– ملفات تادلة –
هل انتهى فعلا زمن العبودية؟ هل استطاع العالم تجاوز علاقة الاستغلال الفج والكامل؟ ألا يبدو العالم فقط قام بعملية تجميل غير مكلفة لهذه العلاقة؟ هل يمكن الحديث عن الحرية والقضاء على هذه العلاقة المقيتة التي اعتبرتها الإنسانية إحدى النقط السوداء والسيئة في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ إن كان للعبودية أن تتطور وتساير روح العصر، أي شكل من الأشكال يمكن أن تتخذه في عصر الأنترنيت والعالم المفتوح على مصراعيه والتطور التقني والتكنولوجي؟
في هذا التحقيق الذي ننشره على ست حلقات نأخذكم في رحلة تضعنا على طريق البحث والتقصي في هذه العلاقة، حيث سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام تاريخ يستعاد ويعاد إنتاجه، تاريخ العبودية بكامل بشاعته.
تحقيق من إنجاز: خالد أبورقية
وأنت تضع رجلا على رجل في المقهى وتحرك الملعقة في فنجان القهوة، يحدث أن تتجاهل عن طيب خاطر قطعة سكر أو أكثر، يأتي بها النادل فائضة رفقة الفنجان حتى لا تضطر لاستدعائه من أجل مزيد من السكر أو للاحتجاج على سوء الخدمة.
أمام هذا الكرم الباذخ لا يبدو أنك تتساءل كيف وصلت قطعة السكر تلك إلى فنجانك؟ ما هي الأيادي والآلات التي مرت منها المادة الخام التي انتهت قطعة بيضاء في الفنجان أو قطعة مهملة على جانب الطاولة؟
في هذه الرحلة نأخذك إلى إحدى أصعب مراحل إنتاج السكر وأشدها قهرا للإنسان، مرحلة يتحول العرق فيها إلى دم حقيقي بفعل القهر والعمل الشاق، ويتحول الدم إلى بلورات سكر بيضاء، مرحلة لا توردها إحصائيات معامل السكر وهي تتحدث عن ارتفاع معدلات الإنتاج، ولا تقارير الحكومة وهي تتحدث عن التنمية، ولا حتى بيانات النقابات المرتبطة بالقطاع.
يسمونهم العبيد، وارتأينا أن نسميهم عبيد الشمندر لأن زمن عبوديتهم مرتبط بفترة محددة لا تصل أربعة أشهر هي موسم الشمندر السكري يتحولون بعدها إلى رهائن إلى حين الموسم الموالي. يعيشون بين الحقل والمعمل كظلال، يجلبونهم من أفقر مناطق المغرب الشرقي حيث لا تمدرس ولا تطبيب ولا تنمية إلا للدعاية.
لا يسمع لهم صوت وبالكاد يشعر من هم هنا بوجودهم رغم أن العين لا تخطئهم، فهم يعيشون في شبه عزلة عن ما يجري، كل همهم ملء الشاحنات وإرسالها للتفريغ وملؤها مجددا في دورة لا تنتهي إلى أن يتم عجن آخر حبة شمندر في الحقول، هذه حكاية أناس يتردد فيها صدى الماضي البعيد.
تمرد عند باب المعبد:
الوصول إلى وحدة تصنيع السكر بمدينة أولاد عياد ليس أمرا عسيرا، فالمعمل يوجد على الطريق الوطنية رقم 8 التي تربط بين مدينتي بني ملال ومراكش، ستقطع أقل من 45 كلم جنوبا، ثم تظهر لك خزانات المعمل وعليها اسم الشركة، كما تظهر مداخن تلفظ دخان عملية الإنتاج، وحين تقترب ترى المساحة الشاسعة التي تحتلها وحدة الإنتاج، والسياج الذي يحيط بها ويمنحها الهيبة.
يسميه النشطاء هنا ’’المعبد‘‘ للإشارة إلى الهالة التي تحيط بالوحدة الإنتاجية التي كانت تتبع الهولدينغ الملكي إلى وقت قريب، حيث تشهد انطلاق عملية الإنتاج في كل موسم استعدادات خاصة يتوجها حضور عامل إقليم الفقيه بنصالح بعد أن تم إحداث العمالة التي يقع المعمل ضمن ترابها، فيما كانت تتم العملية بحضور والي جهة تادلة أزيلال سابقا.
ويسميه النشطاء ’’المعبد‘‘ أيضا للتدليل على طبيعة العلاقات التي تحكم العمل داخله، ويطلقون أسماء آلهة وكهنة على مسؤوليه ورؤساء مصالحه.
محيط ’’المعبد‘‘ كما يرى الوافد يوحي بالصمت المطبق والهدوء خصوصا من الجهة الواقعة على الطريق الوطنية، صمت يضفي الهيبة على الوحدة التي ينصهر في جوفها عرق العمال ودماء المصابين وأطنان الشمندر في هدير مكتوم لا يتوقف طالما الآلات تعجن بلا رحمة أيام وجهد العمال تماما مثلما تعجن جذور الشمندر السكري.
منذ ثلاث سنوات على الأقل، فقد ’’المعبد‘‘ بعضا من هيبته، حين قرر شباب المدينة أن يسلكوا سبيل الاحتجاج من أجل الاستفادة من منصب شغل موسمي، بدل اللجوء إلى الوسطاء والسماسرة والمنتفعين لعبور البوابة الزرقاء كما صرحوا لنا، ويبدو أن الشباب وهم يستلهمون الربيع الديمقراطي كانوا يأملون أن يتم العمل الموسمي بديمقراطية وشفافية أكبر، والأهم أن تعمم الاستفادة على الجميع، تماما مثلما يعمم التلوث والرائحة الكريهة.
