تحقيق صادم: عبيد الشمندر .. تهاوي قطع الدومينو (2/6)

– ملفات تادلة –

هل انتهى فعلا زمن العبودية؟ هل استطاع العالم تجاوز علاقة الاستغلال الفج والكامل؟ ألا يبدو العالم فقط قام بعملية تجميل غير مكلفة لهذه العلاقة؟ هل يمكن الحديث عن الحرية والقضاء على هذه العلاقة المقيتة التي اعتبرتها الإنسانية إحدى النقط السوداء والسيئة في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ إن كان للعبودية أن تتطور وتساير روح العصر، أي شكل من الأشكال يمكن أن تتخذه في عصر الأنترنيت والعالم المفتوح على مصراعيه والتطور التقني والتكنولوجي؟

في هذا التحقيق الذي ننشره على ست حلقات نأخذكم في رحلة تضعنا على طريق البحث والتقصي في هذه العلاقة، حيث سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام تاريخ يستعاد ويعاد إنتاجه، تاريخ العبودية بكامل بشاعته.

في الحلقة السابقة كان بحث فريق التحقيق جاريا عن عبيد الشمندر حيث أخبرنا دليلنا بتواجد البعض منهم في محيط معمل السكر، وأثناء البحث التقينا فئة أخرى كشفت معاناتها مع العمل الموسمي، إنها فئة طالبي العمل الموسمي داخل المعمل. تحدثوا إلينا بحرقة لكن دليلنا عبد الواحد أكد أننا سنكشف ما هو أشد، وأرشدنا إلى منعطف على يسار باب ’’المعبد‘‘ حيث سنضع أقدامنا على أول الطريق المؤدي إلى حقول القهر، لم تكن التواصل في البداية سهلا لكن سيرى القارئ كيف ستتهاوى قطع الدومينو.

 

للإطلاع على الحلقة الأولى من التحقيق (اضغط هنا)

 

 تحقيق من إنجاز: خالد أبورقية

 

البحث عن عبيد الشمندر .. توجس وحذر:

عبد الواحد الذي يعمل الآن موظفا بعد سنوات من الاحتجاج، اشتغل عدة سنوات كعامل موسمي في هذه الوحدة، ويعرف كل تفاصيل عملية الإنتاج، مثلما يعرف كل مكان في ’’المعبد‘‘ كما يفضل أن يسميه، ويعرف توزيع النفوذ داخله. يقول أن ’’الشمندر يتحكم في حياة الناس هنا، ويحدد ما سيمكنهم فعله خلال السنة، إنه يضبط إيقاعهم، ومئات الأسر مرتبطة بشكل خاص به حيث تعتبر شهور الموسم نقطة ضوء وحيدة بالنسبة للجميع، ومن فاته أن يستفيد منه فسيقضي سنة بيضاء من العوز‘‘. ويختم قائلا ’’إن المدينة بكاملها رهينة هذه المادة، ولكنكم سترون عبيدا حقيقيين لها بكل ما تحمل كلمة العبيد من معنى‘‘.

انحرفنا يسارا عشرات الأمتار، بعد أن تركنا شباب المدينة في اعتصامهم، وعلى مساحة أمام المعمل اكتشفنا أكواخا قليلة من القصب منغلقة على الخارج مفتوحة على بعضها، يمكنك السير في أزقة ضيقة طولها لا يصل إلى مئة متر لتجد أن أبوابها تقابل بعضها، إنها مقاهي ’’العبيد والمساجين والمجاذيب‘‘.

 

زقاقان وثلاثة صفوف فقط هي ما تشكله هذه المقاهي التي تبدو فسيحة قليلا من الداخل، بينما لم ننتبه لها ونحن نصل إلى المكان في البداية رغم أنها أول ما يقابل الوافد إلى المكان. الصف الأول أقيم على طول سور ’’المعبد‘‘ يفصله زقاق ضيق عن الصف الثاني الذي يفصله زقاق آخر ضيق ومغطى بقطع من البلاستيك عن الصف الثالث.

لكي تمر من الصف المحاذي لسور المعمل إلى الصف الثاني، عليك أن تحترس من أخدود شقه أصحاب المقاهي لصرف المياه التي تنتهي ضحلة غير بعيد، هنا من العبث الحديث عن النظافة، فالطاولات فقدت ألوانها ولم تعد بحاجة إلى تنظيف ويكفي فقط تمرير قطعة ثوب أو اسفنجة متسخة لرمي القطع الصلبة من بقايا الطعام على الأرض التي لا حاجة لكنسها، أما الكراسي فقد تكون بقايا كراسي تم ترقيعها أو صندوقا أو حتى حجرة.

