الشباب بين السياق المحلي والدينامية العالمية

-محمد ابو القاسم بنكيران-

يعيش المغرب – كسائر بلدان العالم – على إيقاع حركات شبابية متجددة، تتخذ أشكالًا مختلفة: رقمية، ميدانية، ثقافية أو حتى عابرة للحدود. النقاش الدائر حول جدوى هذه الحركات يراوح بين من يراها مجرد “انفعالات عابرة” ومن يضعها في خانة “القوة الدافعة للتاريخ”. لكن لعل الأجدى هو أن ننظر إليها كظاهرة عالمية متكررة، لها قوانينها الخاصة، وليست بالضرورة خاضعة لمنطق التنظيمات السياسية الكلاسيكية.

كيف تتكون فئة الشباب وتتجدد؟

الشباب ليس فئة ثابتة بل مرحلة عمرية انتقالية. يبدأ عند أطراف معينة مع بلوغ المراهقة، وينتهي عند أطراف أخرى حين يتحمل الفرد أدوارًا اجتماعية كاملة كالعمل أو تأسيس أسرة. لكن هذه الحدود ليست جامدة، فهي تتداخل بين مجتمع وآخر وزمن وآخر.

ومع مرور الوقت، يحدث تبادل أدوار بين الأجيال: جيل يخرج من دائرة “الشباب” فيورّث قيمه وخبراته وأحيانًا خيباته، فيما يدخل جيل جديد برؤيته وأدواته الخاصة. بهذا الشكل يصبح الشباب سلسلة متواصلة من الموجات المتعاقبة أكثر مما هو كتلة واحدة متجانسة.

ماذا يعني الشاب في الفضاءات المختلفة؟

بالنسبة للأسرة: هو مشروع ممتد للمستقبل، مصدر أمل وأحيانًا قلق، يختبر توازن العائلة بين التقليد والحداثة.

بالنسبة للمدرسة أو الجامعة: هو متعلم ومجرب، في طور بناء معارفه ومهاراته، لكنه أيضًا يشكل فضاء ضغط على هذه المؤسسات التي تعجز أحيانًا عن تلبية حاجياته.

بالنسبة للشأن العام: هو الفاعل الغائب/الحاضر؛ لا يُعترف به رسميًا كقوة سياسية مستقلة، لكنه يظل موضوع رهانات كبرى تتعلق بالانتخابات، الاحتجاجات، أو السياسات العمومية.

الشباب بين التأثير والتأثر

الشباب يتأثر بالأنظمة القائمة: الثقافية التي تحدد ما هو مقبول أو مرفوض، الاجتماعية التي تفرض أدوارًا وعلاقات، الاقتصادية التي ترسم حدود الفرص، والسياسية التي تفتح أو تغلق مجال المشاركة. لكنه في المقابل يؤثر بدوره: يبتكر لغات جديدة، يفرض أنماط استهلاك مختلفة، يخلق ضغوطًا على السياسات العامة، ويتبنى قضايا محلية أو حتى عابرة للحدود مثل المناخ أو حقوق الإنسان.

آلية التبني عادة ما تبدأ من حدث رمزي أو صورة أو وسم (هاشتاغ)، ثم تتحول إلى تعبئة تدريجية تتوسع لتشمل مواضيع أكثر عمقًا مع مرور الوقت.

من التعبير الفردي إلى الموقف الجمعي

يتحول الشباب من أفراد متفرقين إلى موقف جمعي عبر التفاعل المستمر: في المدارس، الجامعات، فضاءات العمل، أو العالم الرقمي. لكن لغة الخطاب المتداولة – الرسمية أو الحزبية – كثيرًا ما تبدو عاجزة عن التعبير عنهم، ما يدفعهم إلى ابتكار لغة خاصة: رموز، صور، موسيقى، شعارات، وحتى سخرية رقمية.

الأدوات التي يستعملونها تتغير مع الزمن: من المنشورات والجرائد الطلابية في الماضي، إلى المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي في الحاضر، وصولًا إلى ما هو قادم من منصات افتراضية ووسائط تفاعلية.

 –الحالة المغربية

لم تتعامل الدولة في المغرب مع الشباب باعتبارهم رصيداً سياسياً يمكن أن يسهم في تجديد الحياة العامة، بل انتهجت مقاربة معاكسة هدفت إلى تفريغهم من كل حس سياسي. فبعد عجزها عن مواكبة دينامية التعبئة التي عرفها الشباب الجامعي في مرحلة معينة، اختارت سياسة التدمير الممنهج لهذا الوعي. وسخّرت في ذلك أدواتها القمعية، معتمدة على أشخاص محدودي الكفاءة يعانون من عقد نفسية ويجسدون العقلية المخزنية السلطوية. وفي الوقت ذاته، شجعت على التفاهة والسطحية واللامبالاة، لتتخلص مما كانت تعتبره مصدر “إزعاج دائم”. ولم يقتصر الأمر على الشباب، بل طال أيضاً النقابات والأحزاب، إلى أن أُفرغت الساحة السياسية من منافسين حقيقيين.

 –الحالة الدولية

في الأنظمة الشمولية بالدول المتخلفة، نظر إلى الشباب كأداة للتعبئة والسيطرة، حيث أُخضعوا لمنظمات حزبية ورسمية هدفها ضمان الولاء للسلطة. وأي محاولة مستقلة للتعبير أو المبادرة كانت تُواجَه بالقمع والتهميش، ما أدى إلى قتل روح المبادرة السياسية وإغراق الشباب في الإحباط أو دفعهم إلى الهجرة والمعارضة السرية.

