تحقيق صادم: عبيد الشمندر.. ثمن السكر (الحلقة الأخيرة)

بينما يجري الحديث والمطالبة برؤوس ’’الموظفين الأشباح‘‘ الذين يتقاضون أجور وظيفة لا يقومون بها ويتواجدون في ’’سجل‘‘ موظفي المملكة دون أن يكون لهم وجود في مواقع عملهم، وقفنا بالمقابل على ’’العمال الأشباح‘‘ الذين يكدون ليل نهار دون أن يكون لهم وجود قانوني على ’’السجل‘‘ المذكور، عمال تقف عليهم دورة الإنتاج لكن حين الحديث عن ما يمكنهم تحصيله من حقوق تجد أن الجميع يتبرأون منهم كمرضى مصابين بالجذام.

 

للإطلاع على الحقات السابقة من هذا التحقيق:

الحلقة الأولى (المرجو الضغط هنا)

الحلقة الثانية (المرجو الضغط هنا) 

الحلقة الثالثة (المرجو الضغط هنا)  

الحلقة الرابعة (المرجو الضغط هنا) 

الحلقة الخامسة (المرجو الضغط هنا)

 

تحقيق من إنجاز: خالد أبورقية

فريق التحقيق: عبد الحق سابق- عبد اللطيف فضول – حسن الناصري – نور الدين عزراوي.

ساهم في إنجاح التحقيق: عبد الواحد السعدي – نور الدين السعدي – حسن عراش – أحمد المرضي – جمال سقاوي – سعيد الحساني – عبد العالي بنعبو.

 

ثمــن الســكر:

 

وجهتنا التالية بعد الخروج بسلام من مقر شركة النقل كانت المعمل، كان علينا التوجه إلى وحدة إنتاج السكر بأولاد عياد يومين متتابعين لطلب لقاء أحد المسؤولين، تركنا رقم الهاتف لدى حراس أمن المعمل في اليوم الأول وألححنا عليهم، حصلنا على رقم هاتف مدير الإنتاج لكنه كان في مهمة بمدينة أخرى. اقترح علينا الاتصال بأحد الزملاء وهو صحافي يعرف تفاصيل عملية الإنتاج وكل ما قد نحتاج لمعرفته لكننا أصررنا على لقاء أحد المسؤولين، وأوضحنا أننا نرغب بطرح أسئلة محددة.

في اليوم الثاني لم نتمكن من لقاء أي مسؤول مرة أخرى، فعلى ما يبدو كانوا منشغلين لكننا أصررنا واتصلنا بمدير الإنتاج مرة أخرى الذي كان لا يزال مسافرا، تركنا رقم الهاتف مرة أخرى وكنا بصدد أخذ قرار نشر التحقيق بدون أخذ ردود وأجوبة إدارة المعمل، لكن بعد ساعات تلقينا اتصالا، كان أحد مسؤولي المعمل مكلف بالشؤون القانونية على طرف الخط يدعونا للحضور في اليوم الموالي.

بعد الخضوع للإجراءات الأمنية المتبعة في المعمل، اجتزنا البوابة الزرقاء التي اعتادت أن تشهد احتجاجات طالبي الشغل، بعد خطوات أصبحنا في الجهة الأخرى للقصة ننقل رواية المعمل. هنا يعاملك المسؤولون بتقدير واحترام ويشعرونك أنهم يقدرون ما تقوم به، لكنهم لا ينفكون يكررون الحديث عن المصداقية والنزاهة في نقل الخبر، كما لم يعفوا أنفسهم من طرح السؤال الذي يبدو مهما هنا: لماذا أتينا ولماذا بالضبط اخترنا هذا الموضوع؟ وهل هناك من حرضنا ضد المعمل؟ هذه أسئلة وجهت إلينا بلباقة وأحيانا في شكل مزاح أو في ختام رد على سؤال من أسئلتنا وكان علينا في كل مرة وبنفس اللباقة توضيح طبيعة مهمتنا وعملنا.

بعد أزيد من نصف ساعة على بداية اللقاء والتي كانت مجرد حديث عام انتظرنا فيها التحاق مدير الإنتاج بالمكلف بالشؤون القانونية، قال الأخير ’’حسنا نحن رهن إشارتكم ما هي أسئلتكم؟‘‘ سؤالنا كان مباشرا، ورد المسؤولون أن المعمل تربطه علاقة بشركة النقل فقط عبر عقد، وأن وحدة الإنتاج بأولاد عياد لا علاقة لها بالعمال.

