كتاب الحقيقة الغائبة للدكتور فرج فودة -عبر حلقات- الحلقة الثانية عشر- إعداد الأستاذ‎ عبد الرحيم قروي

الحلقة الثانية عشر

ولا يعيد مسلم القول، بل يهوى بالسيف على رأس العابد الصادق في رأينا، والرومانسي الحالم في رأى مسلم، ويتكرر نفس المشهد مرات ومرات، هذا يكرر ما سبق، فيقتل، وهذا يبايع على سيرة عمر فيقتل، ويستقر الأمر في النهاية لمسلم، وما كان له إلا أن يستقر  فالسيف هنا أصدق أنباء من الكتب، وهو سيف لا ينطق بلسان ولا يخشع لبيان ويصل الخبر إلى يزيد، فيقول قولاً أسألك أن تتمالك نفسك وأنت تقرؤه، وهو لا يقوله مرسلاً أو منثوراً، بل ينظمه شعراً، اقرأه ثم تخيل وتأمل وانذهل : 

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل  حين حكت بقباء بركها واستمر القتل في عبد الأشل والذي يعنينا هو البيت الأول الذي يقول فيه ( ليت أجدادي في موقعة بدر شهدوا اليوم كيف جزع الخزرج من وقع الرماح والنبل ) 

أما من هم أجداده، فواضح أنهم أعداء الخزرج في موقعة بدر، والخزرج أكبر قبائل الأنصار، وكانوا بالطبع في بدر ضمن جيوش المسلمين، وهنا يزداد المعنى وضوحاً، فيزيد خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين، يتمنى لو كان أجداده من بني أمية، ممن هزمهم الرسول والمهاجرون والأنصار في بدر، يتمنى لو كانوا على قيد الحياة، حتى يروا كيف انتقم لهم من الأنصار في المدينة، ثم نجد من ينعت الخلافة بالإسلامية . 


ولا يتوقف أمام هذه الحادثة لكي يقطع الشك باليقين وليتحسر على الإسلام في يد حكام المسلمين، وليترحم على شهداء الأنصار انتقاماً منهم لمناصرتهم للرسول والإسلام، وعلى يد من، على يد ( أمير المؤمنين ) وحامي حمى الإسلام والعقيدة، ويروي ابن كثير في ( البداية والنهاية ) الأبيات السابقة في موضعين أحدهما موقعة الحرة وثانيهما عندما وصل رأس الحسين إلى يزيد . 

ولو صدقت الثانية لكانت أنكى وأمر، لأن الانتقام هنا مباشر من الرسول في آل بيته  ويضيف ابن كثير بيتاً يذكره متشككاً دون أن يقطع الشك باليقين، داعياً باللعنة على يزيد إن كان قد قاله والبيت يقول : لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل ولعلى استبعد أن يقول يزيد هذا، فللفكر درجات، وللمروق حدود، وللتفلت مدى، وكل ذلك لم يشفع لفقهاء عصر يزيد ولكـُتاب تاريخ الخلافة الإسلامية أن يذكروا أن يزيد مغفور له، وأن ذلك ثابت بالأحاديث النبوية، فابن كثير يذكر ( البداية والنهاية  – المجلد الرابع الجزء الثامن ص 232.) : 

( كان يزيد أول من غزا مدينة القسطنطينية في سنة وأربعين .. وقد ثبت في الحديث أن رسول الله قال : ” أول جيش يغزوا مدينة قيصر مغفور له ” ) … ولا تعليق  
وننتقل إلى يزيد بن عبد الملك، التاسع في الترتيب بين خلفاء بني أمية، وأحد أربعة تولوا الخلافة من أبناء عبد الملك بن مروان هم على الترتيب، الوليد وسليمان ويزيد وهشام  ونحن نخص منهم يزيد بالحديث، لأنه أتى في أعقاب عمر بن عبد العزيز، الذي قيل عنه أنه ملأ الدنيا عدلاً طوال عامين، فإذا بيزيد يأتي بعده لكي يملأها مغاني وشراباً ومجوناً وخلاعة طوال أربعة أعوام. ويذكر السيوطي ( تاريخ الخلفاء ص 246. ) : أنه ما أن ولي ( حتى أتى بأربعين شيخاً فشهدوا له ما على الخليفة حساب ولا عذاب ) . 

وهنا يدرك القارئ أن العلة لم تقتصر على الخلفاء، وإنما امتدت أيضاً إلى العلماء والفقهاء وأنه ما دام هؤلاء يفتون أنه لا حساب على يزيد ولا عذاب ولا عقاب، فليفعل يزيد ما يشاء  وليتفوق على خلفاء الدولة الإسلامية كلها في بابين لا يطاوله فيهما أحد وهما العشق والغناء، فقد بدأ خلافته بعشق ( سلامة ) وانتهت خلافته، بل وحياته بسبب عشقه لجارية أخرى اسمها ( حبابة ) . 

