً طريفاً لما يفعلون، فقد اشتهر عن فقهاء الحجاز إباحة الغناء، واشتهر عن فقهاء العراق من أتباع أبي حنيفة إباحة الشراب، فجمعوا بين فتوى الفريقين، ولخصوا مذهبهم في قول الشاعر :
رأيه في السماع رأي حجازي وفي الشراب رأي أهل العراق أو في قول ابن الرومي : أباح العراقي النبيذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر وقال الحجازي: الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارق الوازر الوزر.
ولعل بعض القراء يندهشون، وربما يسمعون للمرة الأولى أن أبا حنيفة قد أباح أنواعاً من الخمور، بل ولعلي أصارحهم بأن فتوى أبي حنيفة قد أجابت على سؤال حائر كان يدور في داخلي وأنا أقرأ عن الشراب والمنادمة في مجالس الخلفاء : هل وصل بهم التحلل من قيود الدين، والخروج على قواعد الإسلام، أن يجاهروا بشرب الخمر في مجالسهم، دون أدنى قدر من الحفاظ على المظاهر أمام الرعية ؟
ولعل فيما عرضه الأستاذ أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام عن خلاف الفقهاء حول الخمر ورأي أبي حنيفة فيها ما يوضح الأمر للقارئ : (ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى سد الباب بتاتاً ، ففسروا الخمر في الآية السابقة بما يشمل جميع الأنبذة المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرها وقالوا كلها تسمى خمراً وكلها محرمة، أما الإمام أبو حنيفة ففسر الخمر في الآية بعصير العنب مستنداً إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر وأحاديث أخرى، وأدى به اجتهاده إلى تحليل بعض أنواع من الأنبذة كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ أدنى طبخ وشرب منه قدر لا يسكر، وكنوع يسمى ” الخليطين ” وهو أن يأخذ قدراً من تمر ومثله من زبيب فيضعهما في إناء ثم يصب عليهما الماء ويتركهما زمناً، وكذلك نبيذ العسل والتين، والبر والعسل.
ويظهر الإمام أبا حنيفة في هذا كان يتبع الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، فقد علمت من قبل أن ابن مسعود كان إمام مدرسة العراق، وعلمت مقدار الارتباط بين فقه ابي حنيفة وابن مسعود، ودليلنا على ذلك ما رواه صاحب العقد عن ابن مسعود من أنه : كان يرى حل النبيذ ، حتى كثرت الروايات عنه، وشهرت وأذيعت واتبعه عامة التابعين من الكوفيين وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم :
من ذا يحرم ماء المزن خالطه في جوف خابية ماء العناقيد ؟ إني لأكره تشديد الرواة لنافيه ويعجبني قول ابن مسعود ) كان ما سبق هو المناخ العام أو الأرضية الممهدة للغناء والشراب وما يرتبط بينهما من لهو وقيان وغلمان، أما اللهو فسمة العصر، وأما القيان ففارسهم المهدي وولده الرشيد ، وأما الغلمان ففتاهم الواثق ، وسوف يأتي حديث كل منهم في موضعه ، غير إنا نتوقف قليلاً أمام فتاوى الخمر السابقة متأملين، متعجبين من تشدد المعاصرين.
فالبعض منهم يصر على أن عقوبة الخمر أحد الحدود، وهو في ظني يتجاوز الحقيقة بحسن النية، والأرجح في تقديرنا أنها عقوبة تعزيرية، نشترك في هذا مع رأي الشيخ محمود شلتوت وغيره، ومن الواضح في فتوى أبي حنيفة، ومذهب ابن مسعود، أن العقوبة قاصرة على السكر البين ، أما شرب القليل من أكثر أنواع الخمور فلا عقوبة عليه، وهنا يبدو منطقياً أن تسقط عقوبة البائع والمشتري والناقل والصانع …. إلى غير ذلك مما اجتهد بشأنه المتشددون وساقوا عليه الأدلة والأحاديث ، ولا بأس ما دمنا نتحدث عن المتشددين أن نذكر إصرارهم على الأخذ بالحد الأقصى للعقوبة وهو الجلد ثمانين، وهم في ذلك يستندون إلى قياس لعلي ابن أبي طالب حين سأله عمر المشورة فقال :
من سكر فقد هذى، ومن هذى فقد افترى وحده ثمانون، ومعنى هذا أن علياً افترض أن من يسكر يفقد عقله وأن من يفقد عقله يسهل عليه قذف الآخرين، ومن هنا يمكن أن يجلد حد القذف أي ثمانين جلدة، والغريب أننا لم نناقش هذا القياس أو نراجعه، وشاع التسليم به وكأنه تنزيل من التنزيل، بينما هو في تقديرنا قياس أقل ما يوصف به أنه غير دقيق، فما أيسر أن نسوق على منواله أكثر من قياس وأكثر من عقوبة، دون أن يملك من سلموا بالقياس الأول أن يعترضوا علينا .
