كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة -عبر حلقات- الحلقة الثالثة عشر- إعداد الأستاذ عبد الرحيم قروي
ولعل القارئ بعد قراءة ما سبق لا يذهل كما ذهلنا، ولا ينزعج كما حدث لنا، ونحن نذكر له أن الوليد حاول نصب قبة فوق الكعبة ليشرب فيها عام حج هو ورفاقه وأن حاشيته نجحت في إقناعه أن لا يفعل بعد لأى، وأنه في ( تلوطه ) راود أخاه عن نفسه، فالواضح من سيرته أنه أطلق لغرائزه العنان، حتى غلبت شهوة الغناء والشراب على الخاصة والعامة في أيامه كما يذكر المسعودي، وتألق نجوم الغناء في عصره ، فكان منهم ابن سريج ومعبد والغريض وابن عائشة وابن محرز وطويس ودحمان، ولعله أدرك أنه تجاوز الحد، فلم يعد يعنيه أن يضيف إلى ذنوبه ذنباً، أو إلى سيرته مثلباً، شأنه في ذلك شأن ضعاف الإيمان، حين يقنطون من رحمة الله، فيضاعفون من معاصيهم، ونحن في هذا لا نلتمس له عذراً، وإنما نعبر عن رأيه هو في نفسه، حين أطلقه شعراً فقال : اسقني يا يزيد بالقرقارة قد طربنا وحنت الزمارة
اسقني اسقني، فإن ذنوبي قد أحاطت فما لها كفارة
وبالفعل، فقد أحاطت به الذنوب، وتألب عليه الصالحون، وانتهى الأمر بخروج ابن عمه يزيد بن الوليد عليه، وقتله، بعد خلافة قصيرة استمرت عاماً وثلاثة أشهر وشاء القدر أن تكون خلافة يزيد أقصر، فلا تستمر إلا خمسة شهور يموت بعدها ليتولاها بعده شقيقه إبراهيم لمدة سبعين يوماً فقط ثم يعزل على يد مروان بن محمد، انتقاماً لمصرع الوليد بن يزيد، ثم ينتهي عصر الدولة الأموية بمصرع مروان على يدي العباسيين، بعد خلافة استمرت حوالي خمس سنوات .
ونتوقف قليلا قبل أن ننتقل إلى خلافة العباسيين ، مستخلصين نتيجتين نوجزهما فيما يلي :
النتيجة الأولى:
أننا نشهد في الدولة الأموية عهداً مختلفاً كل الاختلاف عن عهد الراشدين، أضاف إلى فتوحات الإسلام الكثير، حتى امتدت الدولة الإسلامية من الهند شرقاً إلى الأندلس غرباً، وأضاف إلى سلطة الدولة وهيبتها وتماسكها الكثير، حيث لم يخرج فيها أحد من الأمويين على آخر، إلا في نهاية الدولة حين خرج يزيد على الوليد، ثم خرج مروان على يزيد فكان ذلك نذيراً بالنهاية، بينما حفل تاريخ العباسيين بكثير من الخروج والانقسام داخل الأسرة الحاكمة حتى قتل الابن أباه، والأب ابنه، وشاع خلع الخلفاء وسمل أعينهم، وقتلهم بسحق مذاكيرهم، وغير ذلك من الأحداث على مدى الخمسمائة عام الأخيرة في حكم العباسيين .
وعلى حين يبدو أبو جعفر المنصور، والمأمون، رجال دولة متفردين في تاريخ الدولة العباسية، لا يناظرهم أحد، ولا يطاولهم مطاول، نرى أن الدولة الأموية على قصر عمرها قد حفلت برجال الدولة العظام، وعلى رأسهم معاوية، ورجل الدولة الأول في تاريخ الدولة الإسلامية كلها .
وقد يتساءل البعض، وأين عمر؟ ونرد عليه بأن عمر قد تفرد بأنه الوحيد في تاريخ الخلافة الإسلامية الذي يمكن أن يطلق عليه وصف ( رجل الدين والدولة معاً، بينما لا تجتمع الصفتان بعد ذلك لأحد، فهناك رجال الدين مثل علي بن أبي طالب، ( رابع الراشدين ) وعمر بن عبد العزيز، ( الأموي )، والمهتدي ( العباسي ) . وهناك رجال الدولة مثل ( معاوية )، ( عبد الملك بن مروان )، ( الوليد بن عبد الملك )، ( هشام بن عبد الملك )، وهم أربعة خلفاء حكموا سبعين عاماً، بينما حكم الفترة الباقية ( اثنتين وعشرين عاماً ) عشرة خلفاء بالتمام والكمال .
