– خالد أبورقية –
يشكل ملف تدبير النفايات أحد أبرز التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، فمع استمرار البشرية في اتباع أنماط إنتاج واستهلاك غير مستدامة، تتفاقم الأزمة البيئية وتتزايد الأخطار التي تهدد كوكب الأرض وموارده الطبيعية. وفي ظل هذا الواقع، تتوالى الدعوات الدولية والمبادرات الوطنية الرامية إلى إحداث تحول جذري في كيفية التعامل مع النفايات، من منظور يتجاوز مجرد التخلص منها إلى اعتماد مبادئ الاقتصاد الدائري والاستدامة.
الأمم المتحدة في اليوم العالمي للقضاء على الهدر.. دعوة عاجلة للتحول
في سياق تزايد الأعباء البيئية، تُطلق الأمم المتحدة سنوياً رسائل تحذيرية وتدعو إلى عمل فوري وملموس. تشير البيانات الأممية إلى أن الأسر والشركات الصغيرة ومقدمي الخدمات العامة ينتجون ما يقارب 2.1 إلى 2.3 مليار طن من النفايات الصلبة سنوياً، تشمل مواد التغليف، الأجهزة الإلكترونية، البلاستيك، والمواد الغذائية. ورغم هذه الكميات الهائلة، تظل أنظمة إدارة النفايات العالمية عاجزة عن استيعابها، حيث يفتقر حوالي 2.7 مليار شخص لخدمة جمع النفايات، ولا تتم معالجة سوى 61-62% فقط من النفايات المنتجة في منشآت منظمة. ” وهذا يستدعي منّا التحرك السريع لمواجهة أزمة النفايات”، تؤكد الأمم المتحدة.
ولهذا السبب اعتمدت الأمم المتحدة يوم 30 مارس من كل سنة يوما للقضاء على الهدر وبشكل خاص لمواجهة تحدي النفايات، فالأرقام تشير إلى أننا “إذا وضعنا النفايات الصلبة البلدية الناتجة خلال عام واحد في حاويات شحن قياسية ورتبناها واحدة تلو الأخرى، فسيبلغ طولها ما يعادل الالتفاف حول الكرة الأرضية 25 مرة”.
وركزت الرسالة الأممية هذا العام على قطاع الأزياء والمنسوجات لتأكيد الحاجة إلى تقليل النفايات وتعزيز الحلول الدائرية فيه. فالزيادة المتسارعة في إنتاج واستهلاك الملابس، والتي تضاعفت بين عامي 2000 و2015، تفوق بكثير الجهود المبذولة للاستدامة، مما يخلف آثاراً بيئية واقتصادية واجتماعية جسيمة، لا سيما في دول الجنوب العالمي. وتشير التقديرات إلى أن العالم ينتج حوالي 92 مليون طن من النفايات النسيجية سنوياً، أي ما يعادل شاحنة قمامة مليئة بالملابس تُحرق أو تُودع في مكبات النفايات كل ثانية.
للتصدي لهذا التحدي، تؤكد الأمم المتحدة على ضرورة إحداث تحول منهجي يرتكز على تبني ممارسات إنتاج واستهلاك مستدامة وحلول دائرية، مع اعتبار نهج “صفر نفايات” حجر الزاوية لهذا التحول. وفي هذا الإطار، يقع على عاتق المستهلكين دور أساسي من خلال تبني أساليب إعادة الاستخدام، الإصلاح، وإعادة التدوير، والابتعاد عن الموضة السريعة، والاستثمار في الملابس المتينة وعالية الجودة، مما يساهم في الحفاظ على الموارد وتعزيز مبادئ الاستدامة.
أما على مستوى القطاع الخاص، فالمسؤولية كبيرة في تصميم منتجات متينة وقابلة للإصلاح وإعادة التدوير، واعتماد نماذج أعمال دائرية تسهم في الحد من التلوث الكيميائي، وتقليل الإنتاج، واستخدام مواد مستدامة، والمساعدة في استعادة التنوع البيولوجي.