فمثلاً نقول : من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه زنى، أو قتل، أو سرق، وحده الرجم، أو القتل، أو القطع، بل نستطيع أن نقول : من سكر فقد صوابه، ومن فقد صوابه فلا عقاب عليه فيما فعل، ويسقط القياس والاستدلال من أساسه .
ولعل أغرب ما لاحظناه، على عكس ما كنا نتصور، أن السابقين كانوا أكثر تسامحاً، ربما لأن الحياة كانت معطاءة، وكان اتساع أبواب الاجتهاد أحد عطاياها، وقد سقنا في الأمور المشتبهات رخصة التنقل بين فقه الحجاز وفقه العراق، ونسوق أيضاً ما كان منتشراً حتى عهد أجدادنا القريب ، وهو تعدد الزوجات، الذي لم ييسره الدين فقط، بل يسرته أيضاً سبل الحياة، وتوسع البعض فيه مثل الحسن بن علي، الذي ذكر أنه تزوج سبعين وقيل تسعين، وأنه كان يتزوج أربعاً ويطلق أربعاً، والذي خشي الإمام علي من أن يفسد عليه القبائل بطلاق بناتها، فكان يبادرهم صائحاً : يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فأنه رجل مطلاق ( تاريخ الخلفاء للسيوطي 191).
ولم يسمع أحد كلامه، فقد طمع الكل أو تطلع إلى نسل ينتسب للرسول، وبجانب ذلك كان هناك بابان للتمتع بالحياة، والحياة في المتع، باب منهما لم يختلف أحد عليه، وإن جهله بعض المعاصرين أو صعب عليهم تصوره، وباب آخر أثار ولا يزال يثير كثيراً من الخلاف .
أما الباب الأول فهو التسري بالجواري، وهو جانب من جوانب نظام الرقيق، الذي ظهر الإسلام وهو جزء من إطار الحياة، فلم ينكره أو يدنه، وإنما حث على العتق، وهو باب من أبواب الخير عظيم، وجانب ذو شأن جليل من جوانب روح الإسلام، تلك التي نجدها اليوم متناسقة مع عالم المساواة بين الجميع، ومتناغمة مع إلغاء الرقيق عالمياً، بينما لو توقفنا عند ظاهر النص لأنكرنا المساواة، ولاستنكرنا الإلغاء، ولأننا من أنصار الروح والجوهر، فإننا نفسر موقف الإسلام من الرق بما نكرره ونعيده دون أن نمل، وهو أن الدين لم ينزل من أجل عصر واحد، وأن القرآن لم يتنزل لكي يناسب زمناً معيناً، وإنما نزل الدين وتنزل القرآن لكل عصر ولكل زمان، وهو وإن سمح بالرق فقد تسامح مشجعاً العتق، ومال إلى الحرية، ولم يكن له أن يضيق بعصر أو يتوقف عند زمن، وهو في سماحه بالرق أباح للمالك أن يتمتع بالجارية الأنثى، وأن يتسرى بها ( أي يعاشرها ) وراعى أن ينسب الأبناء لآبائهم في الفراش.
وكان للجواري مصدران، أولهما الشراء، وثانيهما غنائم الفتح، وقد اتسع المصدر الثاني في صدر الدولة الإسلامية، وتعددت موارده، فظهرت الجواري المولدات، الحور، الروميات والفارسيات والحبشيات، وكثر ( العرض ) بلغة حياتنا المعاصرة، وتجاوز ( الطلب ) كثيراً، حتى أصبح معتاداً في كتب التاريخ الإسلامي أن نقرأ أن فلاناً أهدى لغلامه جارية أو جاريتين، وحتى ذكر المؤرخون أن الإمام ( علي ) وهو أحد أكثر الخلفاء زهداً قد ( مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سرية رضي الله عنه ) ( البداية والنهاية لابن كثير م4 ج7ص244 . تاريخ الخلفاء للسيوطي ص176).