وحينما نذكر أسماء الخلفاء الأربعة السابقين مقترنا بلقب ( رجل الدولة )، نضع في اعتبارنا هيبة الحكم، وفتح الثغور، وعمارة البلدان، وفي تقديرنا أن هؤلاء الخلفاء، قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بفصلهم بين الدين والدولة عند قيامهم بأمانة الحكم، ولعل موقف معاوية من ( علي ) مثال أوضح على ذلك، ولعل موقف عبد الملك بن مروان من المصحف عندما بلغته نبأ ولايته مثال أوضح، وقد أدرك كل منهم أنه لا يولى بصفته الأصلح دينياً، أو الأكثر إيماناً، وإنما يولى بوسائل دنيوية محضة، وعليه إن أراد أن يستمر، أن يضع نصب عينه أن الولاية من جنس التولية، فكلاهما دنيا وسطوة وحكم، وقد أجاد الخلفاء الأربعة اختيار معاونيهم، فكان منهم عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، ومسلم بن عقبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، وهم بموازين السلطة والسطوة رجال، وبمقاييس عصرهم قادة، وهم أهل الدهاء لا النقاء، والسيف لا المصحف، وقد ارتأوا جميعاً أن أسهل السبل لإسكات المعارض قطع رأسه، وأن الخوف إذا تمكن من النفوس توطن فيها ، فمكنوه ووطنوه وتعهدوه بالرعاية حتى صار مارداً، وحذوا حذو مؤسس دولتهم معاوية، رجل الغاية لا الوسيلة، رجل الحكمة الشهيرة ( إن لله جنوداً من عسل )، حيث يروى عنه أنه كان يضع السم لمعارضيه في العسل، وأنه هكذا كانت نهاية الحسن، والأشتر النخعي وغيرهم، ورغم أن أحداً لا يقر معاوية، أو غيره على فعالهم أو على الأقل لا يدعو للتأسي بهم، إلا أنه من الواجب أن نتعلم مما فعلوا درساً بليغاً …
إن على الحاكم ـ أي حاكم ـ أن يتعرف جيداً على ساحته، وأن يتمسك جيداً بأسلحته، وأن ينأى بنفسه وبحكمه عن استعارة سلاح الآخرين، أو الانتقال إلى ساحتهم، أو الرقص على أنغامهم، ولو حاول معاوية أو عبد الملك، ولو حاول مساعدهم مثل زياد أو الحجاج، أن يحتكموا إلى القرآن، أو يناظروا مخالفيهم حول صحيح الإيمان، أو يفسروا قراراتهم بتعاليم الإسلام، أو يتباهوا على المخالفين لهم والخارجين عليهم بالصلاح والتقوى ونظافة اليد ونقاء السريرة، لانتهي حكمهم قبل أن يبدأ، ولأخلى معاوية مكانه لحجر بن عدى، ولتنازل عبد الملك عن منصبه للحسن البصري، لكنهم احتكموا للسيف، وهو دستور عصرهم، فدانت لهم الدولة، وسهل عليهم الحكم، وربما سعدت الرعية بالاستقرار والأمن والأمان .
ولعل عصرنا لا يخلو من سيف متحضر هو الدستور، لا يسيل دماً وإنما يحفظ استقراراً، ولا يطيح برؤوس وإنما يلزمها جادة الصواب، وليس لحاكم في عصرنا، أو لنظام حكم في عالمنا المعاصر إلا أن يستوعب درس السابقين، بأسلوب العصر لا بأسلوبهم ، وليس له أن يحاور الخارجين في ساحتهم، أو بسلاحهم أو أن يرقص على أنغامهم، وإنما عليه أن يلزمهم بالمحاورة في ساحته ، فليس أمامه ولا أمامهم ساحة غير ساحة الدستور، وليس هناك من سلاح إلا القانون، وليس هناك من أنغام إلا الديمقراطية والشرعية، ليحمدوا الله أن يجدوا فينا يزيداً، ولم يتطرف منا وليد ، ولم يتول وزارة الداخلية في بلادنا حجاج، ولم يتملك منا عبد الملك، ولم يدع أحد من حكامنا أنه لا حساب عليه ولا عقاب، غاية ما في الأمر أنه يوكل إلينا حساب السياسة في أمور السياسة، ويحتكم أمامنا إلى الدستور ومؤسسات الدولة في أمور الحكم، ويترك ونترك حساب الآخرة إلى الله وليس إلى الجماعات الإسلامية أو أئمة المساجد المسيسين.
