-محمد لغريب-
يبدو أن السؤال “كيف خرجات دوارتكم؟ ” الذي طالما ردده المغاربة وطرحوه على أصدقائهم وأهلهم مباشرة بعد نحر أضحية العيد، قد فقد معناه في أيامنا الأخيرة بسبب غلاء الأسعار، وغدا هذا السؤال أقل تداولا اليوم بسبب التحولات الجارية داخل المجتمع المغربي، وإجراءات حكومة عزيز أخنوش ومخططاتها التي مست الأمن الغذائي للمغاربة، الذين عانوا خلال السنوات الخمس الماضية معاناة كبيرة مع الغلاء المستفحل في أسعار المواد الغذائية الأساسية. حيث بات تأمين الحاجيات اليومية للأسر معركة يومية في ظل موجات متتالية من ارتفاع الأسعار التي طالت كل شيء، من الخضر والفواكه إلى اللحوم والزيوت والحبوب.
وبينما تتذرع الحكومة بالتقلبات الدولية (حرب أوكرانيا) والظروف المناخية والتضخم، ظل المواطن البسيط وحده من يدفع فاتورة هذا الارتفاع المتواصل، في غياب أي إجراءات ملموسة تخفف من وطأة الأزمة على معيشته.
كانت الدوارة إلى زمن قريب رمزا للتباهي والسخرية المطبوعة بالهزل بين الجيران والأحباب يوم العيد.
فـ”بولفاف” بالنسبة للكثير من المغاربة لم يكن مجرد أسياخ من الكبد الملفوفة بالشحمة والأدخنة المتطايرة بل هو العيد نفسه، فهو يختزل كل الطقوس في هذه اللحظة الجميلة التي تشتهي فيها الأنفس ما لذ وطاب من شواء في جو عائلي، حيث يلتف الجميع حول المائدة وتوزع كؤوس الشاي وتسود رائحة البصل والكبد و”بولفاف” التي تضفي سحرا على تلك اللحظة.
لكن يبدو أن هذا الطقس العريق بدأ يفقد وهجه شيئا فشيئا. فاليوم، لم يعد أحد يسأل عن “كيف خرجات دوارتكم؟”، ولا من يتباهى بحجمها أو بلونها أو حتى بسرعة من أنجزها أولا، وتحولت “الدوارات” إلى صور عابرة على “ستوريات” الإنستغرام والفيسبوك، وتكلفت مواقع التواصل الاجتماعي بالإجابة عن هذا السؤال.
وطبعا، لن تنشر صور “الدوارات” الصغيرة الحجم مخافة تقلص عدد “اللايكات”، والإحساس بالنقص والضعف والحرج، وسائر تلك الأحاسيس الزائفة التي فرضتها علينا مواقع التواصل الاجتماعي اليوم.
وفي خضم هذا، سينسى المغاربة أمر “الدوارة” إلى الأبد، تماما كما نسيت الكثير من المكاسب في مجالات الصحة، والتعليم، والشغل، طالما أن حكومة الباطرونا لا تكترث لوجع المغاربة ولا لمعاناتهم اليومية مع الغلاء، والسعي المضني خلف كسرة خبز. فهي منشغلة أكثر بمسائل الإعداد والاستعداد للفوز بحكومة “المونديال”.
في زمن الفيسبوك والتيك توك، أصبح الكثير من المغاربة يستغلون مناسبة العيد لتحويلها إلى عرض بصري عبر منصات التواصل الاجتماعي، يغرق فيها المتابعون بصور الأضاحي وموائد الطعام الفاخرة و”سيلفيات” الذبح والشواء.
هذا التحول القيمي أفرغ الشعيرة من بعدها الديني والإنساني العميق، وقيمها القائمة على التضامن والإحسان، ليختزلها في مظاهر شكلية واستعراضات إلكترونية لا تعكس جوهر المناسبة ولا روحها الأصيلة.. وهي سلوكيات تعكس، في جانب منها، حالة القطيعة التدريجية مع روح المناسبات الدينية، وتحولها إلى مناسبات ولحظات للتباهي، تختفي فيها بساطة الاحتفال التي عاش عليها أجدادنا وآباؤنا في الماضي، حيث الاهتمام بالجيران الذين لم يقتنوا أضحية العيد وتبادل الأسياخ فيما ببينهم ومنح “المكلوفة” للأصهار وغيرها من الطقوس المصاحبة لهذه المناسبة.
لكن في الواقع، إذا تمعنا قليلا فيما نشر على مواقع التواصل الاجتماعي بخصوص ارتفاع ثمن “الدوارة”، سنكتشف أن الأمر مبالغ فيه بشكل كبير، فقد تحولت الدوارة، في ظرف أيام، من مجرد أكلة شعبية متواضعة إلى مادة دسمة للعناوين الرنانة و”ترند”، وصورت المغاربة متهافتين عليها تهافت العطشى على الماء في صحراء قاحلة.
والمثير للتساؤل أكثر، أن حجم الضجة جعل البعض يشك في وجود جهة ما لها مصلحة في تحويل انتباه الرأي العام عن قضايا أكثر أهمية، كأزمة الصحة، وارتفاع أسعار المحروقات، وفضائح التعليم العالي التي تفجرت مؤخرا، إلى نقاش عقيم حول سعر “الدوارة” في الأسواق ومحلات القصابة.
فبقدرة قادر، أصبح ثمن “الكرشة” و”المصارن” حديث السوشيال ميديا الأول، بدل الحديث عن فواتير الماء والكهرباء الملتهبة أو ضعف البنيات الصحية والتعليمية ومختلف القضايا المصيرية والتحديات التي تواجه بلدنا اليوم في محيط إقليمي ودولي متغير على كافة الأصعدة، يقتضي منا الاستعداد بجد للتأقلم مع هذه المتغيرات.
فتحريا بسيطا على أرض الواقع يظهر أن الضجة التي اشتعلت حول ثمن “الدوارة” في مواقع التواصل الاجتماعي ووصل صداها إلى قبة البرلمان، والتي صورت الأمر كأن الأسعار فاقت حدود المعقول، لا تعكس حقيقة السوق. إذ أن ثمنها ارتفع بشكل طفيف في بعض المدن مع اقتراب العيد، وفي مناطق أخرى ظل مستقرا حيث يتراوح ما بين 50 و60 درهما للكيلوغرام الواحد بالنسبة لأحشاء الأغنام والماعز، وهو ما أكدته شهادات العديد من الجزارين في تصريحاتهم لوسائل الإعلام.
لكن وهذا حالنا اليوم الذي أصبحنا فيه أسرى للتكنولوجيا، فشبكات التواصل الاجتماعي صنعت من التفاصيل العادية فقاعات وضجيج أفرغ المناسبات من معانيها ورسم قيم زائفة ومائعة، ليجد المواطن البسيط نفسه محاصرا بين أزمات حقيقية ونقاشات افتراضية فارغة، لا يملك أمامها إلا أن يبتسم ويسخر من زمن “الدوارة” الذي يبدو أنه لم يذهب فعلا، بل استقر على جدران العالم الافتراضي، وليتحول السؤال من كيف خرجات دوارتكم؟ إلى “شحال طلعات عليكم دوارتكم”؟