بقلم الطالب الباحث : حسن تزوضى
في إطار زيارة ميدانية قام بها ماسترا “دراسات في الثرات المادي واللامادي، والثرات والمجتمع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية السلطان مولاي سليمان ببي ملال، تحت شعار “الثرات والتنمية المستدامة ” اصطدمنا بصمت جدران القصبة التي كانت ذات زمن شاهدة على تاريخ مشحون بالمقاومة والكرامة، “قصبة موحى أوحمو الزياني” التي لم يتبقَّ منها سوى أطلال متآكلة، لم تكن بالنسبة إلينا مجرد أثر من الماضي، بل مرآة مشروخة تعكس هشاشة الحاضر وتنبئ عن مستقبل قد لا يجد ما يتذكره.
موحى أوحمو، الرجل الذي قاد مقاومة شرسة ضد الاستعمار الفرنسي في قلب الأطلس، لم يُهزم في الميدان، لكن هُزم اليوم في مخيلة الدولة الحديثة التي لم تحفظ لذاكرته إلا الفتات. كيف يمكن أن تُهمل القصبة التي احتضنت أسرار الكفاح، وتُترك للمطر والشمس والريح، وكأنّ التاريخ الذي كُتب فيها لم يعد يعني أحدًا؟ هل نحن أمام سياسة للنسيان، أم أمام إخفاق جماعي في فهم القيمة الرمزية لما هو مادي؟
التراث كما تعلّمنا رفقة اساتذتنا الأفاضل ليس فقط ما نملكه من حجارة، بل ما نحمله من معنى، فحين تنهار القصبات لا تسقط الجدران فحسب، بل تتهاوى معها طبقات من المعنى، ومسارات من الذاكرة، وتتشقق روابط الوجدان الجمعي. وما يبدو كمجرد إهمال تقني، هو في جوهره تمزيق لصلة الوصل بين الأجيال، بين من قاوم ومن يعيش في ظلال النسيان.
في هذا السياق، تفرض علينا زيارة الأطلس سؤالًا وجوديًا: كيف تصوغ الدولة مركزها دون أن تدمر هوامشها؟ وكيف تُبنى سرديات الأمة بينما تُمحى معالم من صنعوا لحظات مجدها غير الرسمي؟ الأطلس، هذا الفضاء الجبلي الذي لطالما شكّل ملاذًا للكرامة وللسرديات غير المنقحة، يبدو اليوم وكأنه يُعاقب على ذاكرته الصلبة. إذ يُقصى من الاستثمارات، يُختزل في فولكلور مناسباتي، وتُنسى رموزه التي لا تنسجم مع لغة السلطة المركزية.
إن هذا الواقع يكشف عن مفارقة مرّة: فالتراث الذي يُفترض أن يكون مصدر فخر وهوية، يتحوّل بفعل السياسات الإقصائية إلى عبء لا ترغب المؤسسات في تحمّله. بل إن الدولة، في كثير من الأحيان، تمارس نوعًا من العنف الرمزي حين تُقرّر ما يستحق الحفظ وما يستحق النسيان، أي حين تتحوّل إلى منظم لذاكرة انتقائية. وهنا تظهر معضلة فلسفية خطيرة: من يملك حق تحديد ما يُعتبر تراثًا؟ وهل التراث هو ما تصادق عليه الجهات الرسمية، أم ما تحمله الجماعات في وجدانها العميق، حتى ولو في صمتها؟
قصبة موحى أوحمو، بصفتها شاهدًا على مقاومة الأطلس، ليست معلمة فقط، بل موقف، شهادة، وربما تحدٍّ. إنها تدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالزمن: هل نحن أبناء المستقبل فقط، أم ورثة لماضٍ ينبغي إنصافه؟ وهل يمكن الحديث عن تنمية في منطقة تُمحى رموزها دون أن تترك وراءها غير غبار النسيان؟
إننا بحاجة إلى إعادة تعريف علاقتنا بالتراث، ليس باعتباره موردًا سياحيًا أو مادة قابلة للاستثمار، بل كأفق للمعنى، كمساحة لمساءلة ذواتنا، وهوياتنا، وسردياتنا الكبرى. فحين يُهمَّش التراث المادي، فإننا لا نفقد مجرد مبانٍ، بل نخسر القدرة على التذكر، والتأمل، والاعتراف.
من هنا، لا ينبغي أن نكتفي بتوثيق ما ينهار، بل علينا أن نُعيد مساءلة الجميع، وخصوصا الجهات المعنية التي تسمح لهذا الانهيار أن يحدث دون ترميمه. فكل قصبة تُهمل، وكل ذاكرة تُقصى، هي خسارة جماعية لا تُعوض، ونفي ضمني لإمكانية بناء مستقبل يستند إلى جذور صلبة.