الإعلان الدولي للقضاء على الهدر: قرار أممي لدعم التنمية المستدامة
تتجلى هذه الدعوة العالمية إلى العمل في “قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة A/RES/77/161” الصادر في 14 كانون الأول/ديسمبر 2022، والذي يحمل عنوان “تشجيع مبادرات القضاء على الهدر من أجل النهوض بخطة التنمية المستدامة لعام 2030”. هذا القرار يؤكد التزام المجتمع الدولي بضرورة تعزيز مبادئ الاقتصاد الدائري ومكافحة الهدر كجزء لا يتجزأ من تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
يدعو القرار مختلف الجهات والمتدخلين، بما في ذلك المؤسسات والمنظمات الأممية والدولية والإقليمية، إضافة إلى المجتمع المدني والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية، إلى إحياء اليوم الدولي للقضاء على الهدر بطريقة مناسبة، من خلال تنظيم أنشطة تهدف إلى التوعية بالمبادرات الوطنية ودون الوطنية والإقليمية والمحلية للقضاء على الهدر وبإسهامها في تحقيق التنمية المستدامة.
كما يدعو القرار برنامج الأمم المتحدة للبيئة وموئل الأمم المتحدة إلى تيسير الاحتفال بهذا اليوم، مع التشديد على ضرورة تمويل تكاليف جميع الأنشطة التي قد تنشأ عن تنفيذ هذا القرار من التبرعات. ويأتي هذا التأكيد على الدور التشاركي لجميع الجهات المعنية كإشارة واضحة إلى أن تحقيق أهداف القضاء على الهدر يتطلب جهوداً جماعية ومسؤولية مشتركة.
استراتيجية المغرب: البرنامج الوطني للنفايات المنزلية.. 15 سنة من المحاولة
بادر المغرب إلى إطلاق “البرنامج الوطني للنفايات المنزلية” (PNDM) كاستجابة شاملة لسد الخصاص في تدبير قطاع النفايات المنزلية. يستهدف هذا البرنامج جميع المدن المغربية دون استثناء على مدى 15 عاماً، بهدف تحسين مستوى عيش المواطنين من خلال تدبير بيئي واقتصادي فعال للنفايات.
ويهدف البرنامج على المدى الطويل إلى تعميم جمع ومعالجة النفايات المنزلية، وتقليص المشاكل التي تسببها المطارح القديمة، والعمل على دفن النفايات بطريقة مراقبة ومقننة، فضلاً عن تشجيع تدوير النفايات. وحسب الأهداف الأساسية يروم البرنامج الوطني للنفايات المنزلية الرفع من نسبة جمع النفايات إلى 85% سنة 2016، و90% سنة 2022، وصولاً إلى 100% بحلول 2030.
ويطمح إلى إنجاز مطارح مراقبة للنفايات المنزلية والمماثلة في كل المراكز الحضرية سنة 2022، وإعادة تأهيل كل المطارح غير المراقبة بحلول نفس السنة؛ كما كان يهدف إلى تطوير عملية فرز وتدوير وتثمين النفايات عبر مشاريع نموذجية لرفع مستوى التدوير إلى 20% بحلول سنة 2022، بالإضافة إلى تعميم المخططات المديرية على كل عمالات وأقاليم المملكة، وتحسيس وتكوين الفاعلين الأساسيين في ميدان تدبير النفايات.
وقدرت التكلفة الإجمالية لهذا البرنامج تبلغ 40 مليار درهم، تخصص منها 67% لخدمات الجمع والتنظيف و17% لخلق مطارح مراقبة. وتساهم الجماعات الترابية بـ 73% من مجموع تمويل البرنامج.
وحسب المعطيات التي وفرتها وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، فقد مكن البرنامج 80% من الساكنة من الاستفادة من خدمات شركات خاصة لجمع النفايات المنزلية. وارتفع معدل دفن النفايات من 11% سنة 2007 إلى 35% سنة 2022، بينما بلغ معدل دفن النفايات بالمطارح المراقبة 53% عوض 11% سنة 2008.
وحسب نفس المصدر، بلغ معدل تدوير النفايات 10%. وتمت إعادة تأهيل 24 مطرحاً للنفايات، وبرمجة إنجاز 42 مطرحاً بين 2017 و2022، إضافة إلى برمجة تهيئة 135 مطرحاً عشوائياً بين 2015 و2022.
وسجلت الوزارة أن معدل الجمع الاحترافي بلغ 86% عوض 45% سنة 2008، أما على صعيد المخططات المديرية، أعطيت انطلاقة 67 مخططاً مديرياً إقليمياً لتدبير النفايات المنزلية والمماثلة، وأُنجز من بينها 17 مخططاً. كما سجلت تجربتان لتحويل الطاقة باستخدام الغاز الحيوي بكل من فاس ووجدة، وتجربة للفرز بالرباط.