يقول نورالدين مرافقنا أنه ’’منذ ثلاث سنوات وبفضل التراكم والوعي الذي خلفته حركة 20 فبراير وتنسيقية اولاد عياد لمحاربة التهميش والإقصاء، قرر شباب المدينة التصدي للتلاعبات التي تعرفها عملية التشغيل في المعمل، وفضح العلاقات التي خلقت فئة من السماسرة بينهم منتخبون وموظفون وحتى نقابيون باعوا ضمائرهم وباعوا أبناء الفقراء ليصبح العمل الموسمي على هزالة مردوديته امتيازا يناله من يدفع الرشوة أو يقدم ولاءات معينة‘‘.
ومنذ ذلك الحين أصبحت بوابة المعمل ساحة للاحتجاج، ورغم أن الشهر الأول من الموسم انقضى وجدنا أعدادا من الشباب مرابطين أمام البوابة للمطالبة بالشغل، وبين الفينة والأخرى تعلو أصواتهم بالشعارات التي تطالب بالشغل وتندد بما يجري خلف البوابة الزرقاء، كما أن فرق القوات العمومية أصبحت مرابطة في الداخل للتعامل مع أي احتجاج، وهو ما يخلف بين الفينة والأخرى مصابين ومعتقلين يتابعون في حالة سراح.
متمردون ومحظوظون وعلاقات مريبة:
نجيب شاب في السادسة والعشرين من عمره، أعزب توقف تعليمه في السنة التاسعة من التعليم الأساسي، توفي والده مختنقا داخل المعمل منذ ثلاث سنوات بعد أن عمل بالعقدة لمدة ثلاثين سنة. وجد نجيب نفسه هذه السنة مضطرا للاحتجاج بعد أن أقصي من العمل الموسمي عكس ما وعدته إدارة المعمل فور وفاة والده مختنقا في الداخل.
بلغ اليأس بنجيب بعد احتجاجات طويلة، إلى محاولته إضرام النار في نفسه بعد أن لم يف حراس ’’المعبد‘‘ بوعدهم، فقد عمل شهرا واحدا في السنة التي توفي فيها والده، بينما اضطر للاحتجاج في العام الموالي، ليقرر من يملكون زمام الأمور رفض تشغيله بشكل قاطع.
يقول نجيب أنه ’’ضحية علاقات الزبونية والمحسوبية التي تطبع العمل الموسمي‘‘ فهنا أشخاص لهم علاقات متينة بالمتنفذين، وتخصص لهم نسبة يستفيد منها من يدفع المال أو من يقدم ولاء سياسيا أو حزبيا أو قبليا.
ولم يستطع نجيب أن يتقبل تراجع إدارة المعمل عن وعد تشغيله بشكل مستمر كل موسم، وأرجع سبب ذلك إلى أن المعمل انتظر أن تحكم المحكمة في قضية والده بما يريد ثم بعد ذلك رمى به. ’’نحن لا نعرف حقوقنا ولا ما كان يجب فعله حين توفي والدي في حادث الشغل، والإدارة وعدتنا أن تتكلف بنا، لكنها بمجرد ما حكمت المحكمة في قضية وفاة والدي مختنقا في حادثة شغل، رمت بنا وتنكرت لوعودها‘‘.
محمد 24 سنة، أعزب، غادر مقعد الدراسة من مستوى السنة الثانية باكلوريا، عمل بدوره سابقا في المعمل كعامل موسمي، واضطر للاحتجاج برفقة شباب المدينة بعد تفشي الزبونية والمحسوبية، لكن في هذه السنة رفض طلبه وأخبر أن الإدارة وضعته في لائحة سوداء تضم كل من تظاهر أمام المعمل.
يقول محمد ’’العمل الموسمي يتحكم فيه مجموعة من المرتزقة ومن الأشخاص من ذوي النفوذ المالي والسياسي، ونحن ليس لنا أحد لأننا لا نشكل لهم شيئا، لذلك لم نجد سبيلا سوى الاحتجاج لكن الإدارة هذه السنة قررت أن تتخذ إجراء عقابيا في حقنا باعتبارنا أحد الذين برزوا أثناء الاحتجاج‘‘.
شهادات كثيرة للشباب المرابط أمام المعمل تتحدث عن ما يعتري عملية الاستفادة من العمل الموسمي، وتطابقت شهادات المعتصمين حول الزبونية والمحسوبية والعلاقات المشبوهة، وأجمعت على وجود شبكة علاقات مريبة تضم منتخبين ومسؤولين في المعمل وحتى موظفين في البلدية أهمهم رئيس أحد الأقسام.
كل الشهادات التي استقيناها اعتبرت العمل الموسمي الفرصة الوحيدة لسد عوز بضعة أشهر، وهو موعد يستعد له الشباب بشكل خاص لتوفير مبالغ قليلة تغطي جزءا من الخصاص السنوي الذي يعيشونه. وبينما كان المعتصمون يتحدثون دون توقف كنا بانتظار عبد الواحد، دليلنا في رحلة البحث عن ’’عبيد الشمندر‘‘، وفور وصوله طلب منا الانعطاف بسرعة جهة اليسار، معتبرا أن ما كنا بصدد استقائه ليس سوى حبة رمل أمام تلال القهر التي سنكشف عنها.
للاطلاع على الحلقة الثانية (المرجو الضغط هنا)