وقبل أن نتحدث عن بعض من ذلك ، نذكر له أيضاً رغبة تفرد بها بين الخلفاء، وذكرت له، ونقلت عنه، وهي رغبته في أن ( يطير ) .. 

وقصة ذلك أنه كان يوماً في مجلسه، فغنته حبابة ثم غنته سلامه ( فطرب طرباً شديداً ثم قال : أريد أن أطير، فقالت له حبابة : يا مولاي، فعلى من تدع الأمة وتدعنا ) .. 
طبعاً، ماذا يفعل المسلمون لو طار الخليفة، من يملأ أنحاء الدولة الإسلامية طرباً وغناء، وعشقاً واشتهاء، ويذكر المسعودي ( أن أبا حمزه الخارجي قال : اقعد يزيد حبابة عن يمينه وسلامه عن يساره، وقال أريد أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه. 
ويروي ابن كثير قصة وفاة يزيد على النحو التالي ( البداية والنهاية لابن كثير – مجلد 5 جزء 9 ص 242 ويذكر المسعودي نفس الرواية في مروج الذهب ج 3 ص 207) :

 
( وقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها حبّابة – بتشديد الباء الأولى وكانت جميلة جداً، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان : لقد هممت أن أحجر على يديك، فباعها ، فلما بقى أفضت إليه الخلافة قالت امرأته سعدة يوماً : يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء ؟ قال نعم ، حبابة ، فبعثت امرأته فاشترتها له ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضاً : يا أمير المؤمنين، هل بقى في نفسك من أمر الدنيا شيء ؟، قال : أو ما أخبرتك ؟ فقالت هذه حبابة – وأبرزتها وأخلته بها وتركته وإياها – فحظيت الجارية عنده وكذلك زوجته أيضاً، فقال يوماً أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد ، ففعل ذلك، وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده فيه أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة، فبينما هو معها في ذلك القصر، على أسر حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك  فشرقت بها وماتت، فمكث أياماً يقبلها ويرشفها وهي ميتة حتى أنتنت وجيفت فأمر بدفنها فلما دفنها أقام أياماً عندها على قبرها هائماً ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه ). 

والقصة كما يذكرها ابن كثير ، نموذج فريد لصحيح العشق، وأصيل الغرام، ولا بأس أن تذوب لها قلوب الصبية، وتنفطر لها قلوب الصبايا ، وتسيل من أجلها قلوب المحبين ، لكنها – في تقديرنا – شاذة أشد ما يكون الشذوذ، بعيدة أكثر ما يكون البعد، عندما يتعلق الأمر بأمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخادم الحرمين، وحامي حمى الإيمان، والملتزم بأحكام القرآن، وبسنة نبي الرحمن .

ولعلنا نتساءل ومعنا كل الحق، ما بال المطالبين بعودة الخلافة يستنكرون الحانات، ويفسقون المغنيات ويكفرون الراقصات، بينما هذا من ذاك بل هذا بعض ذاك، ولقد عاصر يزيد أئمة كباراً، وفقهاء عظاماً من أمثال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم، وكانوا أقرب ما يكونون إلى التقية، وكانوا يوصلون بالعطايا ويتحفون بالهدايا ويؤدون أحياناً دوراً مرسوماً بدقة، محدداً بحنكة، يظهر فيه الخليفة مسبل العينين، يسألهم فيجيبون، ويطلب منهم الموعظة فيعظون، وربما خوفوه من النار، وعذاب الجبار، ووحدة القبر، وموقف الحشر، وهو منصت خاشع، تسيل دموعه مدراراً، بينما هم مدركون لحدود الحديث، ومدى الموعظة، لا يتجاوزون إلى التعريض بالخلافة، أو التهديد بتأليب الرعية، أو الحكم بالكفر، ذلك كله خارج السيناريو المرسوم والمعلوم، والذي ينتهي دائماً بصراخ الخليفة ونحيبه، حتى يخشى عليه أو يغشى عليه، أيهما أقرب إلى قدراته، وأنسب لملكاته وما أسرع ما ينتقل الأمر إلى الرعية بسرعة البرق، فيتداولونه في خشوع وإيمان، وينقله إلينا كتاب الديوان، فنشربه كما شربته رعية يزيد وغير يزيد، ونشرب معه المزيد، مما تسطره أقلام المحترفين، وتردده على مسامعنا ألسنة المكفرين والجهاديين، ما علينا، ففي الجعبة مزيد. 

غير أنا نتوقع أن يعترض علينا معترض، رافعاً في وجهنا ما يراه حجة، منكراً علينا ما أنكرناه على يزيد، مؤكداً لنا أن يزيد لم يرتكب منكراً، ولم يقترف إثماً، فالتسري بالجواري والتمتع بما ملكت الأيمان أمر لا ينكره الشرع، ولا يشترط فيه القران، ولا ينهى عنه القرآن  وهو رخصة ترخص بها يزيد، وترخص بها كبار الصحابة قبل يزيد، والله يحب أن تؤتي رخصة كما تؤتي عزائمه. 