أما في الديمقراطيات المتقدمة، فقد شُكّل الشباب قوة تجديد اجتماعي وثقافي. فمنذ ستينيات القرن الماضي، لعبوا دوراً محورياً في الحركات الطلابية والثقافية والحقوقية، وهو ما دفع الدول إلى استيعاب طاقتهم داخل النقابات والهيئات المنتخبة والمؤسسات الوسيطة، مما سمح لهم بالتأثير التدريجي في الحياة العامة.

ومع تراجع الشموليات، لم يُفتح المجال أمام حرية سياسية حقيقية، بل برزت بدائل على شكل هويات قومية أو طائفية أو قطرية، غالباً بواجهات ديمقراطية شكلية. في هذه المرحلة، أُعيد توظيف الشباب كوقود لصراعات الهوية والانتماء، مما حدّ من قدرتهم على أداء دور مستقل في صناعة المستقبل.

وفي الديمقراطيات المعاصرة، خاصة مع أزمات العولمة والبطالة والهجرة، أصبح الشباب هدفاً مباشراً للخطاب الشعبوي واليمين المتطرف. هذا الخطاب قدّم أجوبة سهلة وسريعة لقضايا معقدة، وأعطى الشباب شعوراً بالانتماء والاعتراف، لكنه في المقابل دفعهم نحو الانغلاق والعزلة بدل الانفتاح والإبداع.

 –الإدراك الشبابي بعد كل هذه التحولات

أمام هذه التجارب المتراكمة، أدرك الشباب أنهم كانوا على الدوام مجرد أداة في يد الأنظمة، تُستثمر طاقتهم حيناً وتُستنزف ثم يُستغنى عنهم. ففي الأنظمة الشمولية استُعملوا كوسيلة دعاية وتعبئة، وفي الديمقراطيات الكلاسيكية حُصر دورهم في قنوات محدودة التأثير، بينما جُندوا في مرحلة ما بعد الشمولية لخدمة الهويات القطرية أو الطائفية. ومع صعود الشعبوية، وجدوا أنفسهم مجدداً وقوداً لمشاريع ظرفية تبحث عن شرعية سريعة عبر دغدغة العواطف.

هذا الوعي رسّخ لديهم قناعة بأنهم كانوا ضحايا متكررين لأنظمة تغيّر واجهتها بينما يظل جوهرها قائماً: التلاعب بانتظاراتهم وتوظيف حماسهم لأغراض آنية. لذلك فقد الشباب ثقتهم في الأطر التقليدية، من أحزاب ونقابات ومؤسسات رسمية، واتجهوا إلى تطوير أشكال جديدة من التمرد والعصيان تتجاوز التنظيمات الكلاسيكية.

تجلّت هذه الأشكال في الاحتجاجات الرقمية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وفي حركات غير مؤطرة تتبنى مطالب فورية ومباشرة، وفي أساليب ضغط مبتكرة مثل المقاطعة الاقتصادية أو الحملات الفيروسية على الإنترنت. وهي تحركات تقوم على التنسيق الأفقي والانتشار السريع، ما يجعلها عصية على الاحتواء. كما بات الشباب أكثر جرأة في مساءلة الشرعية السياسية والاجتماعية، وأقل ميلاً إلى الطاعة العمياء. وتمردهم اليوم لم يعد بالضرورة عنيفاً أو أيديولوجياً، بل صار مرناً: فردياً عبر الهجرة أو الانسحاب من السياسة، وجماعياً عبر موجات احتجاج متقطعة لكنها مثابرة وعنيدة.

بهذا المعنى، يعيد الشباب تعريف العصيان المدني بما يتناسب مع زمنهم: عصيان متعدد الأشكال، يجمع بين الفعل الواقعي والافتراضي، ويستمد قوته من وعيهم العميق بأنهم لم يعودوا يقبلون دور “الضحية الدائمة”.

 –النتيجة: نحو وحدة كونية بدائية

الضغط الذي يمارسه الشباب لم يعد مقيداً بحدود الدولة الوطنية أو مرتبطاً بنظام سياسي معين. فبفضل الثورة الرقمية وتشابك الثقافات، أصبح هذا الضغط دورياً يتجدد مع كل أزمة، متكرراً في تجارب متعددة من بلد إلى آخر، توسعياً يطال السياسة والاقتصاد والثقافة، وتبادلياً حيث تنتقل الخبرات وأساليب النضال بسرعة عبر القارات.

وبهذا، تجاوزت موجات الاحتجاج الشبابي الأقطار والأنظمة الحاكمة. فحركة احتجاج في بلد ما تجد صداها في بلد آخر، والوسم الرقمي يتحول إلى رابط كوني، والفعل المحلي يُعاد إنتاجه عالمياً. هكذا ولّدت هذه الدينامية وضعاً جديداً يكاد يفرض على العالم الدخول في حالة بدائية من الوحدة الكونية، حيث يعيش الشباب تجارب متقاربة رغم تباين الأوطان والسياقات.

هذه الوحدة البدائية ليست مؤسسة ولا منظمة، لكنها تقوم على شعور مشترك بالرفض، ووعي متنامٍ بأن القضايا الكبرى (العمل، المناخ، الحرية، العدالة الاجتماعية) لم تعد قابلة للحل داخل حدود الدولة وحدها. ومع تكرار هذه التجارب، يتشكل وعي شبابي كوني، قد لا يكون بعدُ مشروعاً سياسياً متكامل المعالم، لكنه يفتح أفقاً لتحولات عميقة في علاقة الأجيال القادمة بالسلطة والسيادة والهويات الوطنية.

وعليه، فإن ما يقوم به الشباب اليوم لا يمكن اختزاله في كونه مجرد احتجاج ظرفي، بل هو سيرورة تاريخية تعيد ربط مصائر المجتمعات بعضها ببعض، وتزرع بذور وحدة إنسانية بدائية قد تنضج مستقبلاً في شكل أوضح وأكثر تنظيماً.

 




شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...