وتوضح البوابة الوطنية للجماعات الترابية أن الطموحات والتوقعات المستقبلية للبرنامج تشمل تطوير محاور التكوين والتحسيس والتواصل، تطوير تقنيات الفرز-التدوير-التثمين، إنعاش الحكامة الجيدة لتدبير النفايات المنزلية وتطوير آليات الوساطة، تشجيع التعاون بين الجماعات كوسيلة للتخفيف من تكاليف تدبير الخدمة ووسائل المتابعة والمراقبة، وتقييم أداء قطاع النفايات.
تقييم المجلس الأعلى للحسابات: عقود التدبير المفوض بين الإيجابيات والنواقص
شكل التدبير المفوض أحد المرتكزات الرئيسية للبرنامج الوطني للنفايات، لكن التقييمات المرتبطة بهذا المجال تظل محدودة في مستويات مجالية وقطاعية، ولا يتوفر تقييم شامل لهذه العملية وطنيا. ومن بين ما يجده المتابع تقرير المجلس الجهوي للحسابات لجهة الرباط-سلا-القنيطرة، التابع للمجلس الأعلى للحسابات، حول تقييم تنفيذ عقود التدبير المفوض لمرفقي جمع النفايات المنزلية والتنظيف بالجهة. هذا التقرير، الذي غطى 26 عقداً أبرمتها 21 جماعة حتى متم سنة 2019، والذي رسم صورة للمكتسبات المحققة والنواقص المستمرة في هذا النمط من التدبير.
على صعيد الإيجابيات، أشار التقرير إلى أن اعتماد نظام التدبير المفوض أفرز مؤشرات إيجابية، حيث بلغت نسبة “الجمع المهني” للنفايات بالمجال الحضري بالجهة 97%، متجاوزة الهدف الوطني المحدد بـ90% لسنة 2022. كما ساهم في تحديث أسطول الآليات وإدخال خدمات جديدة كالغسل والكنس الميكانيكي، مما أدى إلى تحسين جودة الخدمات مقارنة بالتدبير المباشر.
ومع ذلك، وقف التقرير على مجموعة من الاختلالات التي تؤثر على جودة الخدمات المقدمة من طرف الشركات المتعاقد معها. أولها التأخر في إعداد المخططات المديرية الخمسة لتدبير النفايات المنزلية الخاصة بالعمالات والأقاليم بالجهة، مما يؤثر على تحقيق الأهداف المسطرة، بما في ذلك إعادة تأهيل المطارح غير المراقبة.
كما أشار التقرير إلى أن تكلفة خدمة التدبير المفوض، في الجهة، تمثل نسبة مهمة من نفقات الجماعات، حيث بلغ متوسطها بالجهة 20% من نفقات التسيير، وشهدت ارتفاعاً مطرداً بنسبة 80% بين عامي 2012 و2018، مما أثر على القدرة المالية للجماعات. إضافة إلى ذلك، لم يتم تفعيل آلية التمويل بواسطة الإتاوة المنصوص عليها في القانون رقم 28.00، مما حرم الجماعات من عائدات إضافية وزاد من مساهمتها في الاستثمارات المقررة من 73% إلى 85%.
وعانى تنفيذ العقود من تراكم متأخرات الأداء، التي بلغت حوالي 92 مليون درهم بالجهة حتى نهاية 2018، مما أثر على التزامات الشركات وجودة الخدمات، وأدى إلى نشوء نزاعات قضائية كبدت الجماعات مبالغ مالية مهمة بلغت 39.03 مليون درهم في 7 قضايا.
إضافة إلى ما سلف سجل التقرير نقائص في إعداد العقود وتنفيذها، تمثلت في عدم قيام الجماعات بدراسات قبلية لتحديد الحاجيات، واعتمادها على عقود نموذجية دون تكييفها مع خصوصيات كل جماعة، مما أدى إلى عدم وضوح بعض البنود وتأثير سلبي على التنفيذ. كما لاحظ عدم تضمين العقود لأهداف أداء واضحة ومؤشرات قياس، مما يصعب من عملية التقييم والمراقبة. وأوصى التقرير، بضرورة تفعيل آليات التعاون والتشارك بين الجماعات، وإنفاذ آليات التمويل مثل الإتاوات، وتحسين وضوح العقود وعمليات الرقابة والإشراف.
