حسن الصعيب: المغرب يعيش لحظة سياسية أشبه بـ “عهد الحماية” (حوار)
- أجرى الحوار: خالد أبورقية
- يحل فاتح ماي هذه السنة في سياق عالمي ووطني خاص، على المستوى العالمي نتابع إعادة ترتيب وتوزيع تلعب فيها الشركات دورا محوريا، وعلى المستوى الوطني، نلاحظ “بورجوازية طفيلية” نفذت إلى مواقع السلطة، كيف تقرأون أداء النقابات في ظل هذا الوضع؟
في ظل الاستقطاب الرأسمالي، يعرف نظام الشغل أزمة حقيقية تتسم بهجوم الرأسمال على المكتسبات الاجتماعية السابقة، حيث فرض الهشاشة الاجتماعية وتنصل الدولة من واجب الحماية الاجتماعية لمختلف الأجراء وطنيا وعالميا، وتدهور الحريات النقابية التي بلغت مستوى غير مسبوق في التاريخ، مما يعمق من الفوارق الاجتماعية والمجالية.
يتكثف هذا الاستغلال وهذا الاستبداد مع صعود اليمين واليمين المتطرف في أكثر من عاصمة غربية، والمغرب لا يخرج عن هذه القاعدة، إذ يتجسد تحالف كاثوليكي بين المال والسلطة، وهنا مربض الفرس، فرغم النضالات المريرة التي خاضها الأجراء في مختلف القطاعات، وعمت عددا من المناطق الأكثر تضررا من الهشاشة الاجتماعية ومن غياب الحد الأدنى من الحياة الكريمة ، فقد ظل أداء النقابات متذبذبا بين دعم هذه النضالات وبين فرملتها، لكونها تتعاطى مع وضعية الطبقة العاملة وفق شروط وضعها الذاتي التي تتسم بعدد من الاختلالات البنيوية والتي تحتاج إلى تشخيص مدقق، لا يسمح المجال هنا للتفصيل فيها.
- بتتبع بلاغات النقابات خلال السنة الجارية، وخصوصا المرتبطة بفاتح ماي، نجدها في المجمل تطالب بتنفيذ ما بقي عالقا من اتفاق أبريل 2011، واتفاق أبريل 2022، وهما اتفاقان تم وقيعهما في فترات مد نضالي شعبي أو قطاعي، برأيكم ما هي أوراق الضغط المتاحة أمام النقابات في هذه المرحلة، خصوصا أن كل الأوراق التي لعبتها النقابات لم تعد تخيف الحكومة ويمكن أن نذكر هنا الإضراب العام الأخير؟
في ظل نظام استبدادي، ليس مفاجئا التنصل من الاتفاقيات بين النقابات المركزية والحكومة والباطرونا، وهذا دأبت عليه جميع الحكومات المتعاقبة طيلة عقود مضت. واليوم نشهد نفس السيناريو يتكرر، إذ ظلت عدد من القضايا معلقة منذ اتفاق أبريل 2011، من بينها التلكؤ في ترجمة الدرجة الجديدة بالنسبة للسلم 11، وبناء على ذلك تم حرمان الذين تقاعدوا من الحق في الاستفادة من هذا المطلب بأثر رجعي. وتم الحرمان أيضا من التعويضات بالنسبة للعاملين والعاملات في المجال القروي.
ولم تلتزم الحكومة والاتحاد العام للمقاولات في إطار الاتفاق الثلاثي الأطراف بتنفيذ اتفاق أبريل لسنتي 2022 و2024، الخاص ببلورة ميثاق وطني لمأسسة الحوار الاجتماعي، واحترام دورية الحوار الاجتماعي على المستوى الوطني والترابي، ودورية السنة الاجتماعية واللجان الاجتماعية الجهوية المنصوص عليها في مدونة الشغل، وعدم تقديم التقرير السنوي حول المناخ الاجتماعي. إضافة إلى عدم تفعيل المرصد الوطني للحوار الاجتماعي وأكاديمية التكوين في مجال الشغل والتشغيل.
كان أيضا مقررا إبرام اتفاقيات جماعية بنسبة 100 مقاولة كل سنة، والالتزام بتعويضات للعاملات في المنازل عندما ينقطع تشغيلهن. وفي مجال احترام الحريات النقابية ما يزال المغرب رافضا لتوقيع اتفاقية 87 الدولية، بالإضافة إلى استمرار محاكمة العمال من خلال الفصل 288 من القانون الجنائي، والتأخير في تطبيق مرسوم 1320 نقطة بالنسبة لمن يستفيدون من المعاش بعد انقطاع تشغيلهم منذ 2022. بخصوص الانتخابات المهنية، لم تلتزم الحكومة بضرورة شفافيتها وديمقراطيتها فضلا عن عدم تمكين عدد من الفروع النقابية من وصولات الإيداع القانوني.
