كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة -عبر حلقات- الحلقة الخامسة عشر- إعداد الأستاذ‎ عبد الرحيم قروي

 

الحلقة الخامسة عشر

غير أن أبا جعفر المنصور، ثاني الخلفاء العباسيين، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية، والذي يحتل فيها موقعاً مناظراً لموقع معاوية في دولة الأمويين، قام بذلك الواجب خير قيام، فسلط أولاً أبا مسلم الخراساني لقتل عبد الله بن علي، ثم تولى هو بنفسه قتل أبي مسلم، ولم يشفع له صياح أبي مسلم : استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، بل رد عليه : وأي عدو لي أعدى منك ؟ 

وليس للقارئ أن يتعجب حين يعلم أن أبا مسلم لم يفعل للسفاح ثم للمنصور إلا ( كل الخير )، وأنه كان صاحب الفضل الأول عليهما وعلى دولتهما، لكن ذلك بالتحديد كان سبب قتل المنصور له، فقد دخل عليه ولي عهده ( عيسى بن موسى ) فوجد أبا مسلم قتيلاً، ( فقال : قتلته ؟ قال : نعم ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون، بعد بلائه وأمانته ؟ فقال المنصور : خلع الله قلبك ! والله ليس لك على وجه الأرض عدو أعدى منه، وهل كان لكم ملك في حياته ؟ ).

هذا نموذج مثالي لما عرف باسم الميكيافيلية، نسبة إلى ( ميكيافيلي )، والتي نوجز في تبرير الوسيلة بالغاية، وتفصل في تطبيق ذلك على شئون الحكم وسيرة الحكام، وتبدو جلية على يد المنصور، الذي وطأ بأقدامه أعناق الرجال، وتفرد بأسلوبه المميز في الحكم، فهو يبدأ أولاً بالتخلص من أصحاب الفضل عليه ثم يتحول إلى المعارضين وهو لا يعرف إلا القتل وسيلة للقضاء على معارضيه، ولا يعرف للعواطف سبيلاً ولا تعرف العواطف إليه طريقاً . 

ولأنه قوي لم يحترم إلا القوة ، ولعل هذا ما يفسر إعجابه بهشام بن عبد الملك، ووصفه له بأنه ( رجل بني أمية )، ثم إعجابه الشديد بعبد الرحمن بن معاوية بن هشام، والخليفة الأموي في الأندلس، وعلى الرغم من هزيمة جيشه على يديه في أشبيليه، بل ربما يسبب هذه الهزيمة التي لم تردعه، ولم تمنعه من محاولة استمالته بالهدايا، ووصفه قائلاً : (.. اقتحم جزيرة شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع ببعض قوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها .. إن ذلك لهو الفتى الذي لا يكذب مادحه)
بل يقال أن المنصور هو الذي سمى عبد الرحمن بصقر قريش، ولما فشل في استمالته بالتودد أظهر وجهاً آخر لأسلوبه السياسي، وهو الوجه الذي أظهره تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما أعلن أنه مستعد للتحالف مع الشيطان لهزيمة النازية ، وهو نفس ما فعل أبو جعفر، حين تحالف مع ( شارلمان ) ثم مع (ببين) ملكي الفرنجة، ضد عبد الرحمن الخليفة الأموي المسلم، وهو التحالف الذي فشل في هزيمة عبد الرحمن، ونجح في ذات الوقت في اقرار القاعدة المنصورية : 

إفعل أي شيء .. إسلك أي سبيل .. تحالف مع أعدى الأعداء .. المهم أن تصل إلى غايتك .. وتنتصر على عدوك، وخلال ذلك كله انس الإسلام، وتغافل عن أحكام القرآن، وتجاهل السنة، وابتعد بقدر ما تستطيع عن سيرة الراشدين ، وتذكر فقط أنك ( سلطان الله في أرضه ) ( وصف المنصور لنفسه في خطبة شهيرة بالمدينة ) ( وظل الله الممدود بينه وبين خلقه ) (التعبير الأدبي الشائع عند وصف الخلفاء في العصر العباسي الأول )، واستند في حكمك إلى حق بني العباس في الخلافة، وليس إلى حق الرعية في الإختيار . 

ولعل هذا المنهج هو ما قاد العلويين إلى مناهضة المنصور، فما دام النسب هو الفيصل، فهم أقرب إلى الحكم، وأحق بالخلافة، وقد دار حوار طريف بين المنصور من ناحية، ومحمد العلوي المشهور باسم (النفس الزكية ) وأخيه إبراهيم من ناحية أخرى، ومبعث الطرافة أن الحوار كله يدور حول إثبات أحقية الخلافة بالنسب، مع تجاهل كامل لما يسمى بالشعب، أو ما كان يطلق عليه وقتها اسم الرعية، فمحمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم، يريان أنهما من نسل علي وفاطمة، وأنهما حفيدا الرسول، وأنهما بهذا ولهذا أحق، والمنصور يرى أن العم أقرب من ابن العم، وأنه بذاك ولذاك أحق، وأنا – بعد استئذان القارئ – أرى أنها مأساة أن أبايع حاكماً لمجرد أنه من نسل علي، أو أناصر حاكماً آخر لأنه من نسل العباس، وأتجاوز فأقول : أنه لو عاش للرسول من نسله ذكور، ما بايعت حفيداً من أحفاده لمجرد انتسابه إليه، فالنبوة لا تورث، والصلاح لا ينتقل بالضرورة للأبناء، ولا مانع أن يكون (نوح ) نبياً، وأن يكون ابنه في ذات الوقت ( عمل غير صالح ). 

