-محمد لغريب-
في سياق الاحتجاجات الأخيرة التي يعرفها إقليم أزيلال، والتي تميزت بزخمها القوي، وبمطالب وشعارات واضحة تتمثل في ضرورة إعطاء هذا الإقليم حقه في التنمية ورفع المعاناة عن ساكنته. وجهنا ثلاثة أسئلة للدكتورة عائشة العلوي حول هذه الاحتجاجات وإشكالات التنمية بهذه المناطق.
كشفت إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024 عن نسبة البطالة المسجل بإقليم أزيلال بلغت 19.80 في المائة ونسبة الفقر بلغت 17 في المائة وهي الأعلى وطنيا. ما هي بالنسبة لك دلالات هذه المؤشرات؟
حين نقرأ أن نسبة البطالة في إقليم أزيلال بلغت 19.8%، وأن نسبة الفقر وصلت إلى 17%، وهي النسب الأعلى وطنياً، فإننا أمام مؤشرات بنيوية تكشف أكثر مما تخفي. هذه الأرقام لا تعكس فقط صعوبة الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، بل تُجسّد غياب مشروع تحرر تنموي يُجعل من التنمية حقاً سيادياً للدولة لتحقيق استقلالها الاقتصادي ودعم سيادتها على كافة المستويات، وحقاً تنموياً أصيلاً لكل مجال ترابي.
فالتنمية لا يجب أن تُفهم على أنها مجرد بناء طرق أو توفير خدمات أساسية، بل هي قدرة المجال على تحويل موارده البشرية والطبيعية إلى قوة إنتاجية متجددة. إن إقليم أزيلال يعاني من تهميش وتبعية اقتصادية مزدوجة: تبعية للمركز في صياغة السياسات العمومية، وتبعية لاقتصاد وطني يركز على المدن والجهات الكبرى.
هذه الأرقام، إذن، هي إنذار يُفترض أن يدفع إلى ضرورة التفكير في نموذج تنموي محلي يُرسّخ العدالة المجالية كأساس لتحقيق تنمية عادلة ومتوازنة ومستدامة في المغرب. وهذا التوجه يلتقي مع التوجيهات الملكية في عمقها الاستراتيجي؛ فخطاب العرش الأخير أشار إلى جوهر الإشكال بما يتعلق بـ “مغرب السرعتين”: سرعة المدن الكبرى التي تتراكم فيها الاستثمارات والفرص، وسرعة القرى والمناطق الجبلية والواحات التي تواجه الهشاشة وتعاني من ضعف العدالة المجالية والاجتماعية. معالجة هذا الانقسام لا تكون بالوعود وحدها، بل بمشروع تنموي سيادي يعيد الربط بين هذين المغربين ويحقق تنمية متوازنة لا تتخلى عن أي مجال ترابي.
لذا، فإن التنمية اليوم ليست مجرد مسألة استثمار مالي، بل هي معركة حقيقية لبناء مجتمع منتج، قادر على المزج بين الاقتصاد التقليدي واقتصاد الذكاء الاصطناعي، وبين العدالة الاجتماعية والعدالة الرقمية، وبين استثمار الموارد الطبيعية وتنمية القدرات البشرية. إن تجاوز منطق “مغرب السرعتين” يمر حتماً عبر تحرير إمكانات كل مجال محلي، وضمان حق المواطن في الشغل والوصول إلى الإنترنت كما هو حقه في الماء والكهرباء، وهو ما يحقق الاندماج الوطني في بعده الكامل. هذا هو الطريق نحو سيادة حقيقية قادرة على تحويل الفقر والبطالة من إحصائيات مُحبطة إلى دافع لبناء نموذج مغربي متفرد في التنمية المجالية.
هل الاحتجاجات التي يعرفها الإقليم هي إفرازات موضوعية لهذا الواقع؟
الاحتجاجات الاجتماعية التي يعرفها الإقليم ليست طارئة ولا معزولة، بل هي تعبير صريح ونتيجة موضوعية لهذا الواقع التنموي المختل. فحين يشعر الشباب بانسداد الأفق، وغياب فرص عمل كريمة، وتراجع قدرة الأسر على ضمان أساسيات العيش، تصبح الحركة الاحتجاجية تعبيراً عن البحث عن الكرامة والاعتراف. لكن الأهم من ذلك هو أن هذه الاحتجاجات تعبّر عن تعطشٍ لمفهوم جديد للتنمية: تنمية تضع الإنسان في صلب اهتماماتها، وليس مجرد متلقي لبرامج اجتماعية ظرفية.
