متابعة: محمد لغريب/ عمر طويل
“السيول أتت على كل ما نملك… لم يتبق لنا شيء”، “هذه مشيئة الله”، “منذ ليلة الأمس، ونحن في العراء…” كلمات خرجت متقطعة من قلب محمد بن عيسى، وهو يحاول بصعوبة لملمة ما تبقى من عزيمته وصبره بعد ليلة مريرة عاشها إلى جانب أسرته وأهالي دوار “تكموت”، التابع لجماعة بني عياط بإقليم أزيلال.
سيول جارفة اجتاحت المكان بلا رحمة، واقتلعت معها الأغراس، والحقول، والبيوت الطينية، وكذا أحلام الناس. في لحظة، تحول الدوار الهادئ إلى مشاهد موجعة من الألم والذهول، تلاحقها عدسات الإعلام وفضول الصحافيين، وتتلقفها وسائل التواصل الاجتماعي، في جو يغلفه الحزن، والدهشة، والأسى وأيضا الانتظار.
لم يتبق لي شي
لم يتوقع محمد بن عيسى، ولا أحد من أهالي دوار “تكموت”، أن تكون السيول بهذه القسوة، ولا أن يتحول هدوء المكان إلى فاجعة في رمشة عين. كانوا يظنون أن “أسمسيل” بني منصور، الواد الذي تعايشوا معه لسنوات كجار مألوف، سيظل على حاله كما عهدوه، لكنه في تلك الليلة، استيقظ غاضبا، مزق السكون، وجرف في طريقه كل ما يربطهم بالحياة. الحقول التي تعبوا في زرعها، البيوت التي بنوها بعرقهم، والذكريات التي علقت بجدران الطين بأزقة الدوار.
لم يكن مجرد سيل عابر، بل عاصفة من الحزن، تركت الدوار يتيما، متوشحا بالسواد. تغير كل شيء، الوجوه متعبة، والنظرات شاردة، وكأن الطبيعة صرخت بغضبها دفعة واحدة، فبعثرت الهدوء، وكتبت فصلا جديدا من الألم في ذاكرة “تكموت” ومنها ذاكرة بنعيسى الكادح من أجل أن يبني بيتا يحفظ له كرامته وكرامة أسرته.
“لم يتبق في جيبي سوى مائة درهم”، قالها محمد بنعيسى بصوت تعلوه نبرة ضياع وهو يتأمل دراجته الغارقة في الأوحال، وكأنها آخر ما يربطه بحياة الأمس.
كان يصارع السيول التي اجتاحت بيته من كل الجهات، كوحش هائج لا يرحم.
“صارعت كثيرا من أجل إنقاذ ابني، أما زوجتي فصعدت هي وبقية الصغار فوق “البوطاجي” إلى أن هدأ الوضع، كان بنعيسى يستعيد اللحظة بكل تفاصيلها المرعبة وهو يتحدث لجريدة ملفات تادلة 24، “… كان الماء يرتفع بسرعة، والأرض تهتز تحت قدمي، وكل ما حولي يتحرك، الجدران، الأثاث، الأشجار… وبفضل الله قاومنا أنا وزوجتي جنون السيول الجارفة” يحكي بنعيسى بحزن وهو يخرِج ما بصدره من غضب.
“تركنا لوحدنا نواجه مصيرنا، دون أن يلتفت إلينا أحد”، قالها بنعيسى بصوت مكسور، وعيناه تائهتان في الفراغ، كأنهما تبحثان عن أثر لرحمة تأخرت، كان يتكلم من قاع الجرح، من عمق ليلة قضوها تحت المطر، بين صرخات الأطفال وارتجاف الشيوخ، بلا مأوى ولا طعام ولا غطاء.
“نحن اليوم نعاني، نواجه المجهول”، ثم تابع بصوت خافت، بينما الخيبة تملأ ملامحه. “فقدت أموالي، وثائقي الرسمية، كل ما اذخرته طوال سنوات، تبخر في لحظة… كأن الحياة قررت أن تعيدني إلى الصفر، دون إنذار.”
لم يكن بنعيسى يشتكي فقط، كان يناشد، يصرخ، يغضب من دون صوت “الدوار منكوب بالكامل، نحتاج إلى مساعدة عاجلة، إلى يد تمتد نحونا لا بعدسات تسجل وترحل” التعب نال من جسده، الجوع أضعفه، لكن الألم النفسي كان أعمق من أن يحتمل، وبدا عليه منذ أن وصلنا في الصباح إلى الدوار.
دموع استغاثة
أما رشيدة عشيق الأرملة (60 عاما) وأم لبنت، غدت لا تملك في يدها شيئا سوى وجع لا يوصف. بعينين غارقتين في الدموع وصوت متقطع بالكلمات، عبرت عن حجم المأساة التي حلت بها، وهي التي كانت تتشبث بالحياة رغم ضيق ذات اليد.
“الواد دا ليا كلشي”، (تحدثت لنا بالأمازيغية) هكذا بدأت حديثها لملفات تادلة 24، وهي تتأمل بقايا حوشها الذي كان في يوم من الأيام جزء من ذكرياتها. جرفت السيول الأثاث البسيط، المقتنيات اليومية، مدخراتها القليلة التي جمعتها من سنوات العمل الشاق في البيوت، وحتى المواشي التي كانت تعول عليها لإعالة ابنتها ووالدتها المريضة.