وقد زاد هذا الرقم حتى أصبح بالعشرات في عهد أوائل خلفاء بني أمية، ثم بالمئات في عهد يزيد بن عبد الملك، ثم بالآلاف في عهد الخلفاء العباسيين، حتى وصل الرقم إلى أربعة آلاف سرية كما ذكرنا في حديث المتوكل، الذي ( وطئ الجميع ) خلال خلافته التي دامت نحو ربع قرن، وهو رقم قياسي فيما نعتقد، ويستطيع القارئ أن يجد مزيداً من الحديث عن هذا الباب في ( الأغاني ) للأصفهاني وفي ( أخبار النساء ) لابن قيم الجوزية، و ( طوق الحمامة ) لابن حزم و ( الإمتاع والمؤانسة ) لأبي حيان التوحيدي، وفي أقوال كثير من الخلفاء التي نذكر منها قول عبد الملك بن مروان ( من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية، ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذه رومية ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 221 ).
ولعل هذا القول كاف لإفحام من يتصورون أن منهج ( التخصص ) منهج غربي معاصر، ولعلنا به أيضاً ننهي حديث الباب الأول من البابين اللذين أشرنا إليهما، وهو الباب الذي وصفناه بأنه متفق عليه بلا خوف، ومباح بلا شبهة، وإن كنا نلمح ظاهرة إيجابية تتمثل في عتق الخلفاء لأمهات الأولاد، وهي خطوة في طريق طويل انتهى بإنهاء الرق واستنكاره دون حرج ديني ودون خروج على روح الدين وجوهره كما ذكرنا .
أما الباب الثاني المختلف عليه، فهو ما عرف بزواج المتعة، ذلك الذي أباحه الرسول في غزوتين، ثم حرمه في حجة الوداع ، وكانت إباحته لما يمكن أن يطلق عليه اسم ( الضرورة القصوى ) في ظروف الغزو، وكان تحريمه لكونه إذا أبيح بإطلاق كان أقرب للزنا منه للزواج .
وهنا نتوقف قليلاً حتى لا يحدث للقارئ لبس، فإباحته للضرورة في واقعتين ( في زمن خيبر وفي عام الفتح ) أمر لم يختلف عليه أحد، وتحريمه في حجة الوداع أيضاً لا خلاف عليه، ووصفه باقترابه من الزنا أكثر من كونه زواجاً رأي ابن عمر حين ( قال ـ فيما أخرجه عنه ابن ماجة بإسناد صحيح – : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة ” ( فقه السنة – الشيخ سيد سابق).
وفي قول علي : لولا تحريم المتعة ما زنى إلا شقي، وفيما نقله البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال : هي الزنا بعينه ( فقه السنة – ص43 ) . أما الحل للضرورة فهو منهج شرعي مقبول شريطة أن يكون تقدير الضرورة صحيحاً، وليس أكثر من الرسول قدرة على التقدير أو صواباً في الحكم فهو الذي لا ينطق عن الهوى .
وزواج المتعة باختصار شديد هو أن يعقد الرجل على المرأة لزمن محدد يتمتع فيه بها ( يوماً أو أسبوعاً أو شهراً .. ) وذاك لقاء مبلغ معين من المال ، وبمجرد انتهاء الأجل ينتهي العقد تلقائياً ، وفقهاء السنة جميعاً يجمعون على تحريمه تحريماً قاطعاً مستندين إلى حديث الرسول في حجة الوداع :
يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع ، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة ) ( فقه السنة – ص42 ) .