كان الإضراب العام الأخير الذي نفذته المركزيتان النقابيتين (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد المغربي للشغل) يستهدف عدم تمرير قانون الإضراب التكبيلي، علما بأن الأغلبية الحكومية في البرلمان هي التي لها اليد الطولي في تمرير ما تشاء من تشريعات تضرب في الجوهر حقوق الطبقة العاملة، لكونها تعبر عن المصالح العليا للبرجوازية والبا طرونا، وتحميهما الدولة التي تمارس العنف المشروع ضد الأجراء والكادحين.
لا يمكن الجزم بأن النقابات فقدت جميع أوراق الضغط، لقد كان العنوان السياسي الذي سيؤطر المرحلة القادمة من الصراع التاريخي بين البرجوازية والطبقة العاملة هو نزع سلاح المقاومة من يد الطبقة العاملة، الذي يتمثل في الحق في الإضراب، وهو في نفس الوقت رهان النقابات، لأن التخلي أو إفراغ سلاح الإضراب من مضمونه الكفاحي سيعرض النقابات المركزية إلى انتكاسة كبيرة، وبالتالي فإن ذلك الإضراب الأخير ما هو إلا جولة أولى في هذا الصراع الذي لن يتوقف، وسيستمر بأشكال وطرق مختلفة، لن تكون النقابات المركزية وحدها فقط من سيقرر في مصير ومآل هذا الصراع التاريخي.
- تطالب النقابات المرتبطة بالمعارضة عموما بإعادة قانون الإضراب إلى طاولة الحوار الاجتماعي، وطرح قانون دمج CNOPS وCNSS للتفاوض، بينما يبدو أن الحكومة ماضية في تنزيل ما تراه، وضمنه قانون النقابات، كيف تفسرون هذا التفاوت بين زمن الفعل النقابي وزمن التشريع حيث يبدو أن النقابات تحاول اللحاق بسباق انطلق مبكرا؟
إن احتفال الطبقة العاملة بفاتح ماي هذه السنة، ستكون له نكهة احتجاجية، لأن ما تحقق من مكاسب ضعيف وضعيف جدا، وحسب شعار “لا شرعية للقوانين ومخططات تكرس الفساد وتستهدف الحريات والمكتسبات وتستغل الأزمات” الذي أقرته المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، في احتفالات فاتح ماي هذه السنة، فإن الضغط سيستمر عبر تعبئة الحاضنة الاجتماعية المتمثلة في قوى اليسار، لأنها ستلعب دورا مساهما في المزيد من التعبئة لأنه لا خيار أمام النقابات المركزية غير الاستمرار في تطوير الأشكال النضالية التي تفضي إلى إسقاط القوانين التراجعية حماية لحقوق الطبقة العاملة وعدم التراجع عن مكاسبها التاريخية.
أما عن التفاوت بين زمن الفعل النقابي وزمن التشريع، فالذي يحدده في نهاية المطاف هو ميزان القوى، ومادام مختلا لصالح القوى الرجعية، فطبيعي أن يكون الفعل النقابي في موقع المقاومة والدفاع، ويتطلب الأمر توفير موارد تعبوية جديدة من أجل الانتقال إلى مرحلة الهجوم، وحتى نتحلى بقدر من الموضوعية، فالنقابات المركزية ليست وحدها معنية بالشأن الاجتماعي، إذ تتقاسم هذه المسؤولية أيضا قوى التغيير السياسي.
- تعرض العمل النقابي إلى التجريف وتحويل مساراته على مدى عقود، وهذا أنتج ما يمكن أن نسميه تجاوزا “بلقنة” للمشهد النقابي، ومن أبرز مظاهره تفضيل العمال والمستخدمين للاحتجاج العفوي والنضال ضمن أشكال تنظيمية قد نسميها بدورها تجاوزا “بدائية” بدل الانتظام في النقابات. هل نحن أمام أزمة ثقة في المؤسسات أم أنه انعكاس لتحولات تعيشها الطبقة العاملة في ذاتها؟
من المعضلات السياسية الكبيرة التي لم تحظ بالتحليل المعمق هو هذا الطور الجديد من الرأسمالية المعولمة الذي يتجسد في النيو ليبرالية، ومن مميزاته النوعية أمران رئيسيان:
- تفكيك الطابع الاجتماعي للدولة، إذ تخلت بشكل صريح عن الحماية الاجتماعية لمختلف الأجراء، سواء في القطاع المهيكل أو غير مهيكل، وأصبح الولوج إلى الخدمات الاجتماعية (التعليم، الصحة، الماء والكهرباء، العدل، الثقافة والرياضة…إلخ) مؤدى عنه، أي تحول إلى سلعة، مما حرم عددا كبيرا من المواطنين من الحد الأدنى من الحياة الكريمة.