أوضح المسؤولان أن عمال شحن الشمندر من الحقول هم شبه مختصين، وأنهم يأتون بشكل سنوي إلى هنا، وأنهم يعلمون مسبقا ثمن الشحن وأنهم يقبلون هذه الشروط، وأشارا إلى أن المعمل رغم غياب أي التزام قانوني أو علاقة بينه وبينهم إلا أنه يقدم على مجموعة من الإجراءات التحفيزية لصالحهم ولصالح سائقي وأرباب الشاحنات، كتوفير وجبة الإفطار خلال شهر رمضان في مطعم المعمل أو صرف ثمنها لشركة النقل التي تتكفل بتسليمه لهم.

في حديثنا الطويل والهادئ مع المسؤولين، قللا من شأن تصريحات العمال حول الأجرة التي يحصلونها في نهاية الموسم، وعبر عملية حسابية لعدد الشحنات المفترضة، ووزن الحمولة استطاع مدير الإنتاج أن يستنتج أن كل عامل يوفر ما قدره 200 درهم في اليوم، كما أنه من خلال عملية حسابية للمدة الزمنية استنتج أن العمال تتوفر لهم بين الشحنة والتي تليها ثلاث ساعات حين تحدثنا عن تصريحات العمال أنهم لا ينامون طيلة الموسم.

استمر حوارنا هادئا وبذل المسؤولان مجهودهما ليوضحا لنا أن تصريحات العمال ليست كلها صائبة، وأوضحا أن عمال الشحن ليسوا مرتبطين لا بالمعمل ولا بشركة النقل، بل هم مرتبطون بأرباب الشاحنات والسائقين، لكن المفاجأة أن شركة النقل تشترط على الشاحنات تأمين عمال الشحن، ولذلك يستحيل أن يحصل صاحب الشاحنة على العمل ما لم يؤمن فريقا من العمال.

بينما كنا نعمل على تحقيقنا، بلغنا أن ’’عبيد الشمندر‘‘ يتظاهرون داخل المعمل، يوم 17 يونيو 2014، انتفض أصحاب الشاحنات، السائقون خصوصا، ثم انضم إليهم عمال الشحن، للمطالبة برفع الأجرة والتعويضات، الاحتجاج الذي أربك السير العادي لعملية الإنتاج، أشعل فتيله حسب مصادرنا تعطل آلة التفريغ لتتم مطالبة الشاحنات بإحضار العمال من أجل القيام بالتفريغ، وهو الطلب الذي شكل نقطة أفاضت الكأس.

عرف يوم الاحتجاج أوقاتا عصيبة اضطرت معها إدارة المعمل للتدخل وحينها قدم المدير العام لمعمل سوطا بأولاد عياد توضيحا للصحافة بهذا الشأن من بين ما جاء فيه: ’’ الإشكال الآن لا يتعلق بأرباب النقل الشمندري، إنما بفئة من العمال المياومين، فئة لم تستطع لسبب ما  مسايرة طبيعة  هذا العمل، وهذا أمر لا يعنينا في العمق،  فهي التي قبلت العمل وفق شروط محددة قبلا مع رب هذه  الشاحنة أو ذاك الجرار، وعليها وفق أخلاقيات الشغل الالتزام إلى نهاية الموسم، ونفس الشيء بالنسبة لآليات النقل فهي الأخرى تشتغل وفق عقدة مع شركة النقل المذكورة، وبالتالي فالعقدة المبرمة بين الجهتين لا تعطي لأي منهما حق تعطيل الاتفاق في منتصف الطريق‘‘.

في حديثنا إلى المسؤولين داخل المعمل كنا نبحث عن حدود تدخل معمل سوطا في علاقات الشغل التي يتم نسجها على هامشه في إطار سلسلة إنتاج السكر التي تبدأ من الحقل وتنتهي في المخازن، وطرحنا سبب انتقال مسؤولين من المعمل إلى فندق ومقهى ’’إريح‘‘، في البداية نفى أحد المسؤولين ذهاب أي شخص من المعمل، وحين ذكرنا أسماء بعينها استدركا ليؤكدا أن الإسم الذي ذكرناه يتعلق بالمديرة الزراعية، وأن اسما آخر لم يعد مرتبطا بالمعمل، أما الاسمين الآخرين فهما مسؤولان من شركة ’’انتصار ترانس‘‘.

بدأت سلسلة من التوضيحات، فالمديرة الزراعية ترافق مسؤولي شركة النقل من أجل السهر على تنفيذ الاتفاق المبرم مع المعمل، وكي تراقب عن كثب استطاعة شركة النقل تأمين العدد المطلوب من الشاحنات، فنحن يجب أن نكون على علم إن كان باستطاعته تأمين العمال وعددهم، وأشاروا إلى أن المعمل يقدم حوافز كثيرة من بينها علاوات لأرباب الشاحنات تصل إلى 750 درهما لمن يصل قبل انطلاق الموسم بثلاثة أيام، كما أن المعمل يخصص عددا من صناديق السكر (16 كلغ للصندوق) للأوائل الذين يحضرون الشحنات الأولى من الشمندر، إضافة إلى تحفيزات أخرى.