النتيجة الثانية :
أن الشعر والأدب وفن العمارة والغناء بل وأكثر من ذلك مذاهب الفقه واجتهادات الفقهاء، قد بدأت في الظهور والتألق مع نهاية الدولة الأموية، ومع انحسار القيود ( الشكلية ) للدولة الدينية ووصلت للغاية في العصر العباسي الأول .
يكاد القارئ يلاحظ علاقة طردية بين دنيوية الدولة وتألق الفكر والأدب والعلوم والفنون والفقه، فحينما تزداد هذه يتألق أولئك ، وعلى العكس من ذلك يضمحل كل شيء مع ازدياد سطوة الدين في الدولة الدينية إلا العبادة وقصص الزهاد وأقوال الصالحين .
ولا أحسب أن ما أذكره هنا استنتاج بقدر ما هو حقيقة بسيطة وواضحة ، وقد مضى عهد الراشدين، وخلدت لنا كتب التاريخ سكناته وأحداثه ، فلم تسمع فيه قصيدة لافتة، أو فنا يطرب أو يهز الوجدان أو يبقى للأجيال، ذلك لأن الفن حرية، والحرية لا تتجزأ، والفنان لا يتألق إلا إذا أحس بفكره طليقاً، وبوجدانه منطلقاً، وبوجدان الآخرين مرحباً، وبأذهانهم سعيدة بإبداعاته، مستعدة أن تغفر له شطحاته، مقبلة على الحياة لا على الموت، متفتحة للنغم لا للوعيد .
ولا أحسب أن ذلك كله جزء من طبيعة الدولة الدينية، بل هو متنافر معها كل التنافر، متناقض مع قواعدها، أشد التناقض، ولعل إحدى مشاكل الداعين للدولة الدينية أنهم يدركون أنها تحجر على كل إبداع أو تفتح أو إجهاد للذهن أو اجتهاد للعقل، وأن كل ما يعيشه الناس ويتقبلونه تقبلاً حسناً، لا يمكن قبوله بمقاييس الدولة الدينية بحال، فالأغاني مرفوضة، والموسيقى مكروهة عدا الضرب على الدفوف، والمغنيات فاجرات نامصات متنمصات، والمتغنون بغير الذكر ومدح الرسول فاسقون يلهون المسلمين عن ذكر الله ويدعونهم إلى الفاحشة، وممارسة المرأة للرياضة فتنة وإثارة للفتن، واختلاطها بالرجال جهر بالفسق، والتمثيل مرفوض لأنه كذب، ولأن هزله جد وجده هزل ورسم الصور للأحياء حرام، وإقامة التماثيل شرك، والديمقراطية مرفوضة لأنها حكم البشر وليس حكم الله، ومعاملة أهل الذمة على قدم المساواة إن لم تكن منكراً فهي مكروهة، ولا ولاية للذمي، وباختصار عليهم أن يهدموا كل شيء، ويظلموا كل شيء، ويمنعوا كل شيء، وأن تقام دولتهم على أنقاض كل شيء، وبديهي أن الحديث في هذا الإطار عن حرية الفكر لغو، وأن ادعاء حرية العقيدة هراء، وأن تصور نهضة الأدب أو الفن نوع من أحلام اليقظة لا يستقيم مع الواقع، ولا يستقيم الواقع معه، ولعل هذا أحد أسباب حرصهم على الامتناع عن بلورة برنامج سياسي متكامل، به قدر قليل من المواعظ والكلمات الطنانة، وقدر كبير من تصور الواقع أو معايشته، وبه قدر ولو معقول من احترام عقولنا ، ناهيك عن احترام مشاعرنا .
وننتقل إلى دولة العباسيين…
انتهى الفصل الثاني من الحقيقة الغائبة غدا موعدنا مع الجزء الثالث الدي يتناول فيه الشهيد فظائع دولة الخلافة في العصر العباسي.