“من بعدما مات راجلي، بقيت بوحدي مع بنتي، كنخدم عند الناس باش نوفر لقمة العيش”، قالتها بنبرة مثقلة بالتعب، وكأنها تحكي قصة آلاف النساء في القرى المنسية. “والدتي حتى هي مريضة، كنت كنصرف عليها بما قدرت، واليوم… حتى هاد القليل ما بقى عندي. ما بقى لا فراش لا رزق، والبهايم اللي كنا معولين عليهم ماتوا كاملين”.
كان صوتها أقوى من السيول، مضيفة “ما جا حتى مسؤول يشوف حالنا… راه تكرفصنا بزاف، والوضعية اللي كنعيشو فيها صعيبة بزاف، كنطلب من المحسنين يعاونونا، الله يجازيهم بخير”.
في عيون رشيدة لم تكن دموع انكسار وخيبة، بل كانت نداءات موجهة للمسؤولين بإقليم أزيلال للتدخل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ورفع الضيم عن دوار تكموت المنكوب.
الكل في قلب المعركة
أمام هول الكارثة، وبعد هدوء العاصفة، شرع أهالي الدوار يحصون الخسائر التي ألحقتها السيول بممتلكاتهم، بعد أن أتلفت المغروسات، وحقول القمح والخضراوات، وتسببت في نفوق عدد من رؤوس الأغنام والدواجن مصدر رزق الأسر.
أعادت السيول الدوار سنوات طويلة إلى الوراء، فقد جرفت أنابيب المياه الصالحة للشرب، وهدمت عددا من البيوت الطينية، عاينت ملفات تادلة 24 خلال زيارتها إلى الدوار بعضها في الوقت الذي عملت فيه آليات لشركة خاصة لإزالة أثار الكارثة وفتح القناة التي امتلأت بالأحجار والركام.
لكن أمام فداحة ما خلفته الكارثة، بدا كل مجهود متواضعا، وكل مبادرة غير كافية. فالدوار يحتاج إلى احتضان إنساني لا يترك الناس يواجهون وحدهم سيول الصمت والخذلان.
“تركنا لوحدنا نواجه مصيرنا لا نعرف ما نعمل ونحن نتابع هول ما حدث” هكذا وصف لنا قريشي إدريس أحد ضحايا فيضانات تكموت بجماعة بني عياط. لكن يضير قريشي أن تقف الجماعة تتفرج في آلام الساكنة دون أن تحرك آلياتها ولو أمام وسائل الإعلام.
في دوار “تكموت”، انخرط الأطفال في معركة إزالة الأوحال واستغلال ما وصلت إليه أيديهم لإزالة أثار الكارثة، لم ينتظروا تعليمات ولا نداءات، بل أمسكوا ما وجدوه أمامهم من أدوات بسيطة، قطع خشب مكسورة ودلاء…، حيث انخرطوا في إزالة الأوحال التي غمرت “مجموعة مدارس العوينة المركزية” ومسجد الدوار، ولم يبالوا بثقل المهمة التي على عاتقهم، كان ذلك بأرواح بريئة ملأها الإصرار.
في دوار تكموت، يتملك الجميعَ شغف عارم بإعادة الحياة إلى الدوار الذي استفاق على وقع السيول الجارفة. وفي الوقت نفسه، تتطلع الأنظار إلى أن ترف جفون المسؤولين بالإقليم، علهم يسارعون إلى إرسال المساعدات للمتضررين.
فلاحون يحصون خسائرهم
في تصريحات مؤثرة من قلب دوار “تكموت”، عبر عدد من السكان عن الألم الكبير الذي خلفته السيول الجارفة، التي باغتت الجميع وجعلتهم يمضون ليلتهم في العراء.
“الفلاحة تضررت بشكل كبير، الشعير، الجلبانة، الزيتون وحتى الأعلاف… كلشي ضاع”، يقول المخير الكبير، أحد أبناء الدوار، وهو يقف أمام بقايا حقل كان بالأمس القريب يعج بالحياة، وعيناه مشبعتان بالخذلان، كأنها تئن من وجع الآلم.
ثم تابع بمرارة: “الماء دخل لينا للدار وتسبب في أضرار كبيرة، ما بقى لا حيطان لا فراش، وحتى البهائم اللي كنا عايشين بيهم ماتوا، نطالب بتعويضات عن الخسائر، نطالب على الأقل بالإنصات”. أما نور الدين، أحد المتضررين، فلم يجد ما يختصر به الوضع سوى كلمة واحدة: “تكرفصنا”.
قالها بنبرة مشبعة بالإحساس بالحكرة، قبل أن يضيف: “الوضع مأساوي، وكلشي ضاع، ما كاين لا أمل لا أفق، نناشد المحسنين والسلطات يتدخلوا، راه الظروف اللي كنعيشوها لا تطاق، كنعيشو وسط الطين، بلا ضوء، بلا ماء، بلا أمل.”
وجوه الناس في “تكموت” لم تعد كما كانت، الحزن سكن الملامح، والتعب غطى الكلام لكن أملهم متواصل أن تمتد إليهم يد كريمة تنتشلهم من ركام الإهمال والنسيان.