- ضرب الطابع المادي للإنتاج بواسطة ثورة المعلوميات والاتصال، تمخض عن ذلك تبوؤ قطاع الخدمات المكانة المركزية في الإنتاج الرأسمالي، وتوارى إلى الخلف القطاع الصناعي الذي كان يشكل الرهان الكبير للنقابات وتجعلها تحتضن جحافل كبيرة من اليد العاملة، حيث فرضت في السابق مكاسب اجتماعية مهمة، أضحت اليوم مجرد ذكرى من الماضي.
نتيجة هذا التحول الكبير، أصبح تشتت الطبقة العاملة وانقسامها إلى فئات مختلفة، هو الواقع الجديد في القرن الواحد والعشرين، وبحكم أن التشكيلة الاجتماعية المغربية يخترقها نمطان من الاقتصاد: اقتصاد عصري تتحكم فيه برجوازية احتكارية محلية وشركات متعددة الجنسيات، واقتصاد غير مهيكل تتحكم فيه باطرونا غير خاضعة لقانون الشغل، وتمثل أزيد من 60% من اليد العاملة، وغير منخرطة في أي عمل نقابي.
هذا الواقع العنيد، وفي ظل تمثيلية نقابية جد ضعيفة واستمرار تدهور الحريات النقابية ومحاولات ضرب الفعل النقابي المكافح من خلال تشجيع الدولة لفبركة نقابات شكلية، كل ذلك يؤدي إلى بلقنة ليس فقط العمل النقابي بل أيضا العمل السياسي.
ولأن الطبيعة لا تحب الفراغ، سيظل الاحتجاج العفوي سيد الموقف، غير أنه محدود ولا يشكل تهديدا لمصالح البرجوازية ما لم يتحول إلى احتجاج منظم وذو أفق سياسي واضح. ولعل استمرار هذه الوضعية على هذا الشكل، ومن أجل تجاوزها لا بد من إعادة قراءة الواقع الاقتصادي المغربي بعدسة التحليل الملموس، الذي يعتمد على ما استجد في علم الاقتصاد السياسي والتراكمات الحاصلة في علوم الاجتماع. يجب التأكيد هنا أن مسؤولية اليسار كبيرة جدا في هذا المضمار، فالشعب يدرك بعفويته عدم ثقته في المؤسسات لكن اليسار، ومن ضمنه المركزيات النقابية المكافحة، مطالب بإعادة ثقة الشعب في هياكله للانخراط فيها، بشرط إشراكه في كافة مبادراته إن أراد التغيير الحقيقي.
- تركزون من خلال كتاباتكم على انتقاد “غياب استراتيجية سياسية” للنقابات اليسارية، ونحن في عصر الهشاشة والليبرالية المتوحشة، كيف يمكن برأيكم بناء استراتيجية تقاوم التبعية للدولة وأجندة أرباب العمل؟
من خلال تحليل آليات النموذج الاقتصادي النيو ليبرالي، نلاحظ تقليص دور الدولة الاجتماعي على مستوى الحماية الاجتماعي إلى نقطة الصفر، وما تقدمه كمبادرات لتقليص الفوارق الاجتماعية والهشاشة الاجتماعية، مثل دعم الفئات المعوزة والتغطية الصحية لمن لا يتوفرون على عمل هو مجرد نشاط يدخل في باب الإحسان، مع العلم أن التضامن العائلي ودعم الجالية المغربية في الخارج لذويهم هما العنصر الحاسم في عدم انتقال عدد كثير من المواطنين إلى عتبة الفقر المطلق. وبحكم خضوع الغالبية العظمى من الشعب للنهب والاستغلال الفاحش لشركات الأدوية والزراعة التجارية والعيادات الخاصة وشركات التأمين والأبناك والمقاولات العقارية وغيرها، ترهن مستقبل الأجيال القادمة لمصير مجهول.