بعد التوضيحات التي قدمها المسؤول القانوني ومدير الإنتاج، دعينا إلى مقابلة المدير العام لمعمل سوطا بأولاد عياد الذي أوضح أن المعمل لديه مسؤولية تجاه 14 ألف فلاح ومن خلالهم 14 ألف عائلة، ولا يمكن رغم إبرام عقد مع شركة النقل أن نبقى مكتوفي الأيدي فقد تحدث مفاجأة في أية لحظة، ومن هنا تدخلنا استباقي ويهم توقع المفاجآت.

المدير العام قال: ’’نحن نشرك السلطات أيضا، فعملية انتقال مجموعة من الناس من مكان إلى آخر والمشاكل التي قد تنجم عن ذلك‘‘ وأوضح أن شركة ’’سوطا‘‘ لإنتاج السكر هي قطاع مهيكل حيث أن زراعة الشمندر هي الزراعة الوحيدة المنظمة في المغرب، وتخضع لاتفاقية وطنية بين وزارة الفلاحة ووزارة الداخلية ووزارة الصناعة ووزارة النقل، هذه الاتفاقية تنظم الاشتغال من خلال لجنتين جهويتين، إحداهما يترأسهما والي الجهة وتضم جميع المتدخلين من إدارات ومصالح رسمية ومنتجين، فيما الثانية يترأسها المكتب الجهوي للاستثمار.

وأكد المدير العام على أن مسؤولية المعمل تجاه الفلاح تدفعه لمراقبة عمل شركة النقل للاطمئنان على أن المحصول لن يتأخر أو يفسد في الحقول، وأوضح أن أصحاب الشاحنات متعاقدون مع شركة النقل، وأضاف أن التحفيزات والمساعدات التي يتم تقديمها ليست مضمنة في عقد المعمل مع شركة النقل، لكننا نقدمها من أجل ضمان حسن سير الموسم ومن أجل استفادة الجميع.

غادرنا المعمل بعد لقاء مطول تجاوز ساعة ونصف، قدمت خلالها توضيحات وشروحات ومعطيات ومعلومات، تضاف إلى ما حصلنا عليه من الجهات التي طرقنا أبوابها وتباينت خلال زيارتها طريقة التعامل معنا لكن ظل التوجس منا ومن دافعنا قائما، ومن جهتنا كشفنا أن ’’عبيد الشمندر‘‘ أناس يوجدون على الأرض وتمكنا من مقابلتهم والحديث إليهم، ويشكلون إحدى أهم حلقات الإنتاج، لكننا لم نجد لهم أثرا على الخريطة القانونية للعمل،

بينما يجري الحديث والمطالبة برؤوس ’’الموظفين الأشباح‘‘ الذين يتقاضون أجور وظيفة لا يقومون بها ويتواجدون في ’’سجل‘‘ موظفي المملكة دون أن يكون لهم وجود في مواقع عملهم، وقفنا بالمقابل على ’’العمال الأشباح‘‘ الذين يكدون ليل نهار دون أن يكون لهم وجود قانوني على ’’السجل‘‘ المذكور، عمال تقف عليهم دورة الإنتاج لكن حين الحديث عن ما يمكنهم تحصيله من حقوق تجد أن الجميع يتبرأون منهم كمرضى مصابين بالجذام.

أورد فولتير في روايته مقطعا يقابل فيه ’’كانديد‘‘ الفتى البريء رجلا أسودا قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وفي غمرة تأثره أخبر الرجل الفتى أن الاستغلال هو ما أوصله إلى تلك الحالة، فحين تجز الآلات أصابع العمال يتم بتر أيديهم، وحين يحاولون الهروب من هناك يتم بتر أرجلهم، ’’إنهم يجعلونك تحس بامتياز أن تكون عبدهم‘‘ يقول العبد الذي كان يستغل في معامل السكر وانتهى مبتور الأطراف، ليؤكد أن أطرافه المبتورة هي ثمن السكر الذي تشربه أوروبا.

حين تمسك الملعقة في المرة القادمة، تذكر هؤلاء الذين نزفت سنوات أعمارهم وأحلامهم في الحقول وهم يكررون ركوعهم طول اليوم ويرمون بجذور الشمندر في الحافلات كما يطوحون بأحلامهم ومستقبلهم إلى المجهول، وحين تجد مرارة في قهوتك فلا تتهم البن، ربما يكون مصدر تلك المرارة عرق ودم وقهر تسربوا إلى البلورات البيضاء.




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...