ويجمع أغلب فقهاء السنة ( رغم وصفهم لهذا الزواج بالزنا ) على استبعاد عقوبة الرجم لوجود شبهة ناتجة ـ ( عما روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين أن زواج المتعة حلال، واشتهر ذلك من ابن عباس رضي الله عنه ) غير أن الأمر قد اختلف بالنسبة لأغلب فقهاء الشيعة حين أباحوه، وفسروا نصاً قرآنياً بما يفيد الإباحة، ونفوا أن تكون السنة ناسخة للقرآن، ورد عليهم فقهاء السنة برأي آخر في تفسير النص، وبمناقشات مستفيضة عن جواز نسخ السنة لأحكام القرآن مستدلين بحكم الرسول بالرجم في الزنا بينما النص القرآني لا يتجاوز الجلد ولم يرد حكم الرجم في القرآن على الإطلاق، وهي قضية خلافية أخرى لا نريد أن نشغل القارئ بها ، وإن كنا نناشده أن يحلق معنا في سماء التخيل لهذا المجتمع ، ونقصد به المجتمع الإسلامي في صدر الدعوة ولعدة مئات تالية من السنوات، حيث تعدد الزوجات هو القاعدة ، والطلاق يسير والزواج الجديد أيسر، والبعض يقنع بالزوجات الأربع ولا يطلق منهن إلا نادراً وللضرورة، والبعض الآخر يطلق أربعاً ليتزوج أربعاً دون أن يكون ذلك مدعاة لنقد، أو سبباً لانتقاد، والجميع يتسرى ومنهم الزاهد القانع بتسعة عشر، وزهد( علي ) وورعه ونزوعه عن الدنيا واستعلاؤه عن مغرياتها لا يحتاج إلى سند ولا يعوزه دليل .
ومنهم من يصل بالرقم إلى خانات العشرات والمئات والآلاف ، وقطاع كبير من المسلمين هم الشيعة يضيفون إلى ذلك حل زواج المتعة ذلك الذي يبيح للمسلم إن أعجبته امرأة أن يتزوجها يوماً أو شهراً أو بعض شهر، وينفحها مقابل ذلك مبلغاً من المال ثم يفارقها دون إحساس بذنب أو تأنيب لضمير، هذا كله في إطار الحلال إن جاوزنا زواج المتعة لدى السنة، أو أوردناه لدى الشيعة .
بينما تمتلئ كتب التاريخ عن أواخر العصر الأموي وأغلب العصر العباسي بأحاديث المغنيات والقيان والغلمان، وهو ما نطرحه جانباً مقتصرين على الحلال، متسائلين في هدوء هل هناك ضرورة للزنا في مثل هذا المجتمع ؟، وهل يعقل أن يدعي أحد في مثل هذا المناخ أن العقاب بالرجم فيه قسوة ؟
لا شك أن القارئ سوف يتفق معي، وسوف يؤيدني في أن من يأتي الزنا بعد هذا كله ، ورغم هذا كله وفي ظل هذا كله، مختل العقل بلا شك، شاذ الطبيعة بلا مراء، وربما أنصفناه فتصورناه ساعياً للانتحار، غير أن اختلاله أو شذوذه أو انتحاره لن يصل به إلى حتفه بسهولة أو في يسر، فدون ذلك من الشروط ما يكاد يصل بعقوبة الزنا إلى الوصف بالاستحالة، فلابد من توافر أربعة شهود عدول من الرجال ( ولا تقبل شهادة النساء ولا شهادة الفسقة )، وأن يشاهد هؤلاء فعل الزنا بما لا يتيسر إلا لمشارك للزناة في الفراش، بل إن شئت الدقة في الغطاء، مع تحرز آخر بأن يكون( قصير النظر ) حتى يشاهد عملية الزنا نفسها ( كالميل في المكحلة والرشاء ” الحبل ” في البئر).
ولو شهد ثلاثة منهم وشهد الرابع بخلاف شهادتهم أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم على الشهود حد القذف وهو الجلد، ولعل هذا هو السبب في أننا نعثر في قراءتنا لكتب التاريخ على إشارة ولو من بعيد إلى تطبيق لحد الرجم، بل إن المرة الوحيدة التي كاد يطبق فيها الحد في عهد عمر، انتهت ، بجلد الشهود، على الرغم من تيقن القارئ، بل وربما تيقن عمر نفسه من الفعل، بدليل عقاب الفاعل بنزعه عن الولاية، والقصة تستحق أن تروى، لطرافة أحداثها، ولكونها في ذات الوقت نموذجاً يثبت أن البشر هم البشر في كل عصر، وأن عهد عمر نفسه لم يخل مما لو حدث اليوم لوصفناه بالكارثة، ولارتفعت الأصوات في كل واد باستنكاره، لأن الواقعة مست أحد ولاة الأمصار، وهو ما يمكن أن يقاس عليه في عالم اليوم أحد الوزراء أو على وجه الدقة أحد نواب رئيس الوزراء .