غير أن الطريف في حوار المنصور والنفس الزكية، أنه انتقل إلى الغمز، فالنفس الزكية يرد على عرض المنصور بالأمان بغمزة موجعة حين يذكر ( أي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة ؟ أم أمان عمك عبد الله بن علي ؟ أم أمان أبي مسلم ؟ )، فيرد عليه المنصور غامزاً في الحسن ” جد النفس الزكية ” قائلاً : ( ثم كان الحسن فباعها معاوية بخرق ودارهم ، ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية، ودفع الأمر إلى غير أهله). 

والمنصور يشير إلى مبايعة الحسن لمعاوية أو بمعنى أدق إلى الصلح بينهما، ذلك الصلح الذي أثار مشكلة بسبب بطء ( وسائل الاتصال ) في تلك الأيام، فقد أرسل الحسن إلى معاوية يصالحه على شروط مالية. وفي نفس الوقت كان معاوية قد ارسل إلى الحسن صحيفة بيضاء ختم أسفلها وترك للحسن أن يشترط فيها ما يشاء، ووصلت الرسالتان في وقت واحد، وطمع الحسن فكتب في صحيفة معاوية شروطاً جديدة طلب فيها أضعاف ما طلب في رسالته، وعندما التقيا تمسك معاوية بخطاب الحسن وتمسك الحسن بخطاب معاوية ثم تصالحا على خمسة ملايين هي أموال بيت مال الكوفة ( تاريخ الأمم والملوك للطبري، ج4 – ص121 – 125) . 

ولسنا في مجال تقييم فعل الحسن، وحسبنا أن نذكر أنه استراح وأراح، أراح المسلمين من القتال، وأراح عبد الله بن عباس ( الذي ما أن علم بالذي يريد الحسن عليه السلام أن يأخذه لنفسه حتى كتب إلى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها فشرط ذلك له معاوية ) . 

وسوف يهنأ ابن عباس بما حصل عليه من مال البصيرة حتى نهاية حياته، فقد قتل علي وتنازل الحسن وسمح معاوية، وسوف يهنأ أيضاً الحسن بمال الكوفة حتى حين، فسوف يتخلص منه معاوية بدس السم له حين يرشح يزيداً لخلافته، ونعود إلى المنصور، الذي لم يتحمل محاورة محمد طويلاً، فقبض على أبيه وعمومته وكثير من أهله وحبسهم معذبين حتى الموت، وهاجم محمداً بالمدينة وقاتله حتى قتله، ثم هاجم أخاه إبراهيم في البصرة وقاتله حتى قتله ولم يكن المنصور في ذلك كله مدافعاً إلا عن الملك، فقد ( ذكر أن المنصور هيئت له عجة من مخ وسكر فاستطابها، فقال : أراد إبراهيم أن يحرمني هذا وأشباهه ) ( مروج الذهب للمسعودي – ج3 ص309 ).

 والشاهد هنا أن أحد الطرفين كان يدافع عن ( النسب )، وأن الطرف الآخر كان يدافع عن ( العجة )، وإن المسلمين في الفريقين كانوا يعتقدون أنهم يدافعون عن صحيح الإسلام ، دليلنا على ذلك ما حفلت به خطب الفريقين من آيات وأحاديث ووعد بالجنان ووعيد بسقر، ولم يكن الأمر عسيراً بالنسبة لمحمد وإبراهيم فآيات الحكم بما أنزل الله موجودة وما أيسر أن ينتقل منها إلى الحديث عن شمائل الرسول، وفضائل علي ولم يكن الأمر عسيراً أيضا على المنصور، فما أكثر الأحاديث عن شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة وما أيسر الاستشهاد بآيات الإفساد في الأرض، فقد روي عن المنصور أنه عندما تسلم كتاب انتصار جيشه على إبراهيم، تلا هذه الآية : 

(وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين ). ثم صعد إلى المنبر وقال : السعيد من وعظ بغيره، اللهم لا تكلنا إلى خلقك فنضيع ولا إلى أنفسنا فنعجز، فلا تكلنا إلا إليك. 
وهكذا أقنع أفراد جيش المنصور أنفسهم بأن الله نصر الحق بهم، وسيجزي الله الشاكرين، وأقنع من تبقوا من جيش محمد وإبراهيم أنفسهم بأنه اختبار من الله، وبلاء إلى حين، وسيجزي الله الصابرين، وانطلق كل فريق قانعاً بما اعتقد أنه جزاؤه من عند الله، ولم تنقل لنا كتب التاريخ خلال ذلك كله موقفاً مشهوداً لفقيه أو دفاعاً طلياً عن الحق من إمام من أئمة المسلمين، وما أكثرهم في عهد المنصور، فقد عاصره أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وعمرو بن عبيد، وسفيان الثوري، وعباد بن كثير، وجعفر بن محمد الصادق، وغيرهم، وما كان تعذيب المنصور لأبي حنيفة وحبسه وجلده ودس السم له في النهاية إلا لرفضه ولاية القضاء ، وما كان جلد المنصور لمالك وهو عاري الجسد غير مستور العورة تشهيراً به إلا لذكره حديثاً عن الرسول لم يعجبه، وكلا الموقفين لا يصلحان نموذجاً للجهاد، أو مثالاً على مناوأة الحاكم إن حاد، أو دليلاً على أن الحق يعرف بالرجال، وينصر بالرجال، وينبري للدفاع عنه الرجال .. 

ولا بأس أن ننهي حديث المنصور، بحديث ابن المقفع الذي أرسل للمنصور كتاباً صغير الحجم، عظيم القيمة أسماه (رسالة الصحابة ) نصح فيه الخليفة بحسن اختيار معاونيه، وحسن سياسة الرعية، وكان في نصحه رفيقاً كل الرفق، رقيقاً غاية الرقة، ولعله كان ينتظر من المنصور تقديراً أدبياً ومادياً يليق بجهده ولعله لم يتصور أن مجرد إسداء النصح للمنصور جريمة، وأن غاية دور الأديب في رأي المنصور أن يمدح، ومنتهى دور المفكر أن يؤيد، وأن عقاب من يتجاوز دوره كما فعل ابن المقفع، أن يفعل به كما فعل بابن المقفع، الذي قطعت أطرافه قطعة قطعة، وشويت على النار أمام عينيه، وأطعم إياها مجبراً، قطعة قطعة، حتى أكرمه الله بالموت في النهاية ولعله تساءل وهو يمضغ جسده بأمر أمير المؤمنين، أي أمير وأي مؤمنين، ولعله أدرك ساعتها ما نتمنى أن يدركه من يتنادون بالخلافة، ويتغنون بالشورى ويهاجمون الحكام ( العلمانيين ) ويتصورون في الدولة الدينية ملاذاً، وفي الحكم باسم الإسلام موئلاً ورحمة، وفي التطبيق الفوري للشريعة وحدها عدلاً واستقامة، وفي الديموقراطية جوراً وحكماً بالهوى ولعلنا نذكرهم أن المنصور وإن دخل التاريخ من باب الجبروت إلا أنه تركه من باب رجال الدولة العظماء وهو إن جار فبفتوى البعض من الفقهاء، وخوف البعض وصمت البعض الآخر، وهو إن قسا فبهدف بناء هيبة الدولة، وأركان الحكم بمقاييس عصره، وهو إن أسال الدماء أنهاراً، فقد بنى بغداد والرصافة وحمى ثغور الدولة الإسلامية، وأعاد التماسك إلى بنيانها، وكانت حكمته البليغة نصب عينيه:

“إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك، وإلا فقبلها” .

وقد كان الرجل من القوة بحيث لم يـُقبـِل يد أحد، وأورث ولده المهدي رعية مطيعة، وثغوراً منيعة وأورثها المهدي إلى ولديه الهادي ثم هارون الرشيد وأورثها هارون الرشيد لأولاده الثلاثة الأمين فالمأمون فالمعتصم وأورثها المعتصم لولده الواثق، وبحكم الواثق انتهى ما يعرف بالعصر العباسي الأول أكثر عصور الدولة الإسلامية نهضة وحضارة، وإذا توخينا الصدق لزدنا ( وفقها وطهارة ) وإذا أردنا استكمال الصورة لأضفنا وفسقاً ومجوناً ، وليس فيما ذكرناه مبالغة أو سعي وراء سجع الكلمات أو طنطنة الروي، وإنما هي الحقيقة لا أقل ولا أكثر، فقد اجتمع كل ذلك معاً، ففي النهضة والحضارة يزهو عصر المأمون ويتألق فكر المعتزلة، وتزدهر الترجمات ويكفي أن نذكر في العصر العباسي الأول من أسماء اللغويين : سيبويه والكسائي ومن أسماء الأدباء والمؤرخين والشعراء : 

حماد الراوية والخليل بن أحمد، والعباس بن الأحنف، وبشار بن برد، وأبو نواس، وأبو العتاهية، وأبو تمام، والواقدي والأصمعي، والفراء وغيرهم.

 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...