أمام هول هذه الأزمة المركبة، تواجه النقابات المركزية تحديات اجتماعية في غاية الصعوبة والتعقيد، تبدو معها الوسائل المستعملة في الدعاية والتعبئة ضعيفة إن لم أقل غير ذات فائدة كبيرة، من هنا تستدعي هذه الوضعية انقلابا في التصور المستقبلي الذي ينهض على قاعدة الاستيعاب العميق لمفاعيل النيو ليبرالية الاجتماعية والاقتصادية، وبلورة آليات جديدة تستهدف إدماج فئات اجتماعية واسعة غير منقبة والتي تشكل النسبة الغالبة من الطبقة العاملة، فحسب بعض الإحصائيات لا تمثل نسبة تمثيل الطبقة العاملة سوى أقل من 4%، مع العلم أن الطبقة العاملة في ظل الاقتصاد غير مهيكل هي التي تشكل مفتاح الخروج من أزمة العمل النقابي و من أزمة العمل السياسي أيضا. بالإضافة إلى تغيير آليات التعبئة من خلال تنويع أدوات الخطابة التثقيفية والتعليمية والفنية والأدبية وتعميمها على نطاق واسع في الحي والمؤسسة والنقابة والحزب، كل ذلك تحت توجيه أهداف سياسية واضحة تكرس الشفافية والديمقراطية والمشاركة على قدم من المساواة بين المرأة والرجل وبين المركز والمحيط داخل التراب المغربي.
- تطرحون من خلال كتاباتكم ضرورة إعادة قراءة الواقع الجديد للطبقة العاملة ومكونات هويتها الاجتماعية، وفي هذا السياق، ترون أن التحولات التي تعرفها الطبقة العاملة، أنتجت ما تصفونه بـ “الروبوتاريا” والبريتاريا اللتان تتطوران إلى جانب البروليتاريا التي تتجه نحو التفكك، هذه القراءة تعتمد على هشاشة الشغل وتطور وسائل الإنتاج، إن كان بروز فئات جديدة مرتبط دوما دوما بهذين العاملين، ما الجديد فيما تطرحونه؟
الجديد فيما أطرحه هو إدماج ما يسميه بعص علماء الاجتماع الماركسيين بالرأسمالية الرقمية التي أضحت هي النموذج المسيطر على مستوى العلاقات الاجتماعية، من خلال تفكيك الطبقة العاملة وتقسيمها إلى عدة فئات متباينة : الروبوتاريا هي الفئة التي تتوفر على تكوين علمي وتقني وتحتل موقعا مركزيا في الإنتاج الرأسمالي، حيث تخضع لنظام الشغل مركب (تايلوري وفوردي)؛ البروليتاريا ذات تكوين ثقافي متوسط وتشتغل في عدد من قطاعات الإنتاج ، في الصناعة والزراعة والخدمات، إذ تخضع لنظام الشغل الفوردي، بينما البريتاريا هي الطبقة الأكثر عددا والتي تعيش الهشاشة الاجتماعية، وتشتغل في ظل شروط الفقر المدقع ولا تتوفر على حقوق اجتماعية ولا تستطيع الولوج إلى الخدمات الاجتماعية، وتخضع لنظام شغل غير مهيكل أي تقوم بأعمال السخرة الشبيه بالنموذج العبودي.
- شكلت قدرة الطبقة العاملة على التعبئة ووقف الإنتاج أهم أدوات العمل النقابي، لكن العقدين الأخيرين بشكل خاص شهدا تراجعا في تأثير هاتين الأداتين، حيث نلاحظ أن التعبئة من أجل قضايا اجتماعية أو قومية أصبحت أكثر فعالية من خوض معارك على أرضية مطلبية وسياسية تهم الطبقة العاملة بشكل مباشر، ما هو تفسيركم لهذا الأمر؟
في ظل رأسمالية تبعية، يصعب الفصل بين الصراع الطبقي الذي تدور رحاه بين البرجوازية المفترسة والطبقة العملة وعموم الكادحين، وبين الصراع الوطني من أجل إنهاء الاستعمار على الصعيد الوطني والقومي والتحرر من قبضة السيطرة الامبريالية والصهيونية، هذا التداخل بين النضالين هو الذي يفسر كيف تحتل القضية القومية في سياق معركة طوفان الأقصى أهمية بالغة في النضال الوطني المغربي، خصوصا عندما تدرك الجماهير بوعيها العفوي أن هذه السيطرة الامبريالية، عبر أدواتها المالية والنقدية وشركاتها متعددة الجنسيات، هي التي تحظى بالأولوية لاستغلال ثرواتنا واليد العاملة الرخيصة، فضلا عن السخاء الكبير الممنوح للكيان الصهيوني، عبر إبرام اتفاقية ابراهام سنة 2020، الذي اخترق جميع المجالات الزراعية والصناعية والعسكرية والثقافية. يوجد المغرب اليوم بين مفترق الطرق، إذ يعيش لحظة سياسية شبيهة من حيث مضمون السيطرة الأجنبية إبان “عهد الحماية”.