فقد كان ( المغيرة بن شعبة ) والياً على البصرة في عهد عمر ( سنة 17 هجرية ) وحدث منه أو قيل عنه ما يروي الطبري في تاريخه على النحو التالي ( تاريخ الطبري – ج3ص168 – 170) :
عن شعيب عن سيف عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو بإسنادهم قالوا كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة ابن شعبة أن المغيرة كان يناغيه وكان أبي بكرة ينافره عند كل ما يكون منه وكانا بالبصرة وكانا متجاورين بينهما طريق وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما، في كل واحدة منهم كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته فهبت ريح ففتحت باب الكوة فقام أبو بكرة ليصفقه ، فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا ثم قال اشهدوا قالوا ومن هذه، قال أم جميل ابنة الأفقم، وكانت أم جميل إحدى بني عامر بن صعصعة ( كذا في الأصل والمقصود إحدى نساء بني عامر )، وكانت غاشية للمغيرة وتغشى الأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها ، فقالوا إنما رأينا أعجازاً ولا ندري ما الوجه، ثم أنهم صمموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة، وقال لا تـُصل بنا، فكتبوا إلى عمر بذلك ، وتكاتبوا فبعث عمر إلى أبي موسى فقال يا أبا موسى إني مستعملك، إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرخ، فالزم ما تعرف، ولا تستبدل فيستبدل الله بك، … ، ثم خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أن أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال والله ما جاء أبو موسى زائراً ولا تاجراً ولكنه جاء أميراً، فإنهم لفي ذلك إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم فدفع إليه أبو موسى كتاباً من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس، أربع كلم عزل فيها وعاتب واستحث وأمر،
“أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً ، فسلم ما في يدك ، والعجل ” .
وكتب إلى أهل البصرة : ” أما بعد فإني قد بعثت أبا موسى أميراً عليكم ، ليأخذ لضعيفكم من قويكم، وليقاتل بكم عدوك ، وليدفع عن ذمتكم، وليحصي لكم فيأكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقي لكم طرقكم ” .
وأهدي له المغيرة وليدة من مولدات الطائف تدعي عقيلة وقال إني قد رضيتها لك وكانت فارهة، وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلي حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة ” سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني، مستقبلهم أو مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلى في منزلي، على امرأتي، والله ما أتيت إلا امرأتي، وكانت شبهها .
فبدأ بأبي بكرة فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحله، قال كيف رأيتهما، قال مستدبرهما، قال فكيف استثبت رأسها، قال تحاملت .
ثم دعا بشبل بن معبد فشهد بمثل ذلك، فقال استدبرهما أو استقبلتهما ( ينفرد الطبري بذكر هذا الاختلاف )، وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، قال رأيته جالساً بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، وإستين مكشوفتين، وسمعت حفزاناً شديداً، قال هل رأيت كالميل في المكحله قال لا، قال فهل تعرف المرأة قال لا، ولكن أشبهها، قال فتـَنـَح .
وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد، فقال المغيرة اشفني من الأعبد، فقال : اسكت، اسكت الله نأمتك، أما والله تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك ) ( في رواية أخرى بأحجار أحد.)
والرواية السابقة تقدم نموذجاً رائعاً ودقيقاً لمذكرة اتهام تفصيلية، يبدو فيها سبب توافر الشهود مقنعاً، وهو سبب فرضته ظروف البناء في عصر عمر، ويبدو فيه موقف المغيرة ضعيفاً، ويبدو فيه وصف واقعة الزنا مثيراً، ويبدو فيه أيضاً أن ظاهرة ( أم جميل ) كانت شائعة لدى علية القوم، ويبدو فيه أيضاً أن الحد كان على وشك أن يقام لولا أن زياداً في اللحظة الأخيرة تلجلج في جزئية أو رثت شبهة حين قال أنه لم يتحقق من وجهها وإن كانت تشبهها .
ولنا أن نذكر للقارئ هنا معلومة طريفة وهي أن المغيرة بعد ذلك كان أحد قادة معاوية، وأن زياداً بعد ذلك كان أحد قادة علي، وأنه لما توطد الأمر لمعاوية، تذكر المغيرة فضل زياد عليه حين تلجلج في الشهادة، فتوسط له لدى معاوية، الذي قبل الوساطة فنسبه إلى أبي سفيان وولاه البصرة، ثم أضاف إليه الكوفة، وذكر عنه التاريخ بعد ذلك ما ذكر، من قسوة وبطش وإرهاب، ونعود إلى حديث المغيرة أو حادثته، ونتساءل، ماذا يقول المتطرفون لو حدث من أحد نواب رئيس الوزراء أو الوزراء أو المحافظين ما حدث من المغيرة، ألم يملأوا الأرجاء صراخاً عندما انتحرت إحدى الفتيات في منزل ملحن مشهور وتنادوا بأن مصر كلها قد تحولت إلى ماخور، وأن العلاج كامن في تطبيق حد الزنا، حتى تعود ( مصر الحانة ) إلى ( مصر الإسلام ).