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي: دعوة لإدماج مبادئ الاقتصاد الدائري
أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، قبل ثلاث سنوات، رأياً بعنوان “إدماج مبادئ الاقتصاد الدائري في مجال معالجة النفايات المنزلية والمياه العادمة” في إطار إحالة ذاتية تحت رقم 2022/59. وجاء ذلك في سياق يطرح إشكالية استدامة النموذج الخطي الحالي للإنتاج والاستهلاك، الذي يقوم أساساً على سلسلة الإنتاج، الاستهلاك، ثم التخلص. هذا النموذج له تداعيات خطيرة على البيئة، مثل استنزاف الموارد الطبيعية والتلوث وتزايد النفايات، يسجل الرأي.
ويقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الاقتصاد الدائري حلا بديلا ونموذجا إيجابيا يتم فيه تصميم المنتجات بشكل يسمح بإعادة استعمالها أو تصنيعها أو تدويرها أو استعادتها، ومن ثم المحافظة عليها ضمن الاقتصاد والاستفادة منها لفترة أطول. وقد ركز المجلس في رأيه على مجالين محددين يكتسيان أهمية بالغة في المغرب وهما: معالجة وإعادة تدوير النفايات المنزلية (العضوية) والمياه العادمة.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة في مجال تدبير النفايات المنزلية في المغرب، إلا أنها لا تزال محدودة. فتدبير النفايات المنزلية يجري بكميات كبيرة دون فرز مسبق، مما يجعل تحويلها أمراً صعباً ومكلفاً وغير مربح للقطاع الخاص. كما أن نسبة كبيرة من النفايات يتم تفريغها في مطارح غير مراقبة.
أما المياه العادمة، فتظل نسبة إعادة استخدامها محدودة للغاية على الرغم من التقدم المحرز في التطهير السائل، حيث لم يتجاوز 17% في القطاع الصناعي، و51% لسقي المساحات الخضراء سنة 2020. ويعود ذلك إلى صعوبات التمويل، والإكراهات العقارية، وغياب قوانين تنظيمية تتعلق بمصير الأوحال المتبقية، وأكد المجلس في هذا السياق على الحاجة الملحة لتحسين مواردها المائية عبر إعادة استخدامها بشكل أمثل، خصوصا أن المغرب يصنف ضمن البلدان ذات الموارد المائية الضعيفة، بمتوسط 650 متر مكعب للفرد.
بناءً على هذا التشخيص، يدعو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى اعتماد استراتيجية وطنية للانتقال نحو الاقتصاد الدائري. ويوصي المجلس باتخاذ تدابير متعددة؛ تبدأ إعداد قانون إطار يتعلق بالاقتصاد الدائري وقانون ضد كل أشكال الهدر، وملاءمة المقتضيات القانونية والتنظيمية لتسهيل الانتقال من الاقتصاد الخطي إلى الدائري.
وأوصى المجلس بإحداث هيئة للتنسيق على مستوى القطاع الحكومي المكلف بالاستثمار والالتقائية وتقييم السياسات العمومية، مع ضرورة تسريع إرساء وتفعيل مبدأ المسؤولية الموسعة للمنتجين بحيث يتحملون مسؤولية تنظيم وتمويل عمليات جمع ومعالجة النفايات المترتبة عن أنشطتهم، مع منع أنواع معينة من الملوثات الخطرة وفرض ضرائب على الملوثات غير القابلة للتدوير.
وأوصى الرأي، بجعل دعم الدولة للمجالات الترابية والقطاعات مشروطاً بانخراطها في رفع طموح النهوض بالاقتصاد الدائري. أما بالنسبة للنفايات المنزلية، فوصى بمراجعة عقود التدبير المفوض لإدماج عنصر التثمين بدلاً من التخزين والطمر أو الإحراق، وتحديد أهداف ملزمة للجماعات لتقليص التفريغ في المطارح.
ودعا الرأي بمراجعة الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بالمياه العادمة، والتي تفضل الاستثمار في تعبئة الموارد المائية كالسدود أو تحلية مياه البحر، بإدراج خيار إعادة استعمال الماء أو تخزين مياه الأمطار. مع تحديد أهداف وطنية وترابية ملزمة لإعادة استخدام المياه العادمة، وإدراج إعادة استخدام المياه العادمة ضمن المهام المستقبلية للشركات الجهوية متعددة الخدمات.