حين دخلنا إلى المقهى الأول اكتشفنا صعوبة الحصول على شهادات ممن هم بالداخل، فالحيطة والحذر سمتان أساسيتان، ومن هم هنا يتحلقون حول طاولة، أو ما اتفقوا على أن يتخذوه طاولة لهم، على شكل جماعات، ومعظم الحديث يجري بالأمازيغية التي صادف أن الكلمات القليلة التي نستطيع النطق بها منها لا تكفي لحديث يدوم أكثر من دقيقة.

طلب منا عبد الواحد أن ننتظر قليلا ريثما يجد من يسهل لنا التواصل مع من جئنا للبحث عنهم، فالحديث إليهم يتطلب أن نكسب ثقتهم التي تمر بالضرورة عبر وسيط يثقون به بشكل جيد. طلبنا شايا وطعاما من أحشاء البقر وإناء فاصولياء لسد بعض الجوع ولبعث مزيد من الارتياح في نفوس هؤلاء الذين يستغربون وجودنا هناك بنظرات قد تصل حد الاستنكار تجللها الريبة من الكاميرا التي في يد مصورنا والتي اضطررنا لإخفائها ريثما يعود دليلنا.

مقهى ميكانيك السيارات: 

عاد عبد الواحد وطلب منا الانتقال إلى كوخ-مقهى آخر، وحين كنا نخرج من الكوخ-المقهى الأول سمعنا همهمة تسري خلفنا: ’’الصحافة، صحافيون، جورنان، يصورون‘‘  لكنها لم تكن كافية لتزيل الريبة منا وتفك انطواء من كانوا هناك.

في المقهى-الكوخ الثاني وجدنا مجموعة من الأشخاص بينهم ألفة واضحة، دخلنا وقدم لنا صاحب المقهى كرسيا واحدا كان هو المتوفر فيما بقية المرافقين تدبروا أمر جلسوهم أو ظلوا واقفين. مرت دقائق من الترقب بيننا وبين عمال الشمندر، حاولنا فيها كسر جليد التواصل بالسؤال عن أحوالهم وتبادل بعض المستملحات لتلطيف جو الحديث.

المقهى عبارة عن كوخ يستند إلى سور المعمل الذي أعفى صاحبه من اقتناء قصب إضافي، ويحيط بقية المقهى سياج من القصب المدعم بقطع من البلاستيك، وفيما يشكل البلاستيك غطاء جزء من السقف يقع فوق المصطبة التي هي مجرد قطعة خشبية طويلة، بقي جزء آخر من السقف عاريا.

داخل المقهى أرضية متربة تلقى عليها بقايا الأكل التي يسهل سحقها بالأقدام، وبوسعك أن تغسل يديك حيث أنت أو تسكب ماء من قدح أو تسكب حثالة الشاي في كأسك بلا حرج. الطاولات لا تتجاوز ثلاث أو أربع طاولات بينها تفاوت غير عادي في الطول والحجم، بينما الكراسي لا تكفي على الأقل لمن وجدناهم هناك.

لحظة دخولنا كان أشخاص يتناولون وجبة العشاء في مجموعات ويجلسون كيفما اتفق، أحدهم كان ممددا على كرسي طويل قد يستعمل للنوم، وفوقه وعلى طول سور المعمل داخل الكوخ حبل علقت به حقائب ظهر أخبرنا أنها للعمال. فوق المصطبة لوحة كتب عليها ’’ميكانيك السيارات‘‘ بينما في الجانب المقابل لها وضعت عشرات من إطارات عجلات الشاحنات بعضها فوق بعض، اكتشفنا أن العمال يسرقون بعض الوقت ليمددوا أجسادهم عليها لاستراحة قصيرة يسترقون فيها لحظات للنوم.

وجدنا أثر زيوت التشحيم على الأرض فيما يبدو أن المقهى يستعمل أيضا كورشة للإصلاحات العاجلة وتغيير وتخزين إطارات العجلات بما أن مرتاديه لا يجدون وقتا للجلوس، كما وضعت الأواني والأباريق على المصطبة بينما براميل يغرف منها العطشى الماء وضعت في الوسط.

إنهم يتحدثون .. تهاوي قطع الدومينو:

كما يحدث مع قطع الدومينو، التي يكفي إسقاط واحدة منها لتتداعى الآلاف، تداعى ’’بوح‘‘ المعذبين كما قال علي الذي تحدث بلغة دارجة ولكنة أمازيغية واضحة، ’’بغيتونا نبوحو؟/ تريدون أن نبوح؟‘‘ هكذا نطقها بحرقة واضحة، رغم أن المصطلح ليس دارجا وغير مستعمل لكنه استله من معاناة حقيقية يسرد تفاصيلها بغبن، وما أن تحدث إلينا أمغار واطمأن الآخرون حتى انطلق البوح بحكاية العبودية الموسمية.