هنا يتجلى البُعد السيادي بأوضح صوره: فحين يطالب المجتمع بالحق في الشغل والتعليم والصحة والإنترنت، فإنه ليس يطلب امتيازاً، بل يُطالب بحقٍ أساسيٍ من حقوق المواطنة التي تقوم عليها التنمية الحقيقية.
لذا، فبدلا من النظر إلى هذه الاحتجاجات كتهديد، ينبغي تحويلها إلى طاقة إيجابية. يجب تشجيع الشباب على الانخراط في التنظيمات المدنية والفاعلة، إذ من شأن ذلك أن يطور المشاريع التنموية ويساهم في التخطيط الاستراتيجي لتعزيز القدرات والمهارات المحلية. كما أن الحِراك الاحتجاجي يشكل فرصة للمحاسبة وكبح جماح أي فساد أو إهدار للمال العام، حيث سيعلم الكل أن صوت الشباب يقظٌ وقادر على المساءلة والفضح.
لا ينبغي أن ننزعج من صوتنا المطالب بالحق، فهو في جوهره تعبير عن غيرة وطنية وإدراك أن الوطن ملك للجميع. علينا ألا نكرر المآسي التي عاشها المغرب في الماضي خاصة في الريف بسبب سوء الفهم والتقدير؛ فنحن جميعاً أبناء هذا الوطن الواحد، وإن اختلفت رؤانا حول سبل بنائه، تبقى الغيرة عليه وحب الانتماء إلى هذه الأرض هو المحرك الأساسي لشبابناـ أبناء هذا الوطن المتعدد والمتجذر في التاريخ.
هل يمكن للإمكانات الطبيعية والسياحية التي يتوفر عليها الإقليم أن تشكل عوامل مساعدة في تحقيق تنمية بجماعات الإقليم؟
يتمتع إقليم أزيلال بثروة طبيعية وسياحية وثقافية استثنائية لا تقدر بثمن: من شلالات أوزود، مروراً بجبال الأطلس الشامخة، ووصولاً إلى بحيرات وسدود خلابة، فضلاً عن غنى التراث الأمازيغي المادي واللامادي. غير أن هذه الإمكانات الهائلة ظلت حبيسة منطق السياحة الموسمية واقتصار الاستفادة منها على الاستغلال المفرط للثروات الطبيعية، دون أن تتحول إلى رافعة اقتصادية شاملة.
إذا أردنا تحقيق تنمية عادلة ومتوازنة ومستدامة، فعلينا أن نبتكر نموذجاً يربط بين هذه الموارد الثمينة وبين اقتصاد محلي منتج ومبتكر وقادر على التجدد. من بين ما يقوم عليه:
إعادة تأهيل وتثمين الاقتصاد التقليدي (الصناعات اليدوية، الفلاحة الجبلية، المنتوجات الطبيعية) عبر إدماجه في سلاسل إنتاج وقيمة حديثة وتسويقه رقميا.
إنشاء قطب صناعي إقليمي قوي ومتميز، يستند إلى الميزات وإمكانات المنطقة ويخلق قيمة مضافة محلياً ووطنا.
الاستثمار في مجتمع المعرفة والذكاء الاصطناعي عبر تمكين الشباب من تكوين وتدريب رقمي متقدم يسمح لهم بابتكار حلول رقمية في مجالات مثل السياحة البيئية، وتسويق المنتجات، واستثمار الطاقات المتجددة.
تعزيز العدالة الرقمية وجعل الحق في الإنترنت عالي السرعة حقاً تنموياً أساسياً، لأن العزلة الرقمية ليست سوى صورة أخرى عن العزلة الاقتصادية والاقصاء الاجتماعي. لا يمكن لشاب في أزيلال أن يدخل غمار الاقتصاد العالمي الجديد إذا كان محرومًا من أبسط شروط الاتصال الرقمي.
وبالتوازي مع ذلك، لا يغيب عنا أن البعد الاقتصادي وحده لا يكفي لتحقيق النجاح دون وجود قدرة وإرادة سياسية فعّالة في التدبير والتخطيط المجالي، ودور فاعل للمجتمع المدني المحلي في مسارات صياغة ومتابعة وترافق المشاريع تنفيذها على أرض الواقع. فكل فاعل، له دور تكميلي في بناء هذه التنمية المحلية المنشودة، حيث يصبح التكامل والانسجام بينهم هو الضامن الحقيقي للنجاح.