وقد كان يزيد ككثيرين في عصرنا، يتعشقون الرخص، ويسبقون بها العزائم، وهنا نقول له قف، وحاذر فأنك تركب صعباً، فنحن وأن وافقناك على أن التسري بالجواري والتمتع بها ملكت الأيمان، لا يتناقض مع روح عصر يزيد، ولا يخالف أحكام القرآن، إلا أنك يجب أن تدرك أن للإسلام روحاً، وللدين جوهراً، وللرخص حدوداً. 

وليس منطقياً أن تكون إباحة التسري سبيلاً إلى التهتك، أو التمتع بما ملكت الأيمان وسيلة لهجر الإيمان، أو الحلال سبيلاً إلى التحلل، وإذا كنا نناشد الرعية غض البصر، ونتوعدهم بالعذاب إذا زنى النظر، فلا أقل من أن ننهى الخليفة عن التفرغ للخلوة على أسر حال وأهنأ بال، لاثماً راشفاً متمنياً أن يطير، لا لشيء إلا لأن الله أعطاه جناحين، من مال وسلطان، فتوسع فيما ملكت الأيمان . 

ولعل يزيد لم يكن في ذلك فلتة، فقد روي عن الخليفة المتوكل – العباسي أنه : ( كان منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سرية، ووطىء الجميع ) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 349 –  350 ) . 

وقد تثير هذه القدرات الخارقة لعاب منتجي أفلام ( البورنو ) في عصرنا الحديث، لكنها ممجوجة مكروهة إن كان الحديث عن الحكام، في الإسلام أو حتى في غير الإسلام، ولعل هذا كاف حتى يلزم المعترض علينا حده، ويثوب إلى رشده، ويتركنا ننتقل من حديث يزيد إلى حديث ولده، الوليد بن يزيد الذي أوصى له يزيد بالخلافة بعد أخيه هشام، ووفى هشام بعهده لأخيه، رغم ما كان يسمعه ويأتيه، من أخبار فسق الوليد ومجونه، وهي أخبار تأكدت بعد ولايته، حين فاق الوليد أباه بل فاق ما عداه، وفعل ما لم يفعله أحد في الأولين والآخرين حيث يروي عنه أنه قد اشتهر بالمجون وبالشراب وباللواط وصدق أو لا تصدق، برشق المصحف بالسهام، وكان إلى جانب ذلك شاعراً مطبوعاً، سهل العبارة، يحسن اختيار الألفاظ ورويه . 

وقد شاء الله أن يروقه هذه الموهبة حتى يخلد لنا آثاره شعراً يتناقله الرواة، ويتبعونه بالعياذ بالله، وبلا حول ولا قوة إلا بالله، وربما بشهادة أن لا إله إلا الله ، ومن حسن حظ الوليد، وسوء حظ القارئ أن كثيراً من شعره وبعضاً من قصصه، لا نستطيع روايته لوقاحة ألفاظه  وشذوذ أفعاله، لكن لا بأس أن نبدأ حديث الوليد بالمدافعين عنه : 

فقد ( قال الذهبي : لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة، بل اشتهر بالخمر والتلوط ، فخرجوا عليه لذلك، وذكر الوليد مرة عند المهتدي فقال رجل : كان زنديقاً، فقال المهتدي : مه، خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق ) 

هذا حديث المدافعين عن الوليد، المنكرين أن يتهم بالكفر، أو أن يوصف بالزندقة، وهم في دفاعهم يسوقون حججاً هشة، فمن قائل أنه لم يتجاوز التلوط أو شرب الخمر، وكأن ذلك هين ويسير، ومن قائل أن الله أرحم من أن يجعل خلافته في زنديق، بينما نرى أن الله قد رحمنا بخلافة الزنادقة، من أمثال الوليد ، حتى يعطي أمثالنا حجة نفحم بها المزايدين ، المدعين أن الدولة لا تنفصل عن الدين، وأنهما معاً حبل الإسلام المتين ، بينما حقيقة الأمر أن الإسلام في أعلى عليين، وأنه لا يضار إلا بالمسلمين، وعلى رأسهم الحكام باسم الإسلام، وإنه لا ضمان للمحكومين إن جار الحكام وأفسدوا، فبيعتهم مؤبدة، والشورى – إن وجدت – غير مُلزِمة  أو إن شئنا الدقة مقيدة . 

وأقرأ معي ما فعل الوليد حين (قرأ ذات يوم – ” واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد ” – فدعا بالمصحف فنصبه غرضاً للنشاب ” السهام ” وأقبل يرميه وهو يقول: 

أتوعد كل جبار عنيد                فها أنا ذاك جبار عنيد 

إذا ما جئت ربك يوم الحشر          فقل يارب خرقني الوليد 

وذكر محمد بن يزيد المبرد ” النحوي ” أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي وأن الوحي لم يأته عن ربه ، ومن ذلك الشعر: 

تلعب بالخلافة هاشمي                  بلا وحي أتاه ولا كتاب 

فقل لله يمنعني طعامي                  وقل لله يمنعني شرابي 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...