العذاب، يقول أمغار، ’’إنه عذاب حقيقي وليس عملا‘‘، يتحدث أمغار بتوتر وهو يضغط على الكلمات التي لا تغيب عنها اللكنة الأمازيغية، ورغم أنه لم يتلق أي تعليم فإنه بسلاسة ينطق جملة وحيدة باللغة الفرنسية ’’sans arrêt’’ في إشارة إلى العمل بدون توقف وهي جملة تداولها بعض الحاضرين بدورهم بما يوحي أنها تشكل جزءا من قاموسهم.

أمغار سائق شاحنة، من منطقة أمسمرير بإقليم تنغير الواقع في الجنوب الشرقي، متزوج وأب لثمانية أبناء، يقول أنه مضطر للقدوم هنا والعمل في شروط أكثر من قاسية، فهنا العمل لا يتوقف 24 ساعة على 24 ساعة، وهو مرغم كما يقول على هذا العمل منذ 30 سنة.

سألناهم متى يبدأون العمل؟ فكان جوابهم جماعيا ’’نبدأ في كل وقت، نحن نعمل باستمرار‘‘ وحين سألناهم متى تتوقفون؟ انفجروا جميعا ضاحكين وبدونا كسذج بينهم، ’’نحن لا نتوقف عن العمل ولا نرتاح إلى أن ينتهي موسم الشمندر‘‘، صدمنا الجواب ولم نصدقه، فسألنا مرة أخرى: متى تنامون؟ فأجابوا دفعة واحدة ’’نحن لا ننام، لا يمكننا النوم، إن نمنا نموت جوعا‘‘.

كان أغلبية الحاضرين من سائقي الشاحنات ومساعديهم وبعض مساعدي الشحن، وفرصة لقائنا بهم كانت فقط في فترة انتظار تفريغ الحمولة من أجل العودة إلى الحقل للشحن ثم العودة للتفريغ ثم الشحن مرة أخرى وهكذا دواليك إلى أن ينتهي موسم الشمندر، وفي انتظار الشحن أو التفريغ قد يلقون بأجسادهم على إطارات الشاحنات هنا في المقهى أو تحت السماء هناك في الحقل.

علي، 32 سنة متزوج وأب لطفلين، لا يذكر المستوى الدراسي الذي توقف عنده لكنه لم يتجاوز المستوى الابتدائي، قدم بدوره من أمسمرير، تجاوز حديثا أدلى به في البداية عن أن ’’أصحاب المعمل‘‘ يفضلون تشغيلهم لأنهم يتفانون في العمل، ويتوفرون على إرادة تؤهلهم للصبر، وفوق هذا لأنهم أهل ثقة وأمانة.

أصبح علي أكثر ’’بوحا‘‘ على حد تعبيره، فهذا ’’العمل لا يستطيع تحمله أحد، وهو يستحق أكثر من الأجر الذي يعطى لنا، نعمل بدون توقف، بدون توقف، ونحن مرتبطون بالحمولة متى تم تفريغها علينا أن نشرع في التحميل وفي أي وقت‘‘ ويتوقف لحظة ليعبر عن ما يعيشونه بجملة مختلفة ’’ماشي الحقد هذا؟ راه الحقد/ أليس هذا حقدا؟ إنه حقد‘‘. وللمرة الأولى نكتشف أن للحقد معنى أكثر عمقا لم يرد في القاموس، إنه يعني الاستغلال التام والكامل والنهائي للإنسان.

كلما تحدث إلينا أحد الحاضرين ارتفع إيقاع البوح وانضم إليه آخرون، وفي لحظة تحلق حولنا عدد كبير كل منهم يرغب أن يحكي قصته، علي أجاب على سؤالنا حول سبب قدومه على مدى 14 سنة متوالية قائلا: ’’هذا موسم لا يمكننا أن نخلفه، يجب علينا الحضور وتوفير ما يمكن توفيره، على الأقل لنعيش شهرين أو ثلاثة على الأكثر في أحسن الأحوال، إن فوتنا هذا الموسم فلا نعلم ما يمكن أن يكون مصيرنا‘‘.

وقبل أن يتم علي جملته، انبرى شخص من المتحلقين للحديث ودون أن نسأله قال: ’’إنها عادة شبيهة بالتدخين والمخدرات، أنا أعمل هنا منذ 24 سنة، ولا أعلم كيف أصل إلى هنا كل سنة، هل تعرف القمار؟ نعلم أنه سيء لكن هناك من ينقاد إليه‘‘. ويتابع بحرقة ’’ أنا هنا منذ سنة 1983 وأحضر كل عام، ولكن رغم ذلك أقول لك الله يلعن ابوها حرفة‘‘. وحين قلنا له أن 31 سنة مرت منذ 1983 وليس 24 سنة كما ذكر، قال أنه لم يتلق تعليما ولا يعرف الحساب.

للاطلاع على الحلقة الثالثة (المرجو الضغط هنا)

 

 

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...