وإذا كان أسلوب بناء المساكن في عهد عمر هو السبب في فضيحة المغيرة، فماذا يكون الحال بالنسبة لمبانينا الحديثة، التي لا يستطيع فيها الهواء أن يرفع شيش النافذة أو زجاجها، ناهيك عن أبوابها ومغاليقها وأقفالها ؟
وإذا كان تلجلج أحد الشهود هو مبرر نجاة المغيرة ، فماذا يكون الحال في مواجهة شهود مهنتهم الشهادة، ولو زادهم المغيرة خمساً لأقسموا أنه كان مستقبلهم وأنها كانت زوجته، ولو أنقصهم خمساً لأقسموا أنه كان مستدبرهم وأنها كانت أم جميل .
ونعود إلى تساؤلاتنا قبل أن يفاجئنا – أو يمتعنا – المغيرة بقصته، ونضيف إليها جديداً، راجين من القارئ أن يكون منصفاً في إجابته : هل بوسعنا أن نساوي في العقوبة بين من أتاحت له ظروف الحياة تعدد الزوجات وأتاحت له ظروف الفتح وانتشار الرق تعدد الجواري المستمتع بهن حتى بلغت العشرات، وأتاح له اجتهاد ابن عباس أو مذهب التشيع زواج المتعة، وبين شبابنا المعاصر الذي لا يستطيع أن يتزوج بواحدة لعجز ذات اليد عن دفع المهر، وعجز إمكانيات المجتمع عن توفير مسكن الزوجية ؟
هل يعامل هذا على قدم المساواة مع ذاك ؟، ألا تشفع ظروف الحياة المعاصرة وقد ذكرنا طرفاً منها لشبابنا المعاص، كما شفعت ظروف المجاعة للسارقين في عهد عمر ؟
نحن هنا لا تدعو للزنا أو نبرر إباحته كما يحلو للبعض ممن لا يرى الحياة إلا من خلال رجل وامرأة والشيطان ثالثهما أن يتقول وأن يغمز عن جهل أو يلمز عن شبق، ولا نفعل ما يفعله البعض ممن يؤثرون السلامة فيطالبون بإقامة حد الزنا وأن يكون الرجم للمحصن أو المحصنة عن ثقة كاملة منهم أنه حد مستحيل التطبيق، ولأن الجريمة التي تعاقب عليها الشريعة أقرب إلى إتيان الفعل العلني الفاضح في الطريق، بدأنا نواجه الأمر بالمنطق والعقل، تماماً كما واجهه عمر في حد السرقة حين تجاوز ظاهر النص والعقوبة إلى العلاقة بين الأسباب والنتائج ، بل وأكثر من ذلك نفتح ملف حادثة مازالت ملء السمع والبصر، وهي حادثة اغتصاب ستة من الشبان لفتاة كانت تجلس مع خطيبها في إحدى السيارات في منطقة نائية في ضاحية المعادي، وقد أثبت تقرير الطبيب الشرعي أنها عذراء، وقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب هذه الحادثة، وانطلقت الأصوات مطالبة بتطبيق الشريعة وكأنها الحل، وظلت الصفحات الدينية تردد على مسامعنا وأمام أبصارنا دون ملل أو كلالة مقولة واحدة متكررة : ” طبقوا حد الزنا “، ” طبقوا حد الزنا “، بينما تقرير الطبيب الشرعي ينفي واقعة الزنا من أساسها لأن البكارة شبهة تنفي تطبيق الحد بإجماع الفقهاء، وقد حكم القضاة بإعدام خمسة من الشبان، وعدل الحكم في الاستئناف إلى إعدام اثنين، وأدلى المفتي السابق بحديث عن أن الحكم مطابق للشريعة واصفاً التهمة بأنها إفساد في الأرض، ويعلم الله